أبناء المهاجرين العرب يختبرون الهجرة العكسية

أبناء المهاجرين العرب يختبرون الهجرة العكسية

الهجرات العكسية لعرب المهجر والمستقرين في الولايات المتحدة، أو غيرها من الدول الأوروبية، إلى بلدان أجدادهم، وعلى الرغم من محدوديتها، تعكس عوامل كثيرة ومتغيرات اجتماعية وثقافية ودينية واقتصادية في بلدان المهجر من جهة وفي البلدان العربية من جهة أخرى.

تثير الهجرات العكسية لأبناء الأجيال الجديدة من عرب المهجر والمستقرين في الولايات المتحدة، أو غيرها من الدول في أوروبا، إلى بلدان أجدادهم مرة أخرى تساؤلات عديدة محيرة. ويبدو غريبا لكل متابع للمجتمعات العربية في المهجر إعادة مد الجسور المنقطعة مع جذورهم الأصلية عبر أجيال جديدة نشأت في المهجر.

ويتجدد التساؤل المُلح عما يدفع فتاة أو شابا ولد في المهجر، واكتسب جنسية الدولة التي يقيم فيها، وتلقى ثقافتها، وتعلم وتربى هناك، للعودة مرة أخرى إلى بلاد أجداده، بل والاستقرار فيها إلى الأبد في بعض الأحيان.

ليس هذا فحسب، فالسائل قد يضيف سؤالا ثانيا، وربما أسئلة عديدة من عينة ما هو الذي أعجب الأميركيين والأوروبيين في بلاد لم يحتمل أجدادهم وآباؤهم العيش فيها؟ وما الذي يجعلهم يُغادرون دولا يرى الناس أنها أكثر نظاما ورُقيا وتحضرا، ووإرضاء لقاطنيها ليستقروا في دول تُعاني من مشكلات لا حصر لها يعرفها القاصي والداني؟

حكايات مثيرة
حكايات غريبة تدور بين أوساط الجاليات العربية في المهجر تصب في خانة تأكيد الظاهرة الغريبة المتسعة يوما بعد آخر.

نادية اسم مستعار لفتاة أميركية من أصل مصري تبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما، سافر والدها صغيرا مع أبويه إلى الولايات المتحدة خلال فترة الستينات من القرن الماضي، ثُم استقرت الأسرة هناك، وتحول الأب إلى مواطن أميركي تماما، لكنه عاد قبل ثلاثين عاما لمرة واحدة ليتزوج من إحدى قريباته في مصر، ثُم أنجب منها أربعة أبناء، من بينهم نادية، التي قررت بعد إنهاء دراستها لطب التحاليل في إحدى الجامعات الأميركية أن تعود إلى مصر لتستقر فيها، وتعيش في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ، في شمال القاهرة، وتقترن بشاب مصري متوسط الحال.

حكاية نادية كانت محل استغراب والديها، وحاولا إقناعها بعدم واقعية ما ترغب فيه، لكن دون جدوى، حيث أصرت على موقفها، وقدمت مبررات جميعها تعتمد على الطبيعة والفطرة والمجتمع والحنين للجذور.

المهاجرون العرب يتركون بلدانهم لأسباب سياسية أو اقتصادية أو ربما دينية أما الهجرات العكسية فتتم لأسباب ثقافية واجتماعية

وأجرى والدها محاورات عديدة معها لإثنائها عن قرارها دون جدوى، وبدا واضحا أن أسرة الفتاة أشفقت عليها ممّا تصوروا أنه ظرف صعب يُمكن أن يواجهها في مصر ثم تعود إلى الولايات المتحدة.

قالت الفتاة لـ”العرب” إنها لم تر في العيش بالبيئة الأميركية تلك المزايا الحياتية التي يرددها الكثيرون، فالعلاقات الإنسانية القائمة بين الناس فاترة، وإن لم تكن باردة بالمعنى الدقيق، ومحددة في الإطار الرسمي، وغالبا ما يكون الشعور بالتقارب المُجتمعي مفقودا تماما، ولو يلوح عكس ذلك.

وأضافت أن “الناس في الولايات المتحدة مُنشغلون دوما، وبعيدون عن بعضهم البعض، حتى أن الكثير من الأشقاء تمر عليهم سنوات دون أن يكون بينهم لقاء واحد، وتُشعر رتابة الحياة المادية في المجتمعات الغربية مَن يحياها بأنه مجرد آلة خالية من أي مشاعر إنسانية”.

أحبت نادية ابن خالتها الذي تعرفت عليه وتحادثت معه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأخبرت والديها بقرارها بالسفر إلى مصر للزواج منه والعيش في مجتمع ريفي بسيط تجد فيه الألفة وسيادة التقارب الإنساني.

