لندن – لا تعد عملية تجنيد العملاء أمرا سهلا في المطلق، وإنما تلجأ المخابرات بالنظر إلى ما يحصل بين إسرائيل وإيران اليوم إلى أساليب وحيل في منتهى التقدم والبراعة مستغلة في هذا ما أتاحته العولمة والثورة العلمية والتكنولوجية من وسائل اتصال متطورة جدا، حيث باتت عبارة عن مصيدة مما سهّل على الأجهزة الخفيّة العمل بمنتهى الحرية.
وتطور هذا الأمر خلال عدة أشهر إذ نفذت إسرائيل سلسلة من العمليات لتقويض برنامج إيران النووي، وآخرها استهداف منشأة نطنز مطلع هذا الأسبوع، لدرجة أنّ المحللين يرون أن اللوم بين الجانبين في مثل هذا العمليات صار تقليديا، فبعد تجنيد العملاء بشكل مباشر، كان زخم توظيف شبكات التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي أكثر تأثيرا على ما يبدو.
ومع ذلك، يؤكد خبراء في الشأن الاستخباراتي أن عملية تجنيد الأشخاص مهما كانت طبيعة نشاطهم سواء كانوا علماء أو أمنيين أو حتى أشخاص عاديين تعتبر عملية صعبة ومعقدة جدا وتستدعي تقديم الكثير من الإغراءات وهي في كل الأحوال ليست مستحيلة إذا تم توفير الأرضية الملائمة لذلك لتحقيق الهدف.
تسوّق البروباغندا الإيرانية صورة مفادها أنّ نظام الإيراني محصن ومنيع عن الاختراق، غير أن شبكات التجسس، التي ما فتئت تخترق نواته الأكثر تشددا والتصاقا بمشروع ولاية الفقيه، الحرس الثوري والأوساط الدينية المتشددة وحتى العاملين في المواقع الحساسة، كشفت حقيقة هذه الادعاءات والمغالطات.
ويتفق المختصون على أن معظم طرق اختيار الأشخاص المناسبين لتجنيدهم كعملاء وجواسيس، تتميز أساسا بالتركيز على عدة عناصر أو معايير من بينها استغلال نقاط الضعف المادية أو المتعلقة بالعداء الشرس لجهة ما ضمن دولته ويريد الانتقام منها بأي ثمن.
وعندما يكون من الصعب أو من المستحيل التجنيد المباشر فإن أجهزة المخابرات تلجأ في الكثير من الأحيان إلى استهداف مقربين من الشخصيات أو الأماكن أو البيئة المستهدفة، لجمع ما يمكن من المعلومات والبيانات ثم تحليلها قبل الشروع في التخطيط ثم تنفيذ العملية.
وتلقي حادثة تضرر شبكة توزيع الكهرباء بمنشأة نطنز، المقامة في الصحراء بمحافظة أصفهان، والتي تعتبر محور برنامج إيران لتخصيب اليورانيوم وتخضع لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة الضوء بشكل لافت على هذه الوضعية وخاصة مدى قدرة إسرائيل على الوصول إلى أماكن نووية تعمل طهران بشتى الوسائل على إخفائها من المراقبة.
ومع أن الحكومة الإسرائيلية لم تعلن رسميا تبنيها للعملية، لكن العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلية نقلت عن مصادر مخابراتية، لم تذكر هوياتها، قولها إن جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) “نفذ عملية تخريبية ناجحة في موقع نطنز، ستعوق على الأرجح أعمال التخصيب هناك لعدة أشهر”. لكن المتحدث باسم منظمة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي أكد أن “تخصيب اليورانيوم لم يتوقف في الموقع”.
وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيه المنشأة إلى الاستهداف فقد شب حريق في يوليو الماضي فيها، قالت الحكومة حينها إنه محاولة لتخريب البرنامج النووي للبلاد. وقبل ذلك، وفي عام 2010، تم اكتشاف فايروس الكمبيوتر ستاكسنت، الذي يُعتقد على نطاق واسع أن الولايات المتحدة وإسرائيل طورتاه، وذلك بعد استخدامه لمهاجمة نطنز.
واكتسب تهديد الهجمات الإلكترونية الكثير من الدعاية في السنوات الأخيرة، فمثل هجمات القرصنة هذه تمدّ الجهات الفاعلة العدائية بأداة تجسس ملائمة وقوية. ويمكن شن هجمات القرصنة من منصة خارجية ذات سلامة نسبية دون أن تضطر إلى تعريض أصول ذات قيمة إلى خطر الاكتشاف والاعتقال، وتقدم للجهات الفاعلة درجة ما من سياسة الإنكار أيضا.
