يؤمن الكثير من المغاربة بفعالية مقاطعة المستهلك لمنتوجات الشركات الكبرى التي تدفعها في الكثير من الأحيان إلى التفاعل مع مطالبه المتمثلة في خفض أثمانها والرفع من جودتها، خصوصا مع ضغط المؤسسات الوسيطة ودفاعها عن مصالح المواطن ضد جشع الشركات.
الرباط – لجأ المواطن المغربي إلى السلاح الوحيد المتاح أمامه ضد ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية بشكل يفوق قدرته الشرائية، فقرر مقاطعة الشركات الكبرى بعدما خفت صوت النقابات والأحزاب والمؤسسات التي من المفترض أن تدافع عن المستهلك.
واعتبر محمد ياوحي أستاذ الاقتصاد بجامعة ابن زهر أن الأسعار المرتفعة تشكل مصدرا لقلق المجتمع وسخط فئات واسعة منه على الدولة، وتساهم في تقويض السلم الاجتماعي وتشكل خطرا على أمن الدولة الداخلي على المستوى المتوسط والبعيد، خصوصا في ظل تداعيات أزمة كوفيد – 19 التي أثرت بشكل أكبر على الاقتصاد.
وقال ياوحي في تصريح لـ”العرب”، إن “على أصحاب القرار أن يصطفوا إلى جانب الفئات الواسعة من الشعب ضد جشع شركات كبرى لا تهمّها إلا مصالحها التجارية ولا تبالي بأوضاع المجتمع”.
وبالنسبة إلى المستهلك فإن مفهوم المقاطعة يركز على مستويات اجتماعية ونفسية واقتصادية، أي بشكل معنوي بدلا من الموقف القتالي تجاه الشركات التي لا تتمسك بالقيم الأخلاقية المتمثلة في الاهتمام بمتطلبات المستهلك وقدرته الشرائية، لذلك يعتبر أنه يجب أن يدعم المواطنون بعضهم ويساهموا في تشجيع الشركات التي تفعل ذلك بشكل إيجابي.
العالم الافتراضي يتيح إمكانية تعبئة فورية وسريعة للمواطنين ونشر الخبر وفتح نقاشات حول إجراءات المقاطعة
وأطلق ناشطون مغاربة مؤخرا حملة على مواقع التواصل الاجتماعي لمقاطعة الزيوت النباتية بعد غضب المستهلكين من ارتفاع أسعارها وعدم التعاطي الإيجابي والأخلاقي للشركات المنتجة والمستوردة لها مع القدرة الشرائية للمواطن المغربي، وذلك بعد نجاح حملة مقاطعة سابقة جرت قبل ثلاث سنوات ضد محطات توزيع الوقود “أفريقيا” ومياه “سيدي علي” المعدنية ومنتجات شركة ألبان دانون”.
وكبّدت حملة المقاطعة في شهر أبريل من العام الماضي شركة “دانون سنطرال” خسائر مالية كبيرة قدرت بـ43 مليون يورو مقارنة مع أرباح سنة 2017، حيث ساهمت الحملة في تخفيض مبيعات الحليب ومشتقاته بنسبة 35 في المئة خلال الثلاث أشهر الأخيرة من عام 2018، قبل أن تستعيد أسهم الشركة عافيتها في السوق المغربية في الأشهر الأولى من العام الجاري.
ويلجأ المستهلك إلى خيار المقاطعة ضد الشركات الكبرى بسبب ارتفاع الأسعار أو لرداءة منتوجها، لكن الشيء الذي يقلق الشركات هو فقدان الثقة في منتوجها وتوسّع قاعدة المقاطعين لها، خصوصا أن تلك الشركات تخصص ميزانية وخطة تسويقية للوصول إلى المستهلك وتعمل على كل الواجهات لتسويق بضاعتها.
السمعة هي الأهم
تعتبر الشركات أن السمعة هي حجر الزاوية في الحفاظ على بقائها في السوق ولا تريد أن تخسر المستهلك. وقال محمد البقالي كاتب عام المعهد المتوسطي الديمقراطي للتنمية والتكوين في تصريح لـ”العرب”، “لا ترغب أي شركة في مقاطعة مستهلك لمنتوجها حيث أنها تنفق الملايين لوضع اسمها التجاري في مكانة مرموقة ولتسويق منتوجها عبر وسائل الإعلام وإقناع الزبون ودفعه إلى شراء المنتوج”.
وأشار البقالي إلى أنه من المنطقي وبلا شك أن المقاطعة تربك هذه الشركات مهما كان نوعها وسمعتها، وبالتأكيد فإن المقاطعة الاقتصادية ستدفع هذه الشركات إلى مراجعة سياستها والبحث عن بدائل للحفاظ على سمعتها.
