انتهت فترة ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من دون توجيه ضربة عسكرية إلى إيران، بعد أسابيع من التوتر العالي المتبادل بينها وبين إسرائيل التي تمنت أن تتم هذه الضربة.
وتزامن ذلك مع الذكرى الأولى لاغتيال الجنرال قاسم سليماني، وسبقها بحوالي شهر اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده واتهام إسرائيل بالوقوف خلفه.
وتعود جذور التوتر الأولى للفترة التي انسحب فيها ترامب من الاتفاق النووي مع إيران الموقع عام 2015، ولكن الشهر الأخير في ولاية ترامب هو الذي شهد التوتر الأكبر، فقد بدأ ذلك باتهام إيران بأنها مصدر صواريخ قصفت بها السفارة الأمريكية في بغداد، ترافق ذلك مع عبور غواصة نووية وطرادات محملة بصواريخ متوجهة إلى مضيق هرمز لأول مرة، والمساهمة الإسرائيلية كانت بعبور غواصة إسرائيلية قناة السويس واقترابها من الخليج العربي، في ما قرر ترمب في بداية العام الحالي عدم سحب حاملة الطائرات الأمريكية من منطقة الخليج.
وجاء التصعيد الإيراني بالإعلان عن مناورات عسكرية للطائرات المسيرة والمضادات الجوية، تتبعها أخرى للقوات البحرية ولاحقاً ثالثة للقوات البرية، كما أعلنت عن نيتها إنتاج اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، مع سلسلة تصريحات تؤكد عدم سكوت إيران في حال تعرضها لأي اعتداء باعتبار أن “أن الردّ سيكون حتمياً وحازماً”، وقد يطول الدول المتعاونة مع أمريكا في المنطقة.
ومع تولي جوزيف بايدن الرئاسة في أمريكا يبدو أنَّه قلل مستوى التوتر قليلاً خاصةً مع ترجيحات عودته للاتفاق النووي- كانت قد رفضته إسرائيل وعدة دول في الخليج- مع الدخول في مفاوضات جديدة أو مع بعض التعديلات عليه، رغم ذلك كان أول اتصالات الإدارة الأمريكية الحالية بإسرائيل يهدف إلى بحث الملف الإيراني مع الحديث عن أول زيارة عسكرية أمريكية في عهد بايدن لمناقشة تزايد التوتر في المنطقة و”الخطر الإيراني” كما وصف.
“معارك بين الحروب”
ويرى المركز الفلسطيني للشؤون الإسرائيلية (مدار) أن عدم توجيه ضربة عسكرية أمريكية لإيران لم يكن يعني أن الجبهة طوال الوقت كانت هادئة، فإسرائيل كانت تمارس “معاركها بين الحروب” في سوريا لاستهداف التواجد الإيراني فيها وأيضاً لقطع طرق إمداد حزب الله، باعتبار أنَّ سوريا الآن هي المكان الوحيد الممكن فيه توجيه ضربة عسكرية لقوات إيرانية.
ويتابع (مدار) في تقرير جديد “لقد تكثفت هذه الهجمات في الأسابيع الماضية الأخيرة، لكن هذه الهجمات بالأساس قد تعيق التمركز الإيراني في سوريا وتسبب له خسائر بشرية وتقطع طرق الإمداد لحزب الله ولكنها غير مؤثرة في مشروعها النووي، وهي في أساسها استمرار لاستراتيجية المعركة بين الحرب وحتى اغتيال فخري زاده هو ضربة سياسية أكثر منها عملية، ومهما كبر حجمه ضمن المشروع النووي فهذا الاغتيال لم يكن الأول والمشروع النووي لم يتوقف، كما أن تفجير منشأة نتانز هو خطوة تكتيكية تساهم في إبطاء إنتاج أجهزة الطرد المركزي”، منوها إلى أن هذه الحرب الباردة التي برزت ضد المشروع النووي الإيراني وإيران هي الهجمات السيبرانية المتبادلة التي استهدفت بنى تحتية في إسرائيل وإيران، والتي قد تتوسع لتشمل المنشآت النووية الإيرانية، وتكون بديلاً عن توجيه ضربة عسكرية على الأقل في الفترة الحالية، وباعتبار أنَّ هذه الحرب الباردة غير مباشرة، ولا يمكن الجزم بمن يقف خلفها تماماً، وأقل مخاطرة.
وقد تحول الحيز السيراني إلى حيز عسكري بشكل رسمي على الأقل في العام 2015 عندما عبرت استراتيجيا الجيش الإسرائيلي بشكلٍ تجديدي عن أنَّ العالم الافتراضي في شبكة الإنترنت هو جبهة قتالية بكل ما تعني الكلمة من معان ودلالات، وتتضمن عمليات هجومية ودفاعية وجمع معلومات، وإضافته للجبهات القتالية بجانب البر والبحر والجو.
وهو ما أشار إليه أيضاً رئيس قائد جيش الاحتلال الأسبق غابي أشكنازي، فاعتبر المجال السيبراني “منطقة قتال استراتيجية وعملانية لإسرائيل”، وما أكد عليه رئيس الأركان الحالي أفيف كوخافي بقوله إن “مجال القتال الأساس الذي تغير هذا العام 2020 هو الحرب السيبرانية التي نفذنا فيها حملات هجومية كثيرة.
