يمثل تحريم الموسيقى والغناء وتحليلهما مسألة خلافية بين الفقهاء ورجال الدين المسلمين منذ عقود طويلة من الزمن. إلا أن المسألة لا تزال تثير جدلا صاخبا في مجتمعات إسلامية تغلب عليها التوجهات المتشددة، حيث يتحكم رجال الدين في نمط الحياة والحريات العامة والحقوق، ويواجه فيها الفنانون فتاوى التكفير فتمارس ضدّهم كافة أشكال التضييق والاضطهاد التي تصل حد القتل.
لندن – لا تكاد تغيب فتاوى تحريم الغناء من قبل حلقات متشددة، حتى تعود مجددا مع كل حدث، في وقت يواصل فيه منشدون صوفيون ومطربون كفاحهم ضد الاعتداءات الجسدية والقانونية المسلطة عليهم من قبل متشددين إسلاميين يعتبرونهم مرتدّين وزنادقة.
ولا يقتصر تحريم الغناء على دول معينة، فهو شائع في غالبية الدول الإسلامية بين رجال الدين المتشددين وحلقات ضيقة داخل هذه المجتمعات تتبع فتاوى متزمتة، تتعامل بتناقض غريب وبأوجه متعددة مع الغناء والموسيقى وبشكل يمكن أن يثير الكثير من البلبلة في صفوف المسلمين.
تناقلت تقارير صحافية مؤخرا مطاردة مغنين متجولين في بنغلاديش وغرب البنغال في الهند ووصمهم بالمرتدين والزنادقة، مع أنهم يؤدون نوعا من الإنشاد الصوفي أكثر من كونه غناء عاطفيا.
قالت المغنية البنغالية المشهورة ريتا ديوان، إنها أُجبرت على الاختباء في معظم فترات العام الماضي، بعد أن هددها متعصبون دينيون في الدولة ذات الأغلبية المسلمة بقتلها. واتهموها بتشويه سمعة الإسلام “من خلال الإدلاء بتصريحات بذيئة عن الله” في عرض تمّ تحميله على الإنترنت في يناير الماضي.
وأضافت المغنية لشبكة أخبار “بينار نيوز”، “أنا في ورطة وأواجه تهديدات بالقتل. لكني سأستمر في الغناء لأن هذا ليس مصدر رزقي فحسب، بل جزء من صلاتي أيضا. أشعر بنعم الله وألمسها من خلال أغنياتي، التي تعلمني أيضا ألّا أكره أحدا”.
وفي حين أن المجتمع ليس زاهدا تماما، إلا أن معظم المغنين المتجولين الذين يؤدون غناء “باول” يعيشون على الكفاف ممّا يكسبونه من أدائهم.
وهذا يعني أنه عندما يُقتل أفراد منهم أو يقيّدون بسبب الاعتقاد المزعوم بأن أداءهم معاد للإسلام، فإنهم لا يجنون شيئا.
وقال باكي بالله، ناشط حقوقي في دكا، إن هذا ما يحدث منذ عام 2011، عندما استهدفت موجة التطرف الإسلامي المغنين، وكذلك الكتّاب والمدونين والناشرين والناشطين والمفكرين.
وأضاف “يواجه فنانو هذا النوع من الأغاني بشكل متزايد تهديدات بالقتل وهجمات بسبب صعود الإسلاميين المتشددين منذ ذلك الحين”.
وتشكل هذه الهجمات على المغنين الصوفيين تهديدا لاستمرار هذا النوع الشعبي من الفن في بنغلاديش، والذي تأثر به أدباء وفنانون عالميون واستوحوا منه نصوصهم وألحانهم، مثل الشاعر الهندي الحائز على جائزة نوبل رابندرانات طاغور، والأيقونة الشعبية الأميركية، بوب ديلان، والشاعر الشهير آلان جينسبيرغ، وآخرين.
ووضعت منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة في عام 2005 غناء “باول” على لائحة التراث غير المادي للبشرية، لأجل المحافظة عليه من التلاشي.
وطالبت اليونسكو بـ”الحفاظ على أغاني باول والسياق العام الذي تؤدى فيه، حيث يعتمد بشكل أساسي على الوضع الاجتماعي والاقتصادي لممارسيها، الذين كانوا دائما مجموعة مهمشة”.
وتعّرف اليونسكو إنشاد “باول” بأنه شكل من أشكال الفن التعبدي غير التقليدي، والمتأثر بالهندوسية والبوذية والإسلام الصوفي، لكنه يختلف تماما عنهم.
ووفقا لمنظمة الأمم المتحدة “غناء باول لا يتطابق مع أي دين منظم ولا مع نظام الطبقات أو الآلهة الخاصة أو المعابد أو الأماكن المقدسة. ينصبّ تركيزه على أهمية الجسد المادي للشخص باعتباره المكان الذي يسكن فيه الله”.
