زيارة البابا التاريخية للعراق ترمّم معنويات مسيحييه ولا تُصلح ما انكسر من أوضاعهم

زيارة البابا التاريخية للعراق ترمّم معنويات مسيحييه ولا تُصلح ما انكسر من أوضاعهم

زيارة البابا فرنسيس للعراق ستكون بحقّ زيارة تاريخية، ليس فقط لأنّها أول زيارة يقوم به بابا للبلد الذي يوجد فيه مسقط رأس النبي إبراهيم، بل أيضا لأنّها تأتي بعد سنوات قاتمة تراجعت فيها قيم التسامح والتعايش وارتفعت خلالها نوازع التشدّد الديني والعرقي والطائفي واشتدّ فيها العنف الذي انعكس بشكل مباشر على أوضاع المكوّن المسيحي، الذي يحتاج إلى دعم البابا ومساندته الروحية، لكنّه يحتاج أكثر إلى إجراءات عملية لحمايته وتحسين أوضاعه.

بغداد – سيكون البابا فرنسيس حين يزور العراق في مارس القادم أمام محاولة إحياء جذوة التسامح والأخوّة الإنسانية في بلد سلك طريقا عكسية وسار باطّراد نحو التشدّد الديني والتعصّب الطائفي اللذين انعكسا بوضوح على أوضاع مواطنيه بمن فيهم أتباع الديانة المسيحية المسرورين بشكل استثنائي بالزيارة التي ستحمل لهم سندا روحيا ومعنويا، دون أن يكون لها دور عملي في ترميم ما انكسر من أوضاعهم.

وقال البابا فرنسيس إنه مصمم على زيارة العراق في أوائل مارس القادم بصفته “راعي المعذبين”، لتكون تلك أول رحلة له إلى الخارج منذ ظهور وباء كورونا، وأيضا الأولى التي يقوم بها بابا للبلد الذي يعتبر أحد المهاد الأصلية للديانة المسيحية.

والمعذّبون كُثْر في العراق ويشكّلون غالبية الشعب من مختلف الطوائف والأعراق والأديان، بسبب التجارب المريرة التي مرّ بها البلد من حصار تسعينات القرن الماضي إلى الغزو الأميركي، وصولا إلى تجربة الحكم الحالية التي ابتُلي بها بلدهم وتقودها بشكل رئيسي أحزاب دينية، لم تُفشل الدولة فقط وتتسبّب في تراجعها على مختلف المستويات، ولكنّها أعادت تلغيم المجتمع بنوازع الطائفية والتشدّد الديني اللذين ألحقا بمن بقي من مسيحيي العراق “عذابا” استثنائيا، ودفعا غالبيتهم العظمى إلى ترك البلد والتفرّق في أصقاع العالم بحثا عن الأمان والاستقرار المفقودين في بلدهم الأصلي.

مبالغة في الأمل
يحقّق البابا فرنسيس بزيارته العراق أمنية مسيحية مؤجّلة منذ عقود من الزمن وكان البابا الراحل يوحنا بولس الثاني يعتزم تحقيقها في آخر سنة 1999، لكن ذلك لم يتمّ بسبب الحظر الجوي المفروض على البلد آنذاك والذي اشترطت بغداد رفعه قبل استقبال البابا.

وعلى صعيد رمزي ومعنوي يمكن للبابا أن يحقّق ما لا يستطيع تحقيقه في أيّ مكان آخر من العالم، وفق تعبير بطريرك الكلدان الكاثوليك لويس ساكو في تعليقه على الزيارة التي ينوي البابا فرنسيس القيام بها إلى موقع مدينة أور التاريخية قرب مدينة الناصرية جنوبي العراق، والتي وردت في الكتاب المقدّس باعتبارها مسقط رأس النبي إبراهيم لتكون الزيارة بذلك بمثابة “حج إلى عائلة إبراهيم التي تجمع ولا تُبعد”، بحسب تعبير ساكو.