ورغم أن كل مَن هم حولها عارضوا قرارها، وراهنوا على عدم قدرتها على تحمل قسوة الحياة في الريف المصري، والخالية من فرص التنزه والرفاهية، والعمل بدخل مالي جيد، إلا أن رهانهم خاب واستقرت حياتها بالفعل وأنجبت بنتا عززت من صحة قرارها بالاستقرار في مصر، وعملت بعد ذلك في مركز طبي خاص بالقرب من مكان
سكنها.

وأوضحت صاحبة الحكاية أنها تشعر بالرضا التام لقرارها، وتعتقد أن الحياة التي تستحق أن يحياها الإنسان هي التي يسودها الحب والرضا والتآلف بين الناس.

وفي تصورها، أن هناك شعورا روحيا بالطمأنينة يسود حياة الناس في دول الشرق يغيب كثيرا في بلدان المهجر، وتعرف يقينا أن فرص العمل ومستوى المعيشة والقدرة على التمتع بالحياة أفضل في أميركا وأوروبا، لكن الحياة هناك تفتقد طعمها الحقيقي الذي تشعر به في بلد أجدادها.

ولم يجرب أبناء المجتمعات العربية من الساعين للهجرة إلى الولايات المتحدة أو إلى دول أوروبا تفاصيل الحياة هناك ولم يتذوقوا قسوتها وماديتها ورتابتها، ولذلك قد يكتشفون بعد مضي وقت الفروق الجوهرية بين مجتمعاتهم الأصلية والجديدة.

يفسر البعض حالات الهجرة العكسية لأبناء عائلات مهاجرة لبلاد الجذور، على أنها رد فعل طبيعي لصعود تيارات وقوى اليمين المتطرف والشعبوية في بعض المجتمعات الغربية.

وفي رأي هؤلاء أن الخطاب السائد والمُحذر من استقبال المهاجرين الجُدد، والمُزدري للوافدين إلى الدول الغربية، سواء أكانوا عربا أم غير عرب، يدفع بأبناء المُتجنسين إلى البحث عن هويات بديلة، ما يجعلهم من الشغوفين بالتعرف على بلاد الجذور التي هاجر منها الآباء والأجداد، وربما الاحتماء بها.

يشير بعض الخبراء إلى أن تطور مواقع التواصل الاجتماعي أسهم في التقريب بين الجيل الثالث من المهاجرين وبلاد جدودهم، إذ تواصلوا مع أقاربهم في بلاد الجذور وارتبطوا بثقافات وتقاليد تلك البلدان كمحاولة للتصدي للخطاب الاستبعادي للتيارات اليمينية تجاههم.

وأكد ماجد محروس، مُهاجر مصري يُقيم في نيوجيرسي منذ سنة 1980 لـ”العرب” أن السنوات الأخيرة بدأت تشهد اهتماما من أبناء الجاليات العربية الذين ولدوا في أميركا للتعرف على بلدان أجدادهم ثقافيا واجتماعيا.

ولم يكن غريبا أن يدفع ذلك الشغف البعض إلى اتخاذ قرار بالعودة إلى بلاد الجذور وتجربة العيش فيها بحثا عن بهجة مفتقدة أو مُحيط اجتماعي مختلف.

هناك تصور منطقي يفترض أن ما يغيب عن الإنسان يكون في الغالب أفضل ممّا هو متاح لديه، بمعنى أن كل ممنوع مرغوب فيه، لذا فشغف الأبناء بتلك الحياة التي يحكي آباؤهم جانبا منها باعتبارها ذكريات جميلة، قد يدفعم بشكل غير مباشر إلى التعلق بالجذور أكثر.

الأسر العربية المهاجرة تربي أبناءها على ثقافتين، ثقافة البلاد التي هاجروا إليها وثقافة البلاد التي جاؤوا منها

وكشف محروس أن ابنة طبيب مصري معروف، هاجر من الإسكندرية إلى الولايات المتحدة خلال التسعينات، ثم استقر في نيوجيرسي، قررت فجأة قبل عامين الهجرة والعودة سعيا لما أسمته بتجديد الحياة واستكشاف تاريخ العائلة.

وبالفعل جاءت الفتاة إلى مدينة والديها لتقيم فيها وتفتتح مطعما عصريا، ثم تتزوج بعد ذلك، وتؤسس أسرة جديدة بعيدا عن مكان مولدها.

وعلى الرغم من العوائق والمشكلات الإجرائية والبيروقراطية التي واجهتها، إلا أنها تأقلمت مع الحياة الصاخبة في مصر وتكيفت مع سمات العيش في مجتمعها الجديد.

ويتكرر الأمر كثيرا بين الفتيات بشكل خاص، نظرا إلى تمرد الكثيرات منهن على الحياة الصلبة، فاترة العواطف، وسعيهن إلى الرومانسية.

