الوضع الذي يعيشه أكراد العراق حاليا في إقليمهم بشمال البلاد ليس مريحا ولا يشبه ما كانت عليه أوضاع الإقليم في سنوات الوفرة والرفاه والاستقرار التي مرت به سابقا عندما كان محطّ اهتمام قوى دولية على رأسها الولايات المتّحدة وذلك لحسابات تخص تلك القوى وليس لمصلحة الأكراد. أما اليوم فهو موضع ضغوط وتهديدات إيرانية وتركية بأهداف متقاربة.
أربيل (العراق) – دعت قيادة كردستان العراق بمناسبة مرور ثلاثين سنة على صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 688 المجتمع الدولي لدعمها ومساندتها “على اتخاذ خطوات أكبر صوب مستقبل أفضل مشترك وآمن ومستقر ومتقدم مع العراق والمنطقة والعالم”، ذلك أنّ القرار الصادر في الخامس من أفريل سنة 1991 والذي طالب بحماية أكراد العراق واتّخذته كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتّحدة مبرّرا لإنشاء منطقتي حظر طيران في شمال العراق وجنوبه، كان عنوانا لاهتمام دولي كبير بأكراد العراق تَرَاجَعَ اليوم إلى حدّه الأدنى تاركا هؤلاء عُرضة لضغوط شديدة من قبل خصومهم وأعدائهم الإقليميين والمحلّيين.
وقال نيجيرفان البارزاني رئيس الإقليم الذي يدين للاهتمام الدولي والأميركي بحصوله على الحكم الذاتي إنّ “المشاكل والعراقيل التي وضعت في طريق الإقليم لم تكن قليلة وقطعت عليه طريق المزيد من التقدم”، معتبرا أنّ “الخيار الوحيد المتاح هو أن نخطو صوب مستقبل أفضل من خلال التلاحم والتشارك والإفادة من تجارب الماضي، والحوار والتفاهم والاتفاق مع الحكومة الاتحادية العراقية بدعم ومشاركة ومساعدة المجتمع الدولي”.
ويجد هذا الخطاب مبرّرا له في واقع العلاقة القائمة حاليا بين إقليم كردستان العراق والأحزاب والفصائل الشيعية القوية المسيطرة على مقاليد الحكم في العراق، والتي ضاعفت خلال الفترة الأخيرة من ضغوطها على الإقليم سواء عبر التضييق عليه ماليا من خلال تقليص حصّته من الموازنة الاتّحادية ومحاولتها تعطيل وصولها إليه، أو عبر تحرّش الميليشيات الشيعية بأراضيه عبر استهداف مواقع داخلها بالصواريخ.
واضطرت حكومة إقليم كردستان العراق لخوض مفاوضات صعبة مع الحكومة الاتّحادية استمرت لأشهر بشأن حصول الإقليم على حصّته من الموازنة الاتّحادية، لكن مختلف الجهود ظلّت تتعثّر بسبب ضغوط الأحزاب والفصائل الشيعية وتمسّكها بشرط أن تقدّم السلطات الكردية كشفا واضحا بعدد موظفي الإقليم وحجم كتلة الأجور التي يتقاضونها في ظل شكوك في تضخيم العدد للحصول على أموال إضافية، وأن تسلّم أيضا للحكومة الاتحادية عوائد المنافذ الحدودية وعوائد النفط المنتج في الإقليم والذي تقوم سلطاته بتسويقه مباشرة دون تنسيق من بغداد.
واضطرت حكومة الإقليم في ظل انعدام الحلول وأيضا غياب السند الدولي للاستجابة لتلك الشروط. ورغم تمرير الموازنة أخيرا ما تزال الحكومة إلى الآن تنتظر وصول الأموال من بغداد وتناشد حكومة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بعدم الإخلال بالتزاماتها.
يرتقي الضغط على أكراد العراق باستخدام المسألة المالية إلى محاولة خنق لإقليمهم وإفشال تجربته في الحكم الذاتي وإحداث حالة من الفوضى داخله، حيث تعلم القوى الشيعية التي تمارس تلك الضغوط مدى حساسية موقف حكومة الإقليم التي بلغت بها الأزمة حدّ العجز عن الإيفاء بالتزاماتها الأساسية ومن ضمنها دفع رواتب الموظفين بشكل دوري منتظم وفي مواعيدها المحدّدة، الأمر الذي تسبب بحالة من الاحتقان الشعبي تحوّلت في أكثر من مناسبة إلى احتجاجات في الشوارع.
