إذا كان إجراء دراسة عن احصائيات الألغام الأرضية والقذائف غير المنفلقة، يقود الباحثين، عادة، الى كمبوديا التي زرع فيها ما بين 4 ملايين و6 ملايين لغم أرضي، خلال الحروب الأهلية بين 1975 و1998، مما تسبب في سقوط أكثر من 64 ألف ضحية، أو الى فيتنام التي تسببت بقايا الألغام الأرضية والمتفجرات التي ألقتها الولايات المتحدة عليها بمقتل 40 ألف شخص، منذ نهاية الحرب، فان العراق بات ينافس البلدين بل ويتغلب عليهما في كونه البلد الأكثر تلوثا في العالم من حيث حجم المنطقة الملغومة، حسب «مرصد الألغام الأرضية والذخائر العنقودية» في سويسرا.
مناطق العراق الملغومة ناتجة عن الحرب العراقية الإيرانية ( 1980-1988)، وحرب الخليج عام 1991، والغزو الانكلو أمريكي عام 2003. حيث ألقت قوات التحالف، بقيادة أمريكا 61 ألف قنبلة عنقودية، تحتوي على حوالي 20 مليون ذخيرة صغيرة على العراق والكويت في عام 1991. أما أثناء غزو العراق عام 2003، فقد استخدمت أمريكا وبريطانيا ما يقرب من 13 ألف ذخيرة عنقودية تحتوي على ما يقدر بنحو 1.8 مليون إلى 2 مليون من الذخائر الصغيرة. كما زرعت أمريكا 120 ألف لغم، منها 28 ألف لغم مضاد للأفراد و 90 لغماً مضاداً للمركبات، بالاضافة الى قنابل كانت قد رمتها القوات الأمريكية أثناء تقدمها البري باتجاه بغداد. وتشمل حقول الألغام حدود العراق مع إيران والمملكة العربية السعودية.
أما احتلال الدولة الإسلامية ( داعش)، لمساحات كبيرة بعد عام 2014، فقد أدى إلى زيادة التلوث بالألغام المرتجلة والعبوات الناسفة المزروعة في مختلف الأماكن المأهولة. وهي نقلة نوعية من ناحية استخدام السلاح المحظور في المدن وحتى داخل البيوت. فألالغام المضادة للأفراد محظورة بموجب معاهدة حظر الألغام التي وقعتها 155 دولة، باستثناء أمريكا، لحظر تصنيع واستخدام الألغام الأرضية، لأنها تهدد حياة المدنيين بعد فترة طويلة من انتهاء الحروب، وكونها لا تفرق بين المدني والعسكري، وأكثر من نصف ضحاياها هم من الأطفال الذين يلتقطونها كلعبة.
تشير تقارير مرصد الألغام الى أرقام مخيفة. تخبرنا أن الأراضي العراقية ملوثة بـ 25 مليون لغم ومليون طن من المقذوفات غير المنفجرة بعد، التي تشكل بمجموعها تهديداً مباشراً لقرابة 2117 تجمعاً مدنياً يعيش فيه قرابة 2.7 مليون مواطن عراقي. وتعتبر محافظتا البصرة والموصل من أكثر المحافظات تلوثا بالألغام والذخائر الحربية، ويقدر مدير التوعية ومساعدة ضحايا الألغام في المؤسسة العامة لشؤون الألغام في إقليم كردستان، في تصريح لموقع (درج) أن عدد ضحايا الألغام في كردستان يزيد عن 13 ألف مواطن. ويكثر عدد الضحايا والمصابين خاصة بين الفلاحين والرعاة. واذا كانت الألغام والقنابل غير المنفلقة سببا للموت الفوري، فانها، ايضا، مدمرة لحياة من يتعرضون للانفجارات فينتهون بإعاقات دائمة ليضافوا، وهنا المأساة، الى قائمة ضحايا الحروب الفعلية. يتراوح عدد مبتوري الأطراف بسبب الألغام في العراق بين 80 و100 ألف شخص.
