يعيش المثلث الأميركي – الإسرائيلي – الفلسطيني أزمات حادة يمكن أن تؤثر على الجهود الرامية لإحياء عملية السلام، والانخراط في مفاوضات جادة بشأنها، فلدى كل ضلع من أضلاع المثلث انشغالات وأولويات، تجعل مسألة العودة إلى التفكير في التسوية عملية صعبة.
شهدت الأشهر الأخيرة من حكم الرئيس الأميركي دونالد ترامب طلاقا بائنا بين واشنطن والفلسطينيين، وبالذات الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي أعلن رسميا ومرارا عدم قبوله مشاركة الولايات المتحدة في الجهد الدولي لإعادة التفاوض مع الإسرائيليين والتوصل إلى اتفاق سلام.
حدث ذلك بعد الدور الأميركي الفاعل في اتفاقات التطبيع بين إسرائيل ودول عربية، وانحياز ترامب الفاضح في دعم إسرائيل سياسيا وعسكريا، والتقييد على السلطة الوطنية ووقف التبرعات المالية والإنسانية الأميركية المباشرة، وتلك التي تتم من خلال مؤسسات الأمم المتحدة.
أعادت الإدارة الأميركية الجديدة العمل بالسياسة الدائمة للولايات المتحدة في ما يتعلق بالعلاقات مع القضية الفلسطينية، والتي استمرت لعقود عديدة. وتمثلت في الاعتماد على الفصل بين الاحتياجات المالية والإنسانية، وبين السياسة الثابتة والدائمة لواشنطن منذ عام 1948 بدعم إسرائيل وتفوقها عسكريا واقتصاديا.
لم يكن ذلك فقط في مجال النزاع وإدارته، لكن أيضا لضمان التفوق الإسرائيلي العسكري في الشرق الأوسط، وتنفيذ الأهداف السياسية والعسكرية في تلك المنطقة.
شغلت السياسة الأميركية نفسها منذ سنوات طويلة في ما أصبح يعرف بالعمل لإنهاء النزاع الذي طال عمره، وكانت تلك الجهود تقود فقط لتسليم الفلسطينيين وآمالهم بالتحرر لقمة سائغة في يد من تسبب في فقدانهم الحرية والاستقلال في بلادهم.
إن قرارات الرئيس جو بايدن بإعادة المساعدات من خلال الأمم المتحدة، ومحاولة افتتاح المكتب الفلسطيني في واشنطن، لا تمثل تغييرا في السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية، لكنها تمثّل تأكيدا لما عانى منه الشعب الفلسطيني منذ زمن.ولا يريد الفلسطينيون المساعدات كبديل عن استقلالهم في بلادهم، وهو ما تدركه القيادات الفلسطينية متعددة الآراء والأهداف والتحالفات، وتعي أن المطلوب من الولايات المتحدة، باعتبارها الوسيط الوحيد المقبول من إسرائيل، وأحد الأطراف الثلاثة في معادلة السلام، هو الدعوة إلى التفاوض للتوصل إلى اتفاق عادل تؤيده الأمم المتحدة ودول العالم بأسرها، فهل أن الولايات المتحدة عازمة على ذلك؟
يشير الواقع إلى أن الطرف الأول من المعادلة غير مهتم في المرحلة الحالية بالتفاوض، على الرغم من التهليل والترحيب بمكالمة هاتفية من الدرجة الرابعة بين موظف للحكومة الأميركية مع رئيس الاستخبارات الفلسطينية، بينما عناوين وهواتف الرئيس الفلسطيني ورئيس الوزراء ووزير الخارجية معروفة للجميع.
وكما أعلن وزير الخارجية الأميركي أن إيران قد تنتظر شهورا وربما سنوات للعودة إلى التفاوض مع الولايات المتحدة، فإن على الفلسطينيين أن يفهموا الرسالة.
هناك مهمات كثيرة وشاقة أمام الرئيس الأميركي، أولاها تحدي وباء كورونا الذي عم العالم، وقد يكون ضحاياه من الأميركيين بالملايين في العام الحالي.
هذا هو التحدي الأكبر لإدارة بايدن، لكنه ليس الوحيد، فهناك أيضا ضرورة عاجلة لتهدئة الوضع الداخلي بعد معركة الجمهوريين والديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إضافة إلى مهمة إعادة الحياة الاقتصادية والمالية وفتح أسواق التوظيف ومعالجة أزمة المهاجرين.