ويرى أن المقاطعة الاقتصادية تعتبر سلوكا اجتماعيا وشكلا نضاليا واحتجاجا قويا هدفها حشد الشعب بهدف إرضاخ الشركات الكبرى حتى لا تسحق المستهلك، وفي مرحلة ما تم دفع مجموعة من السياسيين إلى الضغط لسن قوانين تجرّم أفعال النشطاء الداعين إلى المقاطعة، إلا أن الحركة الحقوقية وجمعيات المجتمع المدني والمواقع الاجتماعية لعبت دور الوساطة للوقوف ضد هذه المؤامرة التشريعية المنافية لحرية التعبير والرأي، وأضحى فيسبوك أنجع وسيلة لتقاسم فكرة المقاطعة.
وبالنسبة إلى المواطن فإن نجاح مقاطعة منتجات الألبان أو الزيوت أو غيرهما، يعتمد على رؤية المستهلك للنتيجة المرجوة، فإذا كان الدافع وراء المقاطعة هو استخدام الشركات العاملة في المغرب كمثال على كيفية احتياج الشركات إلى المزيد من المساءلة عن أفعالها، فمن المؤكد أنه حصل على نوع من النجاح، فقد تعاملت كل من شركة سنطرال وماء سيدي علي بنوع من المرونة بعد الضغط بالمقاطعة.
أما إذا كانت خطة المقاطعة تهدف إلى شلّ تلك الشركات، فمن الواضح أنها لم تنجح.
ويعتقد عبدالله سهير رئيس الشبكة المغربية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني “أننا نعيش في مرحلة متقدمة من العولمة حيث النظام النيوليبرالي هو المتحكم في كل شيء من خلال وضع السياسات الاقتصادية وتنفيذها على أساس العرض والطلب”.
وأضاف سهير في تصريح لـ”العرب” أن “السوق المبني على العرض والطلب وفي هذا الإطار تتّحد الشركات الكبرى وتنسّق من أجل الحفاظ على استمرار الأرباح والتحكم في السوق وأكبر مثال عندنا في المغرب شركات المحروقات وتحرير الأسعار منذ حكومة عبدالإله بنكيران السابقة إلى اليوم تضاف إليها اليوم شركات إنتاج زيوت المائدة”.
تشير الأدلة الإحصائية إلى أن أكبر الشركات تفضل استمرار ارتفاع الأرباح والطلب مقابل المعايير الأخلاقية في عمومها، ولا يوجد دافع حقيقي لتغيير جدي على المدى القصير.
ويقول ياوحي إن المقاطعة لن تأتي أكلها في ما يخص زيوت المائدة لأنها مادة تخضع لسيطرة كارتل (اتفاقية بين شركات متنافسة للسيطرة على الأسعار) يفرض قوانينه وأسعاره في غياب رد فعل من طرف البرلمان أو الحكومة أو صندوق المنافسة، وحتى المقاطعة السابقة لم تحقق النتائج المنتظرة والأسعار قد عادت إلى مستواها السابق بعد خمود حملة المقاطعة.
لكن رغم ذلك يعتبر البعض أن منصات التواصل الاجتماعي أصبحت تشكل قوة ضغط في المقاطعة. وقال البقالي إن المقاطعة أصبحت سلاحا ضاغطا باعتبار أن هذه الشركات تحتمي بقدراتها المالية ووسائلها اللوجيستية التي تضغط بها في مواجهة الحكومة والحد من تأثير حملة المقاطعة.
وتنفي الحكومة وقوفها إلى جانب الشركات. وقال رئيس الحكومة سعدالدين العثماني إن “الحكومة لم ولن تكون ضد المواطنين، كما يروّج لذلك البعض، بل الحكومة واعية ومتشبثة بالدفاع عن مصلحة جميع المواطنين وبجميع فئاتهم وأيضا بمصلحة الاقتصاد الوطني”.
ويبدو أن محاولة مقاطعة زيوت المائدة لم تحقق أهدافها خصوصا أنها مادة لديها صلاحية طويلة ولن تتعرض للعطب في حال استمرار المقاطعة، يضاف إلى ذلك أنها مادة أساسية لا يستطيع المواطن الاستغناء عنها لوقت طويل وهو ما تدركه الشركات جيدا، في حين نجحت حملات لمنتجات أخرى. فقبل قبل ثلاثة أعوام توسعت حملة مقاطعة الدجاج في الأسواق المغربية وانتشر هاشتاغ “خليه يقاقي” (اتركوه يصيح) ليجد تفاعلا كبيرا بين المواطنين على خلفية ارتفاع أسعار الدواجن.
دفعت تلك الحملة الفيدرالية المهنية لقطاع الدواجن إلى تبرير ارتفاع الأسعار في بيان بالقول إن “الإضراب الذي شنّه أرباب شاحنات نقل البضائع تسبب في خسائر وخيمة على قطاع الدواجن، حيث ارتفعت نسبة نفوق الدواجن، مما أدى إلى ارتفاع أسعارها في الأسواق المغربية”.