لطالما تعرض المنشدون الصوفيون في بنغلادش للهجمات من قبل المتشددين وعُذبوا وقتلوا بعد أن وصفوا بالزنادقة
وأوضح باكي بالله أنه تمّت ملاحقة فناني باول في السنوات الأخيرة في قضايا رفعها ضدهم الأصوليون الدينيون بموجب قانون الأمن الرقمي الصارم في بنغلاديش.
ويعاقب هذا القانون أولئك الذين ينتجون أو يوزعون محتوى “يضرّ بالمشاعر الدينية أو القيم الدينية” أو “يدمر الانسجام الطائفي أو يخلق الاضطرابات أو الفوضى”، بالسجن لمدة 10 سنوات.
وتم توجيه أربع قضايا ضد ديوان، مغنية باول، بموجب قانون الأحوال الشخصية بدعوى الإضرار بالمشاعر الدينية.
ويقبع مغن آخر هو شريع سركر، في السجن لمدة سبعة أشهر بعد أن تمّ القبض عليه بموجب القانون.
وقال سركر “كيف أتوقف عن الغناء وأنا أمارسه منذ طفولتي؟”.
وقالت زوجته، مسمت شيرين أختار، إن الأسرة المكونة من خمسة أفراد تعاني من ضائقة مالية “نحن في ضائقة مع أطفالنا الثلاثة. توقفت عروض باول تقريبا، حيث يخشى الناس الآن تنظيم مثل هذه العروض”، مضيفة أن هذا بدأ قبل تفشي فايروس كورونا.
وقال محمد أشرف إسلام زوج المغنية ديوان إن القانون الذي صدر أمر بعدم السماح بغناء باول.
وأضاف “قبل ذلك، لم يكن من الواجب علينا طلب إذن من الشرطة لتنظيم أي حدث. لكنها الآن مشكلة كبيرة. إن الشرطة لا تريد إعطاء الإذن بتنظيم حفلات باول لأنها تريد تجنب الاضطرابات”.
ونفى عبدالمنان إلياس، سكرتير وزارة الشؤون الثقافية، المزاعم التي تم إرجاعها للدين الإسلامي في منع الغناء. مؤكدا ان الحكومة لم تصدر أي تعليمات لتقييد حفلات غناء باول.
ولا يشفي هذا التفسير غليل أولئك الذين يعتقدون أن مغني باول يهينون الدين الإسلامي من خلال أغانيهم.
وقال محمد آمر الحسن، الذي رفع إحدى القضايا ضد ريتا ديوان، إنه يخطط لمواصلة مساره القانوني “مغنو باول يتكلمون بجرأة عن الله. مثل هذه الممارسات يجب أن تتوقف نهائيا وإلى الأبد. سأرفع المزيد من القضايا لوقف هذا”.
وكان آمر الحسن يشير إلى أداء ديوان، وهو دويتو، لعبت فيه دور ملحدة بينما لعبت المغنية المشاركة لها دور الرب. وشاركت الشخصيتان في نقاش فلسفي من خلال أغنيتهما. وقالت ديوان إنها لم تصدر منها أيّ إهانة للإله أو الدين. مضيفة “خلال عروض باول، لدينا أحيانا مناظرات. أديت دور الملحد لطرح الأسئلة، بينما لعبت المغنية الثانية دور الله للإجابة على التساؤلات. الهدف هو توضيح الأمور والخضوع في النهاية لله. لقد استمرت هذه الممارسة منذ عدة قرون”.
وقال محمد آمر الحسن “رفعت القضية لأنني أعتقد أنه من واجبي كمسلم أن أعترض على التصريحات المرفوضة عن الله”. وعندما سئل عمّا إذا كان من الجيد أن يلعب الممثل دور الشرير أو الشيطان، رفض التعليق.
وقال تابان باجشي، نائب مدير أكاديمية البنغلا، وهو معهد ثقافي تابع لوزارة الثقافة “عند لعب دور – سواء في فيلم أو مسرحية أو أي عرض آخر – غالبا ما يتعين على الفنانين قول أشياء غير سارة، لكن هذا مجرد دور في عمل فني. وعندما يتصرف شخص ما كخائن، فقد يضطرّ إلى الإدلاء بتعليقات مهينة ضد بنغلاديش ووالدها المؤسس الشيخ مجيب الرحمن. لكنها ليست خيانة فعلية للبلاد”.
لا يقتصر التضييق على المغنين الصوفيين في بنغلادش، فبين الحين والآخر، يتعرض مطربون في دول إسلامية إلى التهديد بالقتل والتحريض عليهم من قبل متشددين ورجال دين ودعاة.
