كلما اقترب العالم العربي من تغير نمط العلاقة بين المواطن من جهة وصناع القرار من جهة أخرى، برزت عوامل ثبتت الأسلوب القديم في السيطرة الكاملة على السلطات ثم على السياسة، والبرلمان إن وجد، والصحافة، والإعلام، وحرية التعبير والمعرفة وحرية العمل السياسي. مازال النظام السياسي العربي منغمسا بتطبيقات السيطرة المطلقة على المجتمع واجياله الصاعدة. لكن تجارب المجتمعات مع اللامركزية والتغير والحريات تؤكد بأن السيطرة المطلقة تؤدي إن استمرت لفوضى مطلقة، وأن الفوضى تسير بنا نحو الدولة الفاشلة. لهذا فالسيطرة ثمنها الدولة الفاشلة كما هو حاصل اليوم في دول عربية كثيرة.
في المقابل إن ما يبدو على السطح من أنه سيطرة مطلقة على المجتمع وعلى حقوقه وحركته، وما يبدو أنه تجميع للسلطات في قبضة واحدة يواجه تيارات مضادة له. فهناك تغيرات كبرى تقع في مجالات عدة. من أهم هذه التغيرات أن المواطن نفسه بدأ يرى التناقضات التي تحيط بواقعه ، بل بدأ المواطن ومنذ بدايات الربيع العربي يبحث بصورة أكثر وضوحا عن حكومة مساءلة، بدأ يعي بأن الفساد سيدمر مستقبل أسرته، وبدأ يبحث عن حقوق ثابتة تحميه من التعسف الحكومي أو من تعسف ذوي النفوذ. المواطن تغير، وهو لا يزال يتغير بينما يبحث عن علاقة جديدة مع الدولة والحكومة تمكنه من محاسبة الفساد وتطوير نظام اقتصادي يتميز بالعدالة ونيل حقوق ثابتة.
وبالرغم من الدور الكبير لثورات الربيع العربي في نشر درجات جديدة من الوعي السياسي، إلا أن التغير والوعي ما كان ممكنا أن يقعا لولا تغير المعادلة الاقتصادية، حيث كانت الدولة العربية منذ زمن الاستقلال وما بعده قد استقرت على أن تكون دولة خدمات تؤمن للمواطن الاحتياجات الصحية والتعليمية والمالية بما فيها الاستقرار السياسي والأمني. المعادلة الريعية القديمة تقع جذورها في الدولة العربية المستقلة، فمنذ الاستقلال وهذه الريعية بازدياد في دول لديها النفط وأخرى ريعية لكنها تملك موارد محدودة وتعتمد على دول الخليج في إدامة الريعية.
إن مقدرة الدولة العربية على رفع شعار: «المواطن لا يحتاج من الدولة سوى للمأكل والمشرب والمسكن والعمل، مقابل أن لا يثير الاسئلة ولا يعارض او يناقش او يتساءل او يحتج». بعض الدول العربية أصبحت نموذجا لهذه المعادلة، التي تحجم المجتمع والشعب كما وتضع سقفا لكل فرد وذلك لصالح نخبة صغيرة تحتكر كل شيء.
سقطت المعادلة العربية القديمة، لكن المعادلة الجديدة التي تنادي بالاقتصاد المنتج وبالعدالة والمساواة والحقوق عاجزة حتى الآن عن تثبيت نفسها. وهذا يعني أن قوة الدفع الأساسية مازالت في منطقتنا تسير نحو الدولة الفاشلة
هذه الريعية بدأت تسقط، إن لم تكن قد سقطت في معظم دول العرب. هنا بالتحديد بدأ المواطن يكتشف الخلل، فلا المأكل والمسكن والعمل استمر في الكثير من المجتمعات العربية، كما أن آفة الفساد لم تبق للاقتصاد دورا إنتاجيا. لقد تغير كل شيء، وذلك لأن مصادر الكثير من الدول جفت كما أن اقتصادها لم يعد اقتصادا منتجا، بل تحول لاقتصاد عمولات، وهذا ترتب عليه اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، بينما اصبحت الأغلبية من الطبقات الشعبية.
المعادلة القديمة التي سقطت رافقتها تراجعات واضحة في الخدمات الصحية كما ومستوى التعليم في عموم العالم العربي، بل رافقتها حالة تفكك في القيم التضامنية ضمن المجتمع، بل وقع المجتمع ضحية التشرذم القبلي والطائفي الذي شجعته الدولة بهدف إبعاد المجتمع عن الإصلاح والتضامن. في ظل هذا الوضع أصبح كل جزء من المجتمع يبحث عن تأمين احتياجاته باي طريقة. في مجتمع كهذا تزداد حالات العنف، كما وترتفع حالات التعدي بين الناس.
بنفس الوقت لم تعد هناك دولة معزولة عن البيئة الدولية والإقليمية، فكل دولة عربية محاطة بدول أصغر او أكبر منها، وهي محاطة بنظام عالمي دولي تهيمن عليه دول كبرى، وهي بالتالي تواجه ضغوط اقتصادية لبيع بعض الثروات الوطنية، أو تواجه عجزا ماليا يضطرها لتنازلات اقتصادية وسياسية، كما أنها تزداد اعتمادا على الديون التي سترهق المواطن. العولمة بكل ما فيها من اقتصاد ونظام بنوك وأنظمة معلومات، تضيف المزيد من الضغوط على كاهل الدولة، وتعزز من انكشاف مشكلاتها. فالمعلومات متوفرة، والأفكار والتجارب تنتقل عبر وسائل التواصل، مما يجعل رقابة الدولة على الآراء والحريات والكتب والصحف وغيرها بلا فائدة سوى خلق مزيد من التوتر وجعل مزيد من الناس على قناعة بأن الدولة غير قادرة على اللحاق بالعصر والمنافسة او حتى حماية اقتصاد المستقبل.
ويشكل تورط الدولة بحرب أو اكثر، بمعركة حدودية أو أكثر، مدخلا لمزيد من المخاسر في الموارد، فمع الحرب تبرز على السطح الروح العسكرية، كما ويزداد التفكك بسبب عدم قبول قطاعات من المجتمع بمنطق الحرب، وهذا يضع عددا من الدول العربية أمام صعوبات كبيرة. إن الحروب وحروب الاستنزاف، كما والثورات في مناطق محددة في أطراف البلاد، اضافة للغضب الشعبي، كل هذه عوامل تسهم في إضعاف الدولة.
إن نتيجة ما سبق هو مزيد من القلاقل، ومزيد من خروج المواطن عن سلطة الدولة بسبب أزمة الشرعية وعدم تلبية الحقوق الأساسية، بل وبالطبع سيؤدي كل ذلك للتفكك المجتمعي وهجرة الكفاءات، لكنه سيؤدي لبروز حركات سياسية مدنية ومسلحة أكثر زخما في معارضتها وأكثر قوة في مواقفها. لقد سقطت المعادلة العربية القديمة، لكن المعادلة الجديدة التي تنادي بالاقتصاد المنتج وبالعدالة والمساواة والحقوق عاجزة حتى الآن عن تثبيت نفسها. وهذا يعني أن قوة الدفع الأساسية مازالت في منطقتنا تسير نحو الدولة الفاشلة.
د.شفيق ناظم الغبرا
القدس العربي