الأراضي العراقية ملوثة بـ 25 مليون لغم ومليون طن من المقذوفات غير المنفجرة بعد، التي تشكل بمجموعها تهديداً مباشراً لقرابة 2117 تجمعاً مدنياً يعيش فيه قرابة 2.7 مليون مواطن عراقي
وتشكل الخسارة البشرية جانبا من جوانب تهديد حياة البلد المتعددة. من بينها اعاقة التنمية واستحالة استثمار الأراضي والاعمار في حال عدم تطهير الاراضي والاماكن السكنية. وهذا ما يتبدى بوضوح في الجانب الغربي من مدينة الموصل والأنبار وبقية المدن. فعلى الرغم من مضي سنوات على «التحرير» لاتزال عديد الأحياء، حقول موت اكثر منها مناطق صالحة للسكن وعودة الأهالي. وعلى الرغم من توقيع العراق، على اتفاقية أوتاوا الدولية الملزمة له بتنظيف البلد من الألغام المزروعة مع نهاية عام 2018، لكنه فشل في تحقيق ذلك ومدد الفترة عشرة أعوام أخرى، إلى عام 2028.
يبرر المسؤولون الحكوميون فشلهم بقلة الكادر المدرب على تطهير الأراضي الملغومة، وقلة المعدات الكاشفة، وعدم توفر المسح الميداني، وعدم حصولهم على خرائط توضح مكان انتشار حقول الألغام بالاضافة الى تصريحاتهم المستمرة عن قلة التمويل باعتباره السبب الرئيسي. متناسين ان العراق بلد غني بثروته وكفاءاته لو أتيحت فرص التعليم والتدريب، وبامكانه، ان لم تتحكم به حكومة اللصوص والفساد، ان يمد يد المساعدة الى بلدان العالم بدلا من استجداء المعونة المادية والقروض لزيادة محاصصة النهب.
إن كل لغم موجود في الأرض يمكن أن يعني فقدان حياة أو طرف آخر، ما لم يتم العمل على إزالته، والى أن يتحقق ذلك وجوب احاطة الأماكن الملغومة بالاسلاك الشائكة ووضع اشارات التحذير الواضحة والتوعية بوجودها في المدارس والندوات العامة واجهزة الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. والعمل على دعم وزيادة عدد مراكز التأهيل ومساعدة الضحايا الناجين من حوادث المخاطر المتفجرة وأفراد أسرهم. وهو، أحد الركائز الخمس التي تقوم عليها الأعمال المتعلقة بالألغام، والذي يعتبر قطاعا ناقص التمويل في العراق، حسب منظمة دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام (أونماس). ففي 2013، أقر العراق قانون رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة وذوي الاحتياجات الخاصة، والذي حل محل جميع التشريعات الأخرى المتعلقة بالإعاقة إلا أنه لا يضم، على إشارة محددة للناجين من حوادث المخاطر المتفجرة.
إن تطهير الأراضي والأماكن من الالغام والمتفجرات ليس مهمة مستحيلة في بلد غني كالعراق. وخلافا لكارثة اليورانيوم المنضب الذي استخدمته أمريكا وبريطانيا ضد البلد، والذي يمتلك خاصية التسرب بين دقائق التربة ومدة تأثيره السام، تصل مئات السنين، بالامكان تنظيف الأراضي من الالغام الأرضية والمقذوفات غير المنفلقة اذا ما توفرت النية الحقيقية لحماية السكان المعرضين للخطر، وتوفير الدعم لهم. الدعم الذين هم بأشد الحاجة إليه لتخفيف معاناتهم الإنسانية. هناك، مثلا، بريطانيا التي أعلنت اخيرا تنظيف جزيرة الفولكلاند. ولأثبات عدم استحالة المهمة وتفكيك الادعاء بعدم قدرة العراق على تمويل منظمات عراقية ودولية متخصصة بتطهير الأراضي، تكفينا المقارنة ما بين سرقة مليارات الدولارات من قبل المتحاصصين في النظام، والمبلغ المطلوب لتمويل برنامج التطهير والذي تبلغ قيمته 265 مليون دولار، حسب آخر تصريح لدائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام. وهو مبلغ سيدفع تكلفته، بحياتهم، أشخاص لم يكونوا قد ولدوا بعد.
هيفاء زنكنه
القدس العربي