وليس الضغط المالي والاقتصادي هو الورقة الوحيدة بيد خصوم الإقليم المحلّيين الذين مروا في أكثر من مناسبة إلى التحرّش الأمني واستخدام العنف. ففي منتصف فبراير الماضي تعرّض مطار أربيل الدولي الذي يضمّ قاعدة للقوات الأميركية لقصف صاروخي خلّف قتلى وجرحى وخسائر مادية ووجهت أصابع الاتهام فورا إلى الميليشيات الشيعية الموالية لإيران والتي تجاهر باستهداف الوجود العسكري الأميركي على الأراضي العراقية وتقول إنّها تقاومه وتعمل على إنهائه.
لكنّ صواريخ الميليشيات الشيعية المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني والتي ينظر إليها كرسائل تحذير لإقليم كردستان العراق من توسيع التعاون العسكري مع الولايات المتّحدة واستقبال المزيد من قوّاتها على أراضيه، لا تقارن بما تفرضه تركيا المجاورة من ضغوط عسكرية متصاعدة على الإقليم بذريعة ملاحقة عناصر حزب العمّال الكردستاني.
وفي غياب أي اعتراض دولي منحت تركيا نفسها قدرا كبيرا من حرّية التدخل العسكري الجويّ والبري في إقليم كردستان العراق حتى أنّ تقريرا لصحيفة الغارديان البريطانية تحدّث عن تحوّل منطقة العمادية بجبال زاغروس إلى منطقة شبه محظورة على سكّانها بفعل كثافة عمليات الطيران التركي المسيّر الذي لا يفرّق بين المدنيين ومسلّحي حزب العمّال الأمر الذي قيّد حركة السكان وضيّق عليهم سبل العيش ودفع كثيرين منهم إلى مغادرة منطقتهم.
الضغط على أكراد العراق باستخدام المسألة المالية يرتقي إلى محاولة خنق لإقليمهم وإفشال تجربته في الحكم الذاتي
ووردت في التقرير الذي أعدته بيثان مكيرنان شهادات عدد من سكان منطقة العمادية الممتدة في منطقة كردستان بين تركيا والعراق والتي تتعرض لضربات من الطائرات المسيّرة التركية منذ أن صعّدت تركيا حملتها ضدّ حزب العمال الكردستاني صيف العام الماضي.
ويشير التقرير إلى قائمة متزايدة من الضحايا المدنيين الأكراد جرّاء تلك الحملة وفقا لبيانات من منظمة إير وورس التي وثّقت مقتل ما بين 27 و33 مدنيا وجرح 23 شخصا العام الماضي، أي ما يزيد عن ضعف عدد القتلى المدنيين في عام 2019.
ويشاهد السكان في العمادية وغيرها من المناطق المستهدفة المسيّرات التركية وهي تحلّق بصمت فوق قمم الجبال. ويقول السكان إن الضربات الجوية شملت حوالي سبعين في المئة من قمم المنطقة الوعرة.
وأجبرت زيادة العنف الكثير من سكان العمادية على ترك مناطقهم واللجوء إلى المقاطعات المجاورة ما أدى إلى اكتظاظها ونقص فرص العمل فيها.
وبسبب محدودية الفرص الاقتصادية هناك يضطر العديد منهم إلى العودة إلى الجبال التي كان يطلق عليها في عهد صدام حسين اسم المنطقة المحظورة لأنها كانت تستضيف المقاتلين الأكراد.
ويشير تقرير الغارديان أيضا إلى أن الأسر المتضررة التي لجأت لناحية ديرلوك لم تتلق تعويضا أو دعما من قبل حكومة إقليم كردستان العراق أو تركيا عن خسائرها.
ويقول أحمد نورالدين محي الدين الذي قُتل شقيقه وابن أخيه أثناء بحثهما عن الطعام في أحد الأودية “نحن خائفون للغاية من البحث عن الطعام في المنطقة الآن على الرغم من أنه يتعين علينا ذلك للبقاء على قيد الحياة. لا يوجد سبب لوجود حزب العمال الكردستاني أو تركيا هنا.. إنهم موجودون هنا فقط ليدمروا حياتنا”.
أما تمار أمين ففقد ابنته ووالدته أثناء القتال عام 1997 وقُتل ابنه الأب لستّة أطفال في غارة تركية عام 2017 ثم فقد هو ساقه اليمنى في عام 2018 بعد أن داس على لغم يعتقد أن حزب العمال الكردستاني زرعه. وهو يقول “في كل عام يتم تقييد تحركاتنا بشكل أكبر. أخشى السماح للأطفال بالخروج للعب وأتوقع أن يتم استهدافنا في أي لحظة”.
كان تدخّل القوات التركية بشكل محدود في أراضي كردستان العراق جزءا من حرب تركيا المتواصلة منذ عقود ضدّ حزب العمّال الكردستاني، لكن ذلك التدخّل عرف خلال السنوات الأخيرة تصعيدا وتوسّعا كبيرين، مرتبطين بالسياسة الخشنة التي أصبحت تركيا تنتهجها في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان والتي لا تستثني التدخّل العسكري خارج الحدود.