الإنذار المبكرّ
وحسب التقرير تلعب التقنيات السيبرانية في السياق الأمني الإسرائيلي دوراً في محددات الأمن القومي التقليدية، الردع والإنذار المبكر والانتصار العملاني الحاسم، وفي هذا السياق قد تلعب دوراً بارزاً في عملية الردع من أجل تعطيل المشروع النووي الإيراني حتى لو كان ذلك مرحلياً، والذي قد يساهم في تعطيله مؤقتاً حتى الوصول إلى اتفاق نووي جديد، من دون أن يبلغ المشروع مرحلةً متقدمة، ويساهم ذلك في إتاحة أفضلية في موقع التفاوض لأمريكا والدول الأوروبية، إلى جانب ذلك تشكل عاملاً في الإنذار المبكر يتركز في الأساس بالتجسس ومعرفة أين يصل المشروع النووي.
التقنيات السيبرانية تلعب في السياق الأمني الإسرائيلي دوراً في محددات الأمن القومي التقليدية
وقد ظهرت تجليات ذلك بشكل مبكر وتمثلت في الهجوم الإلكتروني بفيروس يدعى “ستاكسنت” في أيلول 2010 والذي أصاب آلاف الحواسيب في منشآت ومصانع نووية إيرانية من بينها مفاعل بوشهر ومنشأة نتانز التي تعرضت مؤخراً لانفجار- وهناك ترجيحات بكونه ناجما عن هجوم إلكتروني- وإلى جانب ذلك تتعرض لـ50000 هجوم إلكتروني سنوي يستهدف بنيتها التحتية الإلكترونية، لكن القليل منها هجمات كبيرة.
وقد تركزت الهجمات الإلكترونية مؤخراً في معظمها على البنية التحتية الإيرانية، ففي فبراير/ شباط 2020 تعرضت البنية التحتية للإنترنت في إيران إلى هجمات سيبرانية أدت إلى تعطيل 25% من الإنترنت الإيراني واعتبرت أكبر هجوم استهدف البنية التحتية في إيران.
وفي مايو/ أيار تعرض ميناء “الشهيد رجائي” في بندر عباس في إيران إلى هجوم إلكتروني أدى إلى تعطل في عمله وتشويشات على الحركة في الميناء نتيجة هجوم إلكتروني رجح أن يكون إسرائيلياً كرد على اختراق أنظمة المياه والصرف الصحي في إسرائيل.
ولاحقاً في يوليو/ تموز تعرضت منشأة نتانز النووية التي تعمل على إنتاج أجهزة الطرد المركزي، إلى انفجار كبير أدى إلى خسائر مادية كبيرة، ورغم عدم حسم سبب الانفجار إلا أنَّ هناك إشارات ترجح كونه حصل نتيجة هجوم إلكتروني على المنشأة. كما أعلنت هيئة تكنولوجيا المعلومات الإيرانية في اكتوبر/ تشرين الأول عن تعرض مؤسستين حكوميتين للاختراق، من بينها موانئ، دون الكشف عن حجم الاختراق ونتائجه، ولاحقاً كشف عن تعرض إيران لهجومين مماثلين خلال شهر أيلول، ويبدو أن المستهدف مرةً أخرى كان ميناء بندر عباس ورداً على محاولة أخرى لاختراق شبكة المياه الإسرائيلية.
السايبر كأداة لـ”التوازن”
وبرأي “مدار” يرتبط ما سبق بالهجمات السيبرانية التي تعرضت لها إيران، لكن السايبر كأداة للمواجهة يعطي مجالاً للتوازن، فقد شنت إيران عدة هجمات سيبرانية. وفي أبريل/ نيسان أعلن عن تعرض منشآت مائية إسرائيلية لهجوم إلكتروني يهدف لرفع نسبة الكلور في المياه – اعتبر الهجوم الإلكتروني على ميناء بندر عباس رداً على هذا الاستهداف، في ما تكررت محاولات اختراق شبكة المياه مرةً أخرى في أيار.
وفي يوليو/ تموز أعلن عن استهداف منشآت للمياه في الجليل والقدس، ليكون هذا هو الاستهداف الثالث لشبكة المياه خلال ثلاثة أشهر، في ما اعتبر رئيس هيئة السايبر الإسرائيلي هذه الاستهدافات نقطة تحول في الحرب السيبرانية بين إيران وإسرائيل. كما تعرضت عشرات المواقع الإسرائيلية في أيار إلى هجوم مُخترقين (هاكرز) إيرانيين، وصف في حينه بالمحدود وغير المحكم ويهدف إلى إثارة البلبلة.
أما في يوليو/ تموز فقد تعرض 150 خادماً مرتبطاً بالسكك الحديدية في إسرائيل إلى هجوم استمر لمدة 10 أيام وأثر على 28 محطة قطار. وفي ديسيمبر/ كانون الأول استهدفت 40 شركة إسرائيلية باختراق إلكتروني، وبعد أيام من الشهر نفسه استهدفت مرافق مدنية وأمنية مثل الصناعات الجوية.