ورغم القيمة الرمزية العالية لزيارة البابا فرنسيس للعراق، إلّا أنّ مِن مسيحيي البلاد مَن يريد أن يكون لها بعد عملي أيضا، على غرار كاهن كنيسة انتقال مريم العذراء في بغداد الأب مارتن بني، الذي عبّر عن أمله في أن تحقق الزيارة تغييرا ملموسا في واقع المسيحيين العراقيين، و”ألّا تكون زيارة إعلامية، وأن يكون لها أثر على القادة (السياسيين)”.

كما عبّر كاهن كنيسة مار أداي في بلدة كرمليس قرب مدينة الموصل بشمال العراق، الرسول ثابت حبيب يوسف عن أمله في أن “تثير زيارة البابا للعراق الكثير من القضايا العالقة التي تقف بوجه عودة النازحين والمهجّرين المسيحيين، ومنع التغيير الديموغرافي والحفاظ على هوية مناطقنا، ومباشرة الإعمار الجاد”، فيما أَمِلَ مدير مدرسة البلدة زهير منصور في أن تساعد الزيارة في تعافي العراق وأن تكون “خطوة أولى لبناء سلام في هذا الوطن الجريح”.

غير أنّ الواقعية تقتضي عدم تحميل الزيارة ما لا تحتمل، فالبابا على الرغم من مكانته العالمية لا يستطيع إحداث أي أثر في الحياة السياسية في العراق بكل مشاكلها وتعقيداتها وتداخل المؤثّرات الإقليمية والدولية فيها. كما أنّه لن يستطيع تغيير واقع المسيحيين في البلاد ووقف نزيف هجرتهم الجماعية منها، فضلا عن استحالة إعادة بعض من هاجروا منهم وترميم الوجود المسيحي هناك، والمهدّد بالانطفاء في حال تواصلت الأوضاع في البلد على ما هي عليه من سوء، وتواصلت نزعات التشدّد الديني والتعصّب الطائفي في التوسّع والانتشار.

وبعد أن كان عدد المسيحيين في العراق، إلى حدود مطلع القرن الحالي يتجاوز المليون ونصف المليون نسمة، أدّت النزاعات المتتالية والاستهداف الذي تعرضوا له في مراحل عدة، إلى تراجع عددهم إلى نحو 400 ألف حاليا وفق بعض التقديرات. فقد دفع الاقتتال الطائفي عقب الغزو الأميركي للعراق عام 2003 العديد من المسيحيين إلى مغادرة البلاد، ثم تفاقمت هجرة الأقليات بصفة عامة مع بدء هجمات تنظيم داعش سنة 2014.

لم يكن ظهور داعش في العراق وإيجاد حواضن له في بعض الأوساط الاجتماعية وخصوصا منها الأكثر فقرا وتهميشا، سوى مظهر لتراجع الدولة المدنية في العراق وتقدّم القوى الدينية إلى واجهة المشهد السياسي وما أحدثته من توتّر في المجتمع كثيرا ما تحوّل إلى صراع دموي سنّي شيعي، وإلى استهداف للأقليات وخصوصا هؤلاء المختلفين في الدين والعقيدة مثل الإيزيديين والمسيحيين.

وخلال سيطرة التنظيم على مناطق العراق، ومن بينها تلك التي تمثّل معاقل أساسية للمسيحيين مثل مدينة الموصل وسهل نينوى على وجه العموم، ازدادت معاناة أبناء المكوّن المسيحي وتضاعفت دوافعهم للهجرة وترك البلد إلى غير رجعة.

وعندما دخل التنظيم مدينة الموصل في صيف سنة 2014 أصدر عناصره ما عرف بـ”وثيقة المصير” التي تنص على أنّ مسيحيي المدينة “نصارى” يتوجّب عليهم إعلان إسلامهم أو مغادرة المدينة، أو إعطائهم “عهد الذمّة” الذي يعني دفع “الجزية” مقابل منحهم الأمان.