وفي تصور محروس، أن الحياة في مُجتمعات المهجر ليست مرضية للكثير من الناس، وخاصة الذين يحملون قدرا من الثقافة الشرقية، وهو ما يجعلهم يتقبلون بشكل ما عودة أبنائهم للعيش في بلادهم الأصلية مرة أخرى.

نوع من الهروب
تمثل الهجرة العكسية أحيانا نوعا من الهروب من مشكلات شخصية أو عاطفية، وإذا كان المهاجرون العرب يتركون بلادهم لأسباب سياسية، أو اقتصادية، أو ربما دينية، فالهجرات العكسية تتم لأسباب ثقافية واجتماعية.

وترى سامية الساعاتي أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس في القاهرة، أن الظروف الاجتماعية الدافع الأول لما يُمكن تسميته بالهجرة العكسية لبعض أبناء المهاجرين العرب بالدول الغربية للعودة إلى بلادهم.

وأوضحت لـ“العرب” أن الكثير من الأسر العربية المهاجرة إلى البلدان الغربية تُربي أبناءها على ثقافتين، ثقافة البلاد التي هاجروا إليها وثقافة البلاد التي جاؤوا منها ما يجعلهم على اتصال ببلاد الجدود، وغالبا ما يزورونها من باب السياحة، وبعضهم يجد فيها ما قد لا يجده في مُحيطه المجتمعي.

وغالبا ما يكون الناس في بلد الأجداد أكثر ترحابا ولطفا وبساطة من أقرانهم في المجتمعات الغربية، ما يُشعر بعض الزائرين من أبناء المهاجرين بالألفة وجمال الحياة وإمكانية العيش والاستقرار في بلاد آبائهم، ويظل ذلك الشعور قائما لدى البعض حتى بعد عودتهم، وبالطبع، فإنه في بعض الحالات يُقرر الزائرون الانتقال النهائي إلى بلادهم الأصلية.

وحاول الفيلم المصري “عسل أسود” المنتج سنة 2010، بطولة أحمد حلمي وإدوارد وإنعام سالوسة، ومن تأليف مؤمن داوود، وإخراج خالد مرعي، الإشارة إلى ذلك إذ يحكي قصة شاب مصري ترك بلده مع والديه وهو في سن العاشرة واستقر في الولايات المتحدة، وبعد وفاتهما قرر العودة والاستقرار في مصر.

لكنه تعرض للكثير من المفارقات نتيجة اختلاف الثقافتين، فتنتهي به الحال إلى صعوبة تحمل الحياة في القاهرة واتخاذ قرار العودة مرة أخرى إلى البلد الذي ولد فيه، ولكن قبل أن تقلع به الطائرة يتراجع عن قراره ليعود إلى مصر والتكيف مع كل مشكلاتها.

يتصور البعض أن تزايد الهجرة العكسية في الآونة الأخيرة يُعبر عن سمة لصيقة بجيل الألفية الثالثة في العالم، وهي الحركة الدائمة والانتقال السريع من مجتمع إلى آخر، وتجربة حيوات صعبة وغريبة، أو بمعنى آخر الفرار من عصر التكنولوجيا والروبوت والحداثة.

لا يقتصر الأمر هنا على العرب، فهناك أوروبيون كُثر يختارون فجأة السفر للعيش في دول أفريقية أو في الصحراوات الكبرى بحثا عن حياة فطرية ومجتمع طبيعي، وسعيا لتجارب يشعرون فيها بروح المغامرة والقدرة على الاختلاف عن القطيع.

وقالت منى هاشم، الخبيرة في الشؤون الاجتماعية، لـ“العرب” إن “أبناء الجاليات العربية مثلهم مثل الكثير من الشباب يهوون المغامرة، ويسعون للتغيير والتمرد على كل ما هو معتاد”.

ورأت أن ذلك قد يدفع البعض منهم إلى اختيار وتجربة الحياة في بلاد الأجداد كنوع من إثبات افتراضات خاصة أو سعي للنجاح في بيئات يتصور البعض أن النجاح فيها
صعب.

وثمة جانب آخر في الأمر قد يشير إلى وجود أزمة هوية تُعاني منها الأجيال الجديدة من المهاجرين الذين لم تتح لهم حرية اتخاذ القرار والاختيار بين مجتمعين على صلة بهما، مثلما أتيحت للآباء والأجداد المهاجرين.

إن هؤلاء ولدوا كغربيين، لكنهم ظلوا شرقيين بحكم ما غُرس فيهم من ثقافة وتقاليد وأعراف حملها آباؤهم معهم في المهجر. وتبقى القضية لافتة بما تثيره من جدل، وما تطرحه من تساؤلات، باعتبارها نوعا من الإبحار عكس التيار.

العرب