رغم أن الاحتجاجات الشعبية التي يشهدها لبنان منذ أيام ليست بالضرورة فصلاً جديداً يستأنف الانتفاضة الشعبية العارمة التي عمّت البلد ابتداء من 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، فإنها ليست منفصلة عن السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت وراء اندلاع تلك الانتفاضة، بل يبدو أيضاً أنها تحمل مخاطر أكبر قياسا على حال الانسداد التي ترسخت أكثر فأكثر على امتداد الأشهر المنصرمة.
وكان مشهد العراك العنيف على الحليب بمثابة نموذج صارخ واحد على قسوة المعاناة اليومية التي يعيشها السواد الأعظم من اللبنانيين بأشكال مختلفة تتفاقم يوماً بعد آخر، وبلغت أحدث تجلياتها في انهيار سعر صرف العملة الوطنية أمام الدولار إلى مستوى رمزي مخيف تجاوز عشرة آلاف ليرة. صحيح أن أعداد المحتجين ونطاقات انتشارهم الجغرافي ومظاهر تعبيرهم المتمثلة في قطع الطرقات وحرق الإطارات، لا تتماثل مع طرائق انتفاضة خريف 2019، فضلاً عن شعارات في الاحتجاجات الراهنة تشير إلى أنها تنطوي أيضاً على منحى حزبي وبعض تصفيات حساب بين قوى وتنظيمات سياسية. لكن هذه العناصر وسواها لا تحجب الجوهر الفعلي الأهمّ، وهو أحوال البلد الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية، وتهاون الساسة على اختلاف مواقعهم في الرئاسة والحكومة والمجلس النيابي.
كان لافتاً على سبيل المثال الأول أن يتولى البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي طرح مبادرة لتدويل الوضع اللبناني على نحو يتجاوز انقسامات البلد الدينية والطائفية ويسعى إلى استقطاب الشارع العريض، وأن تصيب المبادرة الفريق الرئاسي بحرج بالغ لأنه يزعم الدفاع عن حقوق المسيحيين. ويلفت الأنظار في المقابل أن الرئيس اللبناني ميشيل عون يواصل منذ آب/ أغسطس رفض الموافقة على تشكيل حكومة جديدة، ولكنه في الآن ذاته يعقد اجتماعات مجلس الدفاع والمجالس الاقتصادية والمالية والقضائية حتى باتت أشبه بحكومة بديلة حتى عن حكومة تصريف الأعمال التي هدد رئيسها المستقيل حسان دياب باللجوء إلى «الاعتكاف».
وفي هذا الإطار لم يتردد عون في مطالبة الجيش اللبناني بالتدخل المباشر في وجه تظاهرات الاحتجاج، بذريعة أن «قطع الطرقات يتجاوز التعبير عن الرأي إلى عمل تخريبي منظم يهدف إلى ضرب الاستقرار» وبعد أن استعان مثل غيره بنظريات المؤامرة طالب الأجهزة الأمنية أن تكشف خطط الإساءة إلى لبنان من جانب جهات ومنصات تهدف إلى ضرب النقد ومكانة الدولة المالية. وحتى الساعة أعرب قائد الجيش عن موقف واعٍ يتفادى زج الجيش في وجه حق احتجاج دستوري يمارسه مواطن يتساوى في الجوع والحاجة مع أخيه العسكري، لكن تحميل الساسة مسؤولية التقصير لم يكن خافياً في خطاب العماد جوزيف عون.
ولا يغيب عن تعقيدات المشهد أن لبنان أخذ يتراجع تدريجياً من لائحة اهتمامات العالم بسبب انشغال القوى الإقليمية والدولية بملفات أخرى أكثر إلحاحاً، ويكفي في هذا الصدد أن استعصاء تشكيل الحكومة بما ينطوي عليه من غياب موازنة عام 2021 هو المؤشر الأول الذي لا يغيب عن دفتر شروط الجهات المانحة أو صندوق النقد الدولي قبل اعتماد أي دعم للبلد. وبذلك فإن التطورات المتسارعة تظل حبلى بوقائع ومفاجآت قد تدني لبنان من حافة مخاطر أدهى وأشد.
القدس العربي