وأطلق ذلك موجة نزوح كثيفة للمسيحيين من الموصل التي لطالما شكّلوا جزءا أصيلا من الحياة فيها بكل مظاهرها المعيشية والروحية والثقافية والاقتصادية.

وأثناء عملية النزوح عن المدينة تعرّض عناصر التنظيم للعوائل المسيحية وسلبوا أفرادها متعلّقاتهم الشخصية مثل السيارات والهواتف المحمولة والمصوغ وغيرها من الأمتعة ذات القيمة المادية.

واستكمالا لما بدأه داعش، استغّل الانتهازيون من رجال عشائر متسلّطين ومن مسؤولين فاسدين ومن قادة ميليشيات مسلّحة شاركت في الحرب ضدّ التنظيم، الظرف للاستيلاء على المزيد من ممتلكات المسيحيين التي تركوها عندما فروا للنجاة بحياتهم.

ورغم الخسائر التي لحقت بالمسيحيين العراقيين جرّاء دورة العنف التي أطلقها داعش بعد مرحلة الحرب الطائفية ومرحلة المواجهة ضدّ تنظيم القاعدة، إلّا أن ظاهرة الاعتداء عليهم واستباحة ممتلكاتهم ليست بجديدة بل تعود إلى بداية فترة ما بعد سقوط نظام الرئيس الأسبق صدام حسين.

فعلى مدار السنوات التي أعقبت الغزو الأميركي للعراق لم ينقطع دفق المسيحيين المغادرين للبلد، ولم تنقطع بالتوازي مع ذلك عملية الاستيلاء على منازلهم وممتلكاتهم في بغداد وغيرها من مدن العراق وبلداته حتى أنّ معالم دينية كالأديرة والمدارس القديمة لم تسلم من النهب.

وخلال السنوات الأخيرة طرأ عامل جديد على هذه الظاهرة تمثّل في ضلوع أشخاص نافذين في مؤسّسات الدولة لأغلبهم صلات بأحزاب وميليشيات مسلّحة في عمليات تزوير الأوراق الخاصة بملكية العقارات التابعة للمسيحيين الذين صمدوا في بلدهم ولم يغادروه، وتحويلها لأشخاص آخرين ليست لهم بها أي صلة، وعندما كان يستعصي التزوير لسبب أو لآخر كان يتم اللجوء إلى تهديد ملّاك تلك العقارات بالسلاح أو بتلفيق تهم كيدية لهم لإجبارهم على بيع ممتلكاتهم بمبالغ زهيدة لا تمثّل سوى نسبة ضئيلة من قيمتها الحقيقية.

جرى كلّ ذلك لمسيحيي العراق تحت أنظار الدولة التي ابتعدت كثيرا عن نموذج دولة المواطنة وفَشِل قادتها والقائمون على شؤونها في جعلها دولة القانون والمؤسسات. وبمرارة يوجه البطريرك ساكو لومه إلى الدولة التي “أدارت ظهرها للمكون المسيحي رغم أنّه مكون مسالم وولاؤه كان لها على الدوام”، لكن الحقيقة أنّ الدولة العراقية الحالية لم تكن رحيمة بالغالبية العظمى من أبنائها من مختلف المكوّنات مع تفاوت درجات الظلم الذي لحق بهم.

فصحيح أنّ جميع العراقيين لم يطلهم ما طال أبناء المكوّن المسيحي من قتل وتهجير ونهب لممتلكاتهم واعتداء على مقدّساتهم، لكن الصحيح أيضا أنّ غالبيتهم أصبحت تعيش في فقر وعدم استقرار وقلق على المستقبل، ولهذا السبب أصبح الآلاف من العراقيين يخرجون باستمرار إلى الشارع للاحتجاج والتعبير عن الغضب والمطالبة بالتغيير.

