معالجة عراقية سطحية لملف حقبة داعش تذكي نزعة الانتقام وتصفية الحسابات

معالجة عراقية سطحية لملف حقبة داعش تذكي نزعة الانتقام وتصفية الحسابات

ضعف أجهزة الدولة العراقية وعدم قدرتها على الإمساك بمختلف الملفات وقيام الميليشيات بملء الفراغ وتدخّلها في اختصاصات تلك الأجهزة، من أبرز العوامل التي تضعف المعالجات العراقية لمخلّفات حقبة تنظيم داعش وتمنع تجاوز تلك الحقبة القاتمة التي لا تزال تبعاتها ماثلة في الحياة اليومية لكثير من سكان المناطق العراقية التي كانت مسرحا رئيسيا لنشاط التنظيم وللحرب الدامية التي دارت ضدّه.

الموصل (العراق) – لم ينجح العراق في تجاوز مخلّفات مرحلة سيطرة تنظيم داعش على ثلث مساحة البلاد بين سنتي 2014 و2017 والحرب الدامية التي دارت ضدّه بكل تفاصيلها الأليمة ومآسيها الغامرة التي ما تزال بقايا منها ماثلة في المعيش اليومي لسكان بعض المناطق العراقية بسبب المعالجات السطحية السقيمة للملفات والقضايا الإنسانية المترتّبة عن تلك الفترة القاتمة.

وبعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على حسم الحرب ضدّ التنظيم لمصلحة القوات العراقية المتعدّدة من جيش وشرطة وبيشمركة كردية وميليشيات رديفة لتلك القوات المدعومة من التحالف الدولي ضد داعش بقيادة الولايات المتّحدة، لا تزال روح الانتقام تسود بين سكان بعض المناطق التي شهدت حلقات دامية من تلك الحرب، كما لا تزال تهمة الانتماء لداعش أو التعاون مع عناصره تستخدم في تصفية حسابات أخرى لا علاقة لها أحيانا بالتنظيم المتشدّد وبالحرب ضده.

وتروي فتاة مقيمة في مخيم للنازحين بشمال العراق لوكالة فرانس برس قصّة حرمانها من العودة إلى منزلها في منطقة الموصل بسبب اتهام السلطات المحلية لها بالارتباط بتنظيم الدولة الإسلامية، مؤكّدة أن التهمة مجرد غطاء لتصفية حسابات حول نزاع قديم يتعلق بملكية أرض.

وعائلة الفتاة نور البالغة من العمر اثنين وعشرين عاما واحدة من عائلات كثيرة نازحة تخشى المنظمات الحقوقية أن تكون ضحية عداوات قديمة أو عمليات ابتزاز مالي، تستخدم فيها تهم الارتباط بداعش.

ففي عام 2007 كانت عائلة نور في نزاع مع شيخ صاحب نفوذ في مسقط رأسها بالقرب من مدينة الموصل مركز محافظة نينوى. وفي ذلك العام، أدى انفجار إلى مقتل قريبة للشيخ، فاتُّهم والد نور على الفور بالمسؤولية، وفق ما تروي الفتاة.

وكان العراق يشهد آنذاك صراعا طائفيا داميا. وتقول الفتاة المقيمة في مخيم حسن شام “استاء منا الشيخ لأننا امتلكنا أرضا ادّعى أنها ملكه”، لكنها تقرّ بأن شقيقها غادر المنزل لينضمّ إلى تنظيم داعش عندما اجتاح محافظة نينوى. وقد قُتل لاحقا في غارة جوية.

وتؤكد في المقابل أن والدها رفض أن يحذو حذوه، فجاء مقاتلو التنظيم إلى منزلهم وقتلوه بدم بارد. ومع ذلك ازداد الضغط على العائلة.

وتضيف “حاول الشيخ تشويه سمعة عائلتنا. في كل مرة تحدث مشكلة في المدينة، كان يوجه اللوم إلى والدي أو أخي”.

وفرت نور مع والدتها وابن أخيها إلى المخيم المذكور، لكن الاتهامات طاردتهم.

وبعد وفاة شقيقها، خضعت عائلة نور لما يُعرف محلّيا بـ”التبرية” (التبرئة) التي تتمثّل في إعلان أحد أقارب المقاتل في تنظيم الدولة الإسلامية التنصل من كل علاقة به وبالتنظيم، فيتم إصدار وثيقة تبرئة رسمية تثبت من الناحية النظرية سلامة موقف العائلة الأمني.

لكن نور تقول إنّ الشيخ نفسه لا يزال يضغط على أسرتها، مضيفة “علمت أنه استولى على جميع ممتلكاتنا. حاولت العودة لكنه يحظى بحماية الحشد الشعبي”، في إشارة إلى الهيكل الذي ضم العشرات من الميليشيات الشيعية التي شاركت في الحرب ضدّ داعش واستعادة السيطرة على الأراضي التي استولى عليها.