وأعلنت الولايات المتحدة عزمها على تقوية علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي ودعم حلف الناتو، ومحاصرة إيران ومنعها من دخول نادي الدول النووية، ونقل المواجهة الأهم من الخليج العربي والشرق الأوسط إلى غرب آسيا للتصدي لروسيا والصين وكوريا الشمالية.
قد يكون من دوافع عدم اهتمام الولايات المتحدة بالعمل تجاه تحضير تفاوض فلسطيني – إسرائيلي هو تأكدها من أن إسرائيل لا تريدها، وأن الفلسطينيين ليسوا مستعدين لخوض تلك التجربة بعد.
القيادات الفلسطينية تعي أن المطلوب من الولايات المتحدة باعتبارها الوسيط الوحيد المقبول من إسرائيل هو الدعوة للتفاوض للتوصل إلى اتفاق عادل، فهل أن واشنطن عازمة على ذلك؟
لا تريد إسرائيل، وهي الشريك الثاني من معادلة التفاوض، خوض التجربة والاتفاق الوحيد الذي تم بينها والفلسطينيين منذ ثمانية وعشرين عاما مضت لم يتم تنفيذ بنوده بعد.
ويعد الوضع الراهن الذي ساد خلال السنوات الماضية هو الأفضل لإسرائيل، حيث ضمت أراضي شاسعة، وشيدت مستوطنات، وهوّدت القدس، وطردت سكانا، وسجنت عددا كبيرا من الناشطين، وليس هناك خطر كبير عليها من كافة فصائل الفلسطينيين، وتوصلت إلى اتفاقات تطبيع مع دول عربية، وتسمح بتوريد الأموال الخليجية لقطاع غزة، فلماذا تحتاج للتفاوض مع الفلسطينيين؟
الأولوية لإسرائيل في المرحلة الحالية هي إيران وتحالفاتها وتسليحها وتوسعها في سوريا ولبنان واليمن وجديتها في التوصل إلى سلاح ذري.
الفلسطينيون هم الضلع الأخير في المثلث، ويبدو أنهم غير مهتمين أو راغبين أو ربما غير قادرين على دخول حلبة التفاوض مع إسرائيل، فهم في خلاف داخلي عميق مع بعضهم البعض، وهم أيضا في مرحلة الانتخابات الوطنية العامة على أساس الاحتفاظ كل بما يحكم ما تبقى من الأرض الفلسطينية، وما تبقى من الشعب.
كما أن هناك خلافا مبطّنا بين قيادات الفصائل الفلسطينية، بما فيها حركتا فتح وحماس، في انتخاباتهم الداخلية لاختيار أشخاص جدد لتعويض القيادات القديمة.
وهناك اتجاه تحاول من خلاله حماس التوصل إلى اتفاق داخلي بشأنها في قطر وتركيا، ومناقشات واقتراحات عديدة في فتح حول المجلسين الوطني والتشريعي.
وثمة أسئلة مهمة تحتاج الإجابة عنها كي يمكن فهم المسار الذي يمضي فيه الفلسطينيون، مثل من يستبدل من، ومن يمثل اللاجئين، ومن يمثل أهل البلد، وهل سيعلن استقلال قطاع غزة عن السلطة الوطنية في الضفة الغربية، وهل ستوافق حركة حماس على التفاوض مع إسرائيل، وما هو موقف حركة الجهاد، ومن سيرث القيادة في حركة فتح؟
النتيجة هي إمّا رفض لنتائج الانتخابات وبقاء الوضع كما هو قبلها، وهل هناك توافق فلسطيني حول الأهداف والتسوية؟ ليس هناك مكان للتفاوض مع إسرائيل، وتبدو المشكلة الآن في أن الخلاف الفلسطيني الداخلي أعمق وأكبر من المشاكل الإسرائيلية الداخلية وبين الأحزاب، وكلاهما يلجأ إلى الانتخابات من أجل تجديد الشرعية فحسب، ولا توجد في مستقبل المنطقة مساحة أو مكان لمؤتمر تفاوض فلسطيني – إسرائيلي بإشراف أميركي.
مروان كنفاني
العرب