ويتمثل المختلف في الهجمات المتبادلة خلال العام الماضي بالضربات الموجهة إلى شبكة المياه الإسرائيلية وميناء بندر عباس، وهي نقطة تحول في المواجهة السيبرانية باعتبارها خروجاً عن المألوف، فهي تدل على تطور القوة السيبرانية الإيرانية وعدم توقفها عند المستوى الدفاعي، بالإضافة إلى كون الهجمات المتبادلة بدأت باستهداف منشآت حيوية وأكثر أهمية، ما يفتح المجال لمواجهة سيبرانية أكبر وأكثر اتساعا تهدد العديد من القطاعات الحيوية بالتوقف نتيجة اعتمادها على المجال الإلكتروني في عملها.
وسابقاً كان رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قد أشار إلى أنَّ إيران تستهدف إسرائيل بهجمات سيبرانية يومية.
ورغم التقدم السيبراني الإسرائيلي وقدرته العالية، إلاّ أنَّ الهجمات عليها تشكل قلقاً كبيراً وذلك نتيجة كونها حاضنة للعديد من المشاريع المرتبطة في عالم الهايتك مما يجعل الاستهدافات السيبرانية ذات أثر.
ويشير أستاذ العلاقات الدولية يوسي ميكلبرج إلى أنَّ إيران وإسرائيل يختبران بعضهما البعض وبحذر شديد، كما أشارت الاستهدافات الأخيرة إلى قدرة إيران على اختراق الفضاء الإلكتروني الإسرائيلي، وإلى أن هذا الأخير غير محمي بشكل جيد.
ويضيف أنَّ استهداف شبكة المياه ومن ثم الرد باستهداف ميناء بندر عباس يدلان على أنَّ قواعد الردع في الحرب التقليدية تنتقل إلى الفضاء الإلكتروني أيضاً، مع اتساع جبهة الحرب الإلكترونية. وهذا يتوافق مع ما أشار إليه رئيس هيئة السايبر الإسرائيلية يغئال أونا بأن “الشتاء السيبراني قادم وبأسرع من المتوقع”، وبأن الاستهدافات من المحتمل أنَّ تصبح أكثر تعقيداً وضرراً.
مدى فاعلية السايبر
ويزداد خطر الاستهدافات السيبرانية في ظل انتشار فيروس كورونا، ففي ظل انتشاره أصبح العمل والتعليم عن بعد والاعتماد الأساس على شبكة الإنترنت في ذلك، وإنَّ أي استهداف سيبراني سيشكل ضرراً مضاعفاً ويظهر ذلك في أنَّ آخر منشأة استهدفت إلكترونياً كانت جامعة بن غوريون.
أما التقدير الاستراتيجي لإسرائيل 2020-2021 الصادر عن معهد أبحاث الأمن القومي فقد وضع خطر استهداف سيبراني يؤدي إلى شل الاقتصاد ضمن التهديدات المحتملة خلال العام 2021، والقلق الإسرائيلي الأكبر من هذه الاستهدافات هو الموجه إلى البنى التحتية كالماء والكهرباء والقطاعات غير العسكرية باعتبارها أقل تحصيناً وازدياد إمكانية أنَّ تتعرض لهجمات مؤثرة في حال حصول حرب، مما يربك الجبهة الداخلية.
بدوره، قال رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي خلال مشاركته في المؤتمر السنوي لمعهد أبحاث الأمن القومي، إنَّ العودة للاتفاق النووي أمر سيء، وكشف عن إصداره أوامر بوضع خطط عملياتية إضافية ستكون جاهزة خلال العام في حال كان هناك قرار سياسي بشن هجوم على إيران.
وتبدو تصريحات كوخافي أكثر حدة من رئيس الأركان الأسبق بيني غانتس عند توقيع الاتفاق النووي، وحتى الآن ترفض إسرائيل العودة إلى الاتفاق النووي بشكله الحالي، وكانت مساهمةً في التوتر والتصعيد في أيام ترامب الأخيرة وذلك يندرج تحت رغبتها في توجيه ضربة عسكرية لإيران، ولكن ما يبدو حتى الآن أنَّ الانتظار والإعداد هما ما يحكمان الموقف من المشروع النووي.
وحسب “مدار” فسيبقى خيار الهجمات السيبرانية متاحاً وفاعلاً طالما يمكن أنَّ يتم التوجه إليه دون الانجرار إلى حرب كبيرة، كما قد يساهم بشكلٍ كبير في إبطاء المشروع النووي مما يتيح العودة للمفاوضات مع إيران بدلاً من العودة للاتفاق النووي السابق باعتباره غير مرضٍ لإسرائيل حالياً، وعند توقيعه.
وتظهر فاعلية السايبر باعتبار أنَّ الاستراتيجية القائمة حالياً هي “معركة بين الحروب” وبذلك تلعب دوراً في تعطيل أجهزة الرادار، أو في الكشف عن معلومات جديدة تشكّل بنكاً للأهداف خلال هذه المعارك.
القدس العربي