وفي مثل هذه الأجواء العراقية الملبّدة، يقوم البابا بزيارته التاريخية إلى العراق ليقدّم سندا معنويا وروحيا للمسيحيين هناك وليسلّط الضوء بما له من مكانة عالمية على حاجة العراق إلى السلام والاستقرار والعيش المشترك بين مختلف مكوّناته بغض النظر عن أصولهم العرقية وانتماءاتهم الدينية والطائفية، وهو أمل يظل بعيد المنال بسبب الخلل الكبير في الدولة ونظام الحكم فيها الذي صمّم على أساس التقسيم والتفريق والمحاصصة، فكان أن حوّل العراق الغني بموارده الطبيعية والبشرية وبتجاربه الحضارية الفريدة إلى بلد لا يستطاب فيه العيش.

ويظل في حكم المؤكّد أن عدد مسيحيي العراق لن يتزايد بعد زيارة البابا ولن تكون هناك هجرة عكسية لمن غادر منهم البلاد، فما انكسر من أوضاع هذا المكون من المستحيل ترميمه، ما دامت في العراق نخبة تحكم باسم الدين والعرق والطائفة، لا باسم الحق والقانون والمواطَنة، وميليشيات مسلّحة تنازع الدولة سلطاتها وتجري “قوانينها” على المواطنين.

رسالة سلبية قُبيل زيارة البابا
الموصل (العراق) – جاءت مناقشة رسالة جامعية في كلية الآداب بجامعة الموصل يدور محتواها حول فكرة وجود دور للمسيحيين في الغزو الأميركي للعراق، في التوقيت الخطأ قبل أسابيع من الزيارة التي أعلن بابا الفاتيكان عزمه القيام بها للبلاد.

وأثارت رسالة الماجستير التي حملت عنوان “المسيحية الصهيونية الأميركية ودورها في غزو العراق 2003” وتمّت مناقشتها في يناير الماضي، ردود فعل غاضبة من قبل عدد من الشخصيات المسيحية العراقية، رأت أنّها لا تخلو من أخطار على من بقي من مسيحيي العراق والموصل على وجه الخصوص، في بيئة لا تزال هشّة ولم تتخلّص بشكل كامل من مخلّفات حقبة سيطرة تنظيم داعش على المدينة وغيرها من مناطق العراق.

واعتبر البعض أن وراء الرسالة نية مبيّتة لتحميل المسيحيين مسؤولية الغزو الذي ترتّبت عنه الأوضاع السيئة القائمة في البلد بما في ذلك ما لحق بمسيحييه، ما يعني أن هؤلاء يتحمّلون مسؤولية “خطيئة” شاركوا في ارتكابها.

وطالبت النائب المسيحية في البرلمان العراقي ريحان حنا أيوب بتشكيل لجنة تحقيق بحق طالب الماجستير عن رسالته الجامعية. واعتبر جوزيف صليوة النائب المسيحي السابق أنّ استخدام مصطلح “المسيحية الصهيونية” يسيء إلى المسيحيين ويشكّل مخالفة لمبدأ التعايش ومأخذا على جامعة الموصل. وتساءل عن “سبب اتهام مكونات المدينة والصهاينة بدعم داعش وزعزعة الوضع الأمني في العراق”.

كما نفى أيّ دور مسيحي في الحرب التي شنّتها الولايات المتّحدة على العراق، مذكّرا بأنّ المسيحيين كانوا الأكثر تضررا من تلك الحرب.

وتوعّد النائب السابق جامعة الموصل برفع قضيّة ضدّها إذا لم تتمّ مراجعة عنوان الرسالة، مؤكّدا أنّ اعتراضه لا يقتصر على عنوان الرسالة فقط، بل على مضمونها أيضا.

وأضاف صليوة أنّ “الموصل بيئة غير آمنة للمسيحيين مع مصادرة أملاكهم وتخريب بيوتهم، حيث إن نسبة العائدين منهم إلى المدينة لا تتجاوز اثنين في المئة بسبب وجود من يحملون نفس أفكار داعش”.

العرب