ويحتكم المتشددون إلى فتاوى شهيرة تحرم الغناء، أهمها فتوى مفتي السعودية السابق عبدالعزيز بن باز، الذي حرم الغناء معتبرا أصوات المزامير لهوا وهي “من أسباب الضلالة عن سبيل الله والإضلال، فإن القلوب إذا تشبعت بالأغاني مرضت وقست وانحرفت فوقعت في الضلال والإضلال…”.
ويمثل رأي الداعية السوري محمد صالح المنجد، مثالا بارزا على التطرف باعتبار الموسيقى من “المصائب العظيمة التي عمّت في عصرنا”.
وتصل الحال بالداعية إلى درجة متقدمة من التشدد في قوله “دخلت الموسيقى في الكثير من الأجهزة، والهواتف وغيرها، وصار عدد من الناس في سياراتهم يستمعون إلى هذه الأشرطة، وأقبلوا على الطرب، ولا شك أن هذه البلية هي ممّا عمّ واشتهر وانتشر، ولا بد أن يعرف المسلم حكم الله ورسوله في هذه القضية، فإن من مكايد عدو الله ومصائده التي كاد بها لمن قل نصيبه من العلم والعقل والدين وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة…”.
ولم يكن رأي المنجد سابقة، فالمصريون أيضا يستحضرون في كل هجمة من قبل المتشددين على الغناء خُطبا سابقة للداعية المتشدد عبدالحميد كشك الذي كان يجهر بعدائه للغناء في مجالسه التي انتشرت تسجيلاتها على أشرطة الكاسيت في سبعينات القرن الماضي.
ولم يوفر كشك هجومه على سيدة الغناء أم كلثوم واتهمها بالردة والكفر، كما هاجم في خطب مسجلة الفنان عبدالحليم حافظ داعيا حينها إلى موته، فيما وصف المطربة ياسمين الخيام بأوصاف معيبة معتبرا إياها “عارا” على أسرتها.
وتكررت تلك الدعاوى عندما هاجم متشددون حفلا في جامعة سعودية وأقدموا على كسر الآلات الموسيقية للعازفين.
بينما يجمع الأطباء والباحثون على اعتبار الموسيقى علاجا من الأمراض العصبية والنفسية، إلا أنها في الأساس لغة عالمية يفهمها كل الناس، رغم اختلاف الهويات الثقافية والدينية، ويمكن أن تحمل إليهم أجمل المشاعر الإنسانية النبيلة، وتحملهم على الإحساس بالآخرين واحترام اختلافاتهم.
وعرف المسلمون من الآلات الموسيقية عددا كبيرا، حيث قال الباحث الإنجليزي في الموسيقى العربية هنري جورج فارمر، على كثرتها “لم نستطع أن نحصي إلا عشرها”.
ولم يأت الاهتمام بالموسيقى من فراغ، فالدراسات والأبحاث أثبتت أنها أفضل علاج للعديد من الأمراض النفسية والعضوية، لأنها تحيط بالإنسان في كل مكان، وتسري في وجدانه من حيث لا يعلم، فتحرك أحاسيسه وتؤثر على جميع أعضاء جسمه.
واستخدمت الموسيقى على نطاق واسع في العصرين الأموي والعباسي في معالجة الأمراض العصبية والنفسية.
وتوصل العالم العربي أبوبكر الرازي إلى فوائد الموسيقى قبل حوالي ألف سنة وكان أول من عالج مرضاه بها.
وبرع الفيلسوف أبونصر محمد الفارابي أيضا في هذا المجال، وقد استعرض في كتابه الموسيقي المبادئ الفلسفية لقيمة الموسيقى ودورها العلاجي للروح.
واقتفى خطاه ابن سينا الذي خصص ملخصا كاملا عن العلاج بالموسيقى في كتابه الذي يحمل عنوان “الشفاء”، واستخدمها في علاج مرضاه.
ولا تؤثر الموسيقى على الناس عند سماعهم لها فقط، بل تساعد المشاركة في الغناء ضمن مجموعات على تعزيز الجهاز المناعي، وتؤدي إلى خفض نسبة هرمون الإجهاد وتعديل المزاج، إضافة إلى تنظيم دقات القلب، وهذا التأثير يمكن أن يستمرّ على مدى الحياة.
وأصبح العلاج بالموسيقى علما مستقلا بذاته، يُدرس في جامعات متخصصة في العديد من دول العالم، كما تفرعت عنه أكثر من خمسة مناهج علمية وطبية.
وتخطط المدارس في المملكة المتحدة اليوم للاستعانة بالفن من أجل مساعدة الأطفال المضطربين سلوكيا على العودة إلى حياتهم الطبيعية.
وقد تم إدراج تسعة برامج في المدارس يشارك فيها أكثر من عشرة آلاف طفل بهدف مساعدة الأطفال الذين يعانون من مشاكل سلوكية.
العرب