ولم تجد قيادة إقليم كردستان العراق بدّا من الحفاظ على مستوى جيّد من العلاقات مع تركيا على أرضية مصالح ضرورية للإقليم من بينها تسويق نفطه عبر الأراضي التركية واستيراد الكثير من السلع الأساسية من تركيا والاستفادة من نشاط المعابر الحدودية وما تدرّه من عوائد، واضطرت في سبيل الحفاظ على تلك العلاقات لتقديم تسهيلات عسكرية وأمنية لأنقرة وغضت الطرف عن إقامتها قواعد عسكرية على أراضي الإقليم.
لكنّ تصعيد النشاط العسكري التركي في أراضي الإقليم وتوسيع مداه وتحويله من مجرّد عمليات خاطفة إلى حضور عسكري دائم، لم يكن فقط بدافع الدواعي الأمنية بل أيضا بدافع النوازع القومية المتشدّدة إزاء الأكراد بصفة عامة وحيثما وجدوا سواء داخل تركيا أو في سوريا والعراق وإيران.
وقد اتّضحت تلك النوازع بشكل جلي في فترة حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان الذي لم ينقطع عن ممارسة ضغوط وتضييقات على المكون الكردي في تركيا تكاد تسحب من أبناء ذلك المكوّن حقّ المشاركة السياسية المكفولة لهم بحكم القانون، في وقت تضغط فيه آلته العسكرية على أكراد سوريا المجاورة لمنعهم من استغلال حالة الحرب في البلاد لتأسيس إقليم لهم على غرار أكراد العراق.
لئن سلّمت تركيا بالحكم الذاتي الذي يتمتّع به إقليم كردستان العراق، وهو وضع نشأ وتحوّل إلى أمر واقع في ظروف مختلفة، فإنّها تتعمّد من خلال تكثيف نشاطها العسكري على أراضيه نزع أي مقوّمات للسيادة على تلك الأراضي وقطع الطريق على طموح قيادته لتجاوز الخط الأحمر وتأسيس دولة كردية مستقلة عن العراق، وهو طموح عبّرت عنه تلك القيادة بالفعل بل حاولت تحقيقه من خلال استفتاء على الاستقلال نظّمته في سبتمبر 2017 عندما رأى مسعود البارزاني رئيس الإقليم آنذاك وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، أن اللحظة مناسبة في ظرف الحرب التي كان يخوضها العراق ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية وشاركت فيها البيشمركة الكردية (جيش الإقليم) بفاعلية وتمكّنت خلالها من دخول أراضي متنازع عليها مع الدولة العراقية اعتبرها البارزاني ضمن حدود الإقليم التي قال إنّه أُعيد رسمها بالدمّ.
لكنّ الزعيم الكردي البارز فشل مجدّدا في تحقيق الحلم القديم المتوارث في إنشاء دولة قومية للأكراد والذي استحال تحقيقه في أكثر من محطة تاريخية. فقد بنى البارزاني خطوته تلك على حسابات خاطئة أخذت في الاعتبار الاهتمام الدولي والأميركي السابق بالإقليم والذي جاء في تسعينات القرن الماضي ضمن المسار الذي شرعت فيه الولايات المتّحدة آنذاك لإسقاط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين، فكان من ضمن التضييقات الشديدة التي مورست ضدّه تقوية الأكراد في شمال العراق وتحويل إقليمهم إلى كيان شبه مستقلّ وتهيئة المجال لتواجد القوات الأميركية هناك وهو ما تمّ لاحقا بالفعل خلال غزو سنة 2003.
وفوجئ البارزاني بأنّ ذلك الاهتمام تراجع إلى حدوده الدنيا عندما تُرك الإقليم لمصيره في مواجهة ردّ إيراني تركي عراقي مشترك على الاستفتاء بلغ درجة من الحزم لم يكن يتوقعها ووصل حدّ التهديد بمحاصرة الإقليم وإغلاق منافذه وتجفيف موارده المالية، فيما بادرت القوات العراقية بما في ذلك ميليشيات الحشد الشعبي بالزحف صوب مناطق تسيطر عليها البيشمركة في شمال العراق بينها أجزاء من محافظة كركوك الغنية بالنفط ودفعها إلى التراجع إلى داخل حدود الإقليم القائمة قبل حرب داعش.
وجاء ذلك في ظلّ صمت أميركي غير متوقّع من قبل البارزاني الذي فهم أنّ واشنطن تركته لمصيره وجعلته يجرّب خوض تجربة استفتاء الاستقلال ومواجهة نتائجها إن سلبا أو إيجابا.
العرب