وتتابع نور “طلب الشيخ منّا أموالا ليؤمّن عودتنا، لكن ليس لدينا مال، لذا لا يمكننا التفاوض”.

ولا يبدو أنّ قصة نور وعائلتها مجرّد حالة معزولة حيث تتكرّر تفاصيل مشابهة على لسان كثيرين في مخيّم حسن شام.

وتقول بلقيس والي من هيومن رايتس ووتش “نعلم أن هناك ما لا يقل عن المئات من العائلات، والنساء على وجه الخصوص، التي لا يمكنها العودة إلى مناطقها الأصلية بسبب هذه الاتهامات”.

وتضيف “في معظم الأحيان، تستند الاتهامات إلى شائعات يصعب التحقق منها وغالبا ما ترتبط بمشاكل عشائرية أو مشاكل بين العائلات”.

وسرّعت السلطات العراقية خلال الأشهر الأخيرة الخطط المعلنة منذ فترة طويلة لإغلاق مخيمات النزوح في جميع أنحاء العراق حيث لا يزال يعيش 200 ألف شخص. وتشعر المنظمات الدولية بينها منظمة العفو الدولية والمنظمة الدولية للهجرة بالقلق بشأن العائلات النازحة التي تواجه اتهامات تتعلق بصلات مع الجهاديين، وتخشى أن تواجه انتقاما عنيفا إذا أعيدت إلى مناطقها.

ويشير تقرير أعدته ميليساند جينا للمنظمة الدولية للهجرة إلى أن عائلات النازحين يمكنها أن “تثبت عدم صحة الاتهامات عبر لجان لرؤساء عشائر وأعيان سياسيين وعسكريين”. عندها تُسقط السلطات الاتهامات وتصبح العودة ممكنة.

لكن التقرير يذكر أن تهمة الإرهاب يمكن، على العكس، أن تبقى في المناطق التي يتواجد فيها الحشد الشعبي، في حال تقرّب موجهو الاتهامات من الفصائل النافذة.

ولا يزال الحشد رغم انتهاء الحرب على داعش يسجّل حضوره في مناطق سنيّة بشمال وغرب العراق بعيدا عن الموطن الأصلي للمقاتلين الشيعة المشكّلين له والمتحدّر أغلبهم من

مناطق وسط وجنوب العراق، حيث تمسّكت الميليشيات الشيعية بالبقاء في المناطق التي شاركت في استعادتها من التنظيم بذريعة حفظ الأمن، لكنّ المعترضين على بقاء تلك التشكيلات المسلّحة هناك يؤكّدون أن وجودها غير ضروري، وأنّ تشبثها بمناطق مستعادة جزء من حسابات تتجاوز العراق نفسه إلى إيران المجاورة التي توصف بأنّها المالك الأصلي للميليشيات الشيعية في العراق وأنّها تستخدمها في احتلال أراض عراقية مهمة لها في صراع النفوذ الذي تخوضه في البلد.

ويقول رجل مسن في مخيم حسن شام إن أحد جيرانه اتهم ابن أخيه زورا بالانتماء إلى تنظيم الدولة الإسلامية ومحاولة سرقة أرضه.

وفي خيمة أخرى، تعيش سارة التي فضلت استخدام اسم مستعار للتحدث بحرية، مع شقيقتها التي هي أرملة مقاتل سابق في التنظيم.

وسجنت شقيقة سارة لأكثر من عام في شمال العراق بتهمة التعاطف مع عناصر التنظيم. وتقول سارة “أخبرنا رجل من الحشد الشعبي أن لديه اتصالات لإخراجها من السجن، فدفعنا له 180 ألف دولار، لكن دون جدوى”.

وتجلس أختها بهدوء في ركن من أركان الخيمة، وقد ارتدت حجابا لا يظهر سوى عينيها. وأفرج عنها بعد أن أوكلت العائلة محاميا. واليوم، تعجز العائلة عن دفع ديونها.

وتتهم سارة قوات الحشد الشعبي بأخذ 500 دولار نقدا منها كانت حصلت عليها من منظمة غير حكومية، عند نقطة تفتيش أمني.

وتقول “كل هذا سمح لخلاف عائلي قديم بالظهور من جديد”، مضيفة “لدينا مشاكل مع أبناء عمومتنا. وعندما علموا باعتقال شقيقتي، أدلوا بشهادات كاذبة عن العائلة بأكملها”.

وعلى الرغم من أن العائلة قامت أيضا بعملية “التبرية”، إلا أن العودة إلى منزلها لا تزال غير آمنة. وتقول والي إن السلطات العراقية أخفقت في تأسيس عملية مصالحة فعالة وعادلة للسماح لمثل هذه العائلات بالعودة إلى ديارها. وتضيف “بدلا من ذلك، فضلت الحكومة العراقية سياسة القصاص التي تولد الاضطهاد بدلا من الاندماج، ويتم التعامل مع هذه العائلات كأعداء للدولة”.

العرب