وكشف تقرير للبنك الدولي حول “المغرب في أفق 2040” أن حصة الإنفاق على الغذاء لا تزال في مستوى عالٍ بحوالي 40 في المئة، ما يعكس ضعف القدرة الشرائية للأسر وهيمنة النفقات الملزمة، ولذا فمن المحتمل أنه مع التغيير الكافي في السوق بشكل عام، من المتوقع أن تنخفض الممارسات غير الأخلاقية للشركات الكبرى، لاسيما مع مطالبة المؤسسات الاجتماعية والسياسية والحقوقية بالقيام بدورها في الدفاع عن المستهلك وحقوقه.
تعتبر مراقبة الأسعار من صميم اختصاصات مجلس المنافسة ومنها أسعار المحروقات ومحاربة الاحتكارات أو التواطؤ لرفع الأسعار على حساب المستهلكين، لكن هناك من يرى أن المجلس لم يقم بدوره في كبح جماح الشركات الكبرى. وكنتيجة فمقاطعة المستهلك المغربي لمنتجات الشركات الكبرى هو تعبير عن سخطه على الاحتكارات الكبرى التي لا تحترم المنافسة ولا قانون السوق ولا مصالح البلدان، فهي تخدم فقط مصلحة الحيتان الكبرى التي تفرض الهيمنة على السوق وتحاصر الشركات الصغرى والمستهلكين على حد سواء. وبحسب ياوحي فإن الدولة تتحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية والسياسية أمام تغوّل الاحتكارات الكبرى وضربها للمصلحة العامة عرض الحائط.
وشكّلت مقاطعة الشركات الكبرى على وسائل التواصل الاجتماعي احتجاجا إلكترونيا لا يقلّ خطورة على الاحتجاجات الميدانية التي كانت تؤطرها النقابات والأحزاب كشكل من أشكال الضغط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على الشركات والمؤسسات المالية.
واعتبر البقالي أن المقاطعة أصبحت آلية فعّالة للتعبير عن غضب المواطن من جشع الشركات الكبرى ومن جهة أخرى للتعبير عن فقدان الثقة في الأحزاب السياسية والنقابات باعتبارها صوت المستضعفين، فالاتفاق على المقاطعة من الناحية الاجتماعية يقود إلى تقوية مكونات المجتمع ويبعث رسائل إلى أن المواطن يستطيع مواجهة غطرسة الشركات وتقاعس مؤسسات الدفاع عن المستهلك.
وبالنسبة إلى خبراء الاقتصاد، فإن الارتفاع الكبير في أسعار السلع الأساسية، كما حدث مؤخرا في زيت المائدة، يدلّ على ضعف المؤسسات الموكول لها حماية المواطن من حيث قوانينها المنظمة كمؤسسة الهيئة الوطنية للمنافسة والتي يبقى دورها استشاريا فقط وتقاريرها غير ملزمة للسلطات التنفيذية كما أن الجمعيات المهتمة بحماية المستهلك تعاني من ضعف قدرتها وأدوات عملها وعدم تجذّرها داخل النسيج المجتمعي.
لهذا يبقى الملاذ الوحيد للمواطنين هو العالم الافتراضي الذي يتيح إمكانية تعبئة فورية وسريعة للمواطنين ونشر الخبر وفتح نقاشات حول مثل هذه الإجراءات والتي تصيب بالفعل أهدافها في الحماية النسبية للمجتمع والفئات المتضررة، حسب ما أكده عبدالله السهير، معتبرا أن تأثير المقاطعة الأولى أثر بشكل كبير على شركة لإنتاج الحليب ومشتقاته حسب آخر الإحصائيات.
وبدوره كشف إدريس الكراوي رئيس مجلس المنافسة ضعف مؤسسات الدولة في تأطير المواطنين ولعب دور الوساطة وتخفيف منسوب الغضب، داعيا إلى ضرورة القيام بمراجعات جذرية في هذه المؤسسات تأخذ بعين الاعتبار التحولات العميقة التي أفرزت جيلا جديدا من المغاربة بوعي عميق بكل ما يجري من حولهم.
ورهن مصطفى الرميد وزير الدولة لحقوق الإنسان نجاح مؤسسات الوساطة في عملها لحماية المواطن المغربي، بشروط أساسية أولها أن تكون هذه المؤسسات آلية للتأطير واسترجاع ثقة المواطنين.
وثانيا أن تكون قادرة على ترسيخ ثقافة الوساطة السياسية، بالإضافة إلى تجاوبها مع التحولات السياسية والتفاعل مع الوسائط الجديدة ومطالب المواطنين، وهنا بات من الضروري على مؤسسات الوساطة الاهتمام بهذه الفئات الهشّة والنهوض بدور آلياتها في تعزيز التماسك الاجتماعي.
العرب