أثناء زيارته الأخيرة إلى لبنان والعراق في 10/8/2015، قال وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، إن بلاده تريد علاقات طيبة مع الجيران، مُسترسلاً بالقول الشهير «إذا جارك بخير أنت بخير». طبعاً هذا الكلام جاء بعد توقيع طهران اتفاقها النووي مع الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن + ألمانيا في يوليو/تموز الماضي، والجميع كان على دراية أن الوقود الذي استخدمته إيران لتعزيز مكانتها التفاوضية، كان تصعيداً عسكرياً للاقتتال في بعض الدول العربية، منها اليمن والعراق وسوريا، بواسطة ميليشيات طائفية تابعة لها في هذه الدول، بينما دفعت شعوب هذه الدول الثمن من دماء أبنائها، قبل الوصول إلى الاتفاق.
يأخذ الرأي العام العربي على المسؤولين الإيرانيين؛ أنهم يتحدثون بشيء، ويفعلون شيئاً آخر. وهذه الانطباعات العربية قديمة وراسخة، لأنها خضعت لتجارب، وأعطيت فُرصاً مُتعددة في سبيل تأكيد العكس، لكن وقائع الممارسات الإيرانية على الأرض أكدت صحتها. فعبارات العداء التي يُعلنها المسؤولون الإيرانيون ضد الإدارة الأمريكية منذ أكثر من 35 عاماً، لم تُصرف مرةً واحدة بثمنٍ إيراني، بل كان يدفع ثمنها المواطنون في أفغانستان، وفي العراق وفي سوريا، وفي لبنان وفلسطين. والتهديدات التي يُطلقها قادة طهران ضد «إسرائيل» غالباً ما استفادت منها هذه الأخيرة في تعبئة سكانها الذين يميلون إلى الاسترخاء، وفي حشد التأييد الدولي لعدوانها المُستمرّ على الشعب الفلسطيني، من دون أن تخسر طهران قطرة دم واحدة من دماء أبنائها في مواجهة أعداء الأُمة.
والطريف في تصريحات «ظريف» البيروتية، إنها ترافقت مع عدوان مُتفلِّت من كل القيود، تنفذُهُ جماعة الحوثي وقوات الرئيس السابق علي عبدالله صالح والميليشيات ضد المؤسسات الشرعية في اليمن، وطالت أضراره الفادحة أبناء الشعب اليمني كافة، في انقلابٍ موصوف، شكَّل تهديداً لأمن المنطقة برُمّتها – وفقاً لتوصيف قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2216. ولا يستطيع طريف نكران الواقعة العدوانية الإيرانية على اليمن، لأن الخارجية الإيرانية اعترفت علناً بملكية الباخرة «جيهان» التي تمَّ توقيفها في ميناء عدن، بتاريخ 6/2/2013، وكانت مُحمَّلة بكميات كبيرة جداً من الأسلحة المتطورة، بهدف تسليمها للميليشيات الحوثية، وهذه الميليشيات تعمل بكل عزم لتقويض الاستقرار الذي أرسته المبادرة الخليجية في اليمن، من خلال انتخابات ديمقراطية فاز فيها الرئيس عبد ربه محفوظ هادي، وبمراقبة دولية واسعة.
وسياسة حسن الجوار التي استفاق عليها قادة طهران بعد توقيع الاتفاق النووي، تحتاج كي تتجسَّد وقائع ملموسة، إلى إعادة نظر شاملة بركائز السياسة الخارجية لإيران، لأن المُقاربات التي اعتمدتها إيران، عن طريق سياسة تصدير الثورة، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة – ولاسيما العربية منها – هي التي خلقت التوتر، وفاقمت الامتعاض الشعبي العربي من التصرفات الإيرانية، رغم محاولة المسؤولين الرسميين في هذه الدول العربية التخفيف من حدة العداء إلى الدرجات القصوى.
لم يَكُن النسيج الاجتماعي في الدول العربية يعرف التفرقة الطائفية، أو المذهبية، خاصة بين الفرق الإسلامية التي حضنها الدين الحنيف وتعايشت بالألفة عبر مئات السنين. فقد دخلت طهران على خط التمييز بين المكونات الإسلامية، وأحدثت شرخاً واسعاً يحتاج دملُهُ وقتاً طويلاً. وجنَّدت ميليشيات طائفية مسلحة في العديد من الدول العربية وربطت قيادة هذه الميليشيات بمأمورية الحرس الثوري الإيراني، ما هدد الانتظام العام في هذه الدول، وأربك المُؤسسات الشرعية فيها، وادخلها في حروبٍ طاحنة.
والرأي العام العربي الذي تفاجأ بالتصريحات الإيرانية عن «حفظ الجار» مصدوم مُسبقاً من القساوة المُنقطعة النظير التي يتعامل بها ساسة طهران مع مأساة العصر السورية.
ومن التساؤلات المشروعة المُتداولة في الأوساط الشعبية العربية عن مدى صدقية الرغبة الإيرانية في حفظ الجيرة: كيف يمكن لقادة طهران التوفيق بين هذه الرغبة المُعلنة، ومواقفهم التي أدخلت الشرخ إلى صفوف النسيج الاجتماعي بين المواطنين في أكثر من دولة عربية؟ خصوصاً في البحرين، عن طريق التدخُل السافر في الشؤون الداخلية لهذه الدول، بينما لم تقُم أي من الدول العربية المُجاورة لإيران بأي خطوة تُهدد الأمن الإيراني الداخلي، رُغم وجود أصدقاء – إذا لم نقُل أقرباء – لمجموعة هذه الدول في إيران.
تبدو الدول العربية المعنية بالتواصل العربي – الإيراني حريصةٌ إلى أبعد الحدود على علاقات حسن الجوار مع طهران، ولكن استقرار حسن الجوار لا يمكن أن يحصل بمجهود طرفٍ واحد. وظلمُ ذوي القربى اشدُّ إيلاماً من ظُلمِ البعيد.
المثل الشعبي القديم؛ يقول الجار للجار، ولكن كيف هو الحال؛ إذا الجارُ جَار؟
د.ناصر زيدان
صحيفة الخليج