البروباغندا الإيرانية تسوّق صورة مفادها أنّ نظام الإيراني محصن ومنيع عن الاختراق، غير أن شبكات التجسس كشفت حقيقة هذه الادعاءات والمغالطات
ورغم أنه من السابق لأوانه معرفة المتسبب عن حادث نطنز، في ظل تعدد الروايات، لكن المؤكد أن هناك لمسة مخابراتية في العملية وأنّ هناك تنويعا في طرق الاستهداف، والتي تأتي ضمن سلسلة من الخطط، الذي ينفذها الموساد استباقا لأي تسوية قد تتضمن تنازلات، والتي يسعى الرئيس الأميركي جو بايدن لإبرامها مع طهران لإعادة إحياء الاتفاق النووي.
ويعكس تنويع طرق التجنيد أو الاستهداف بوضوح الاتهامات، التي وجهتها إيران إلى الموساد بتنفيذ عملية معقدة باستخدام أسلوب جديد بالكامل لاغتيال العالم النووي محسن فخري زادة، أنه بقدر ما أن أجهزتها الأمنية والاستخباراتية بدت مشلولة لتجنب حصول ذلك، تظهر تلك الحادثة أن تكتيكات الاستهداف تطورت بالنظر إلى المعلومات التي تم جمعها من عملاء داخل إيران.
وبعد أيام من اغتيال فخري زادة ذكر نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني العميد علي فدوي أن العالم الإيراني اغتيل بواسطة رشاش باستخدام الذكاء الاصطناعي. وقال إن “إطلاق النار تم التحكم به عبر الأقمار الاصطناعية والإنترنت ولم يكن هناك إرهابيون في مكان الحادث”.
وفي شهر نوفمبر الماضي، نقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن أفنر أفراهام، الجاسوس الإسرائيلي السابق الذي يعمل في شركة استشارات بهوليوود في الولايات المتحدة، أن “العمليات، التي يكشف عنها الموساد للعموم تدفع الناس إلى الشعور بالفخر والتفكير في الأجيال المقبلة”، ثم أضاف “نحتاج عملاء أكثر”.
لكن الرئيس السابق للدائرة الأمنية والسياسية في وزارة الدفاع الإسرائيلية عاموس جلعاد يرى عكس ذلك، حيث حذر من “خطر التباهي” وقال لإذاعة “103” الإسرائيلية الاثنين الماضي، إن “سياسة الغموض يجب أن تعود قريباً، فالتفاخر اليوم يعرض أمن الدولة للخطر”.
حسابات مزيفة للاستدراج
اتجهت وكالات الاستخبارات بما فيها إيران وإسرائيل، طيلة السنوات الأخيرة في ظل الطفرة التكنولوجية إلى الاستعانة كثيرا بمعلومات المصادر المفتوحة لتحديد الأشخاص، الذين لديهم إمكانية الوصول إلى البرامج أو المعلومات التي يحاولون جمعها.
وتزود الإنترنت هذه الوكالات بالمزيد من المعلومات مفتوحة المصدر، وبعض المواقع مثل “إنستغرام” و”فيسبوك” و”لينكد إن” مفيد بشكل خاص لاكتشاف الأشخاص الذين لديهم إمكانية الوصول إلى المعلومات أو التقنيات المطلوبة، ومن ثم استدراجهم ليكونوا شخصيات وهمية في تلك الشبكات الاجتماعية لاستخدامهم كأدوات في تنفيذ العمليات السرية.
ويبدو أن المخابرات الإيرانية تعمل على ذلك بالفعل، فقد اتهم جهازا الاستخبارات الإسرائيلية الداخلية (شاباك) والخارجية (الموساد) بعد حادث نطنز عدوهما اللدود إيران باستخدام حسابات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي لإغراء مواطنين في الخارج بذرائع كاذبة من أجل “إيذائهم أو اختطافهم”.
وأعطى شاباك والموساد بعض التفاصيل عن ذلك حيث يستخدم فيها عملاء المخابرات الإيرانية ملفات شخصية مزيفة على تطبيق إنستغرام لنساء “يبدو أنهن منخرطات في الأعمال التجارية والسياحة”. وتصل هذه الملفات للإسرائيليين من خلال اتصالات تجارية دولية في محاولة لجذبهم إلى اجتماعات رومانسية أو تجارية في دول حول العالم.
تاريخيا، تعاملت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في الكثير من المرات مع مثل هذه العمليات، فعلى سبيل المثال، ذكر جهاز شاباك في يوليو 2019 أنه أحبط محاولة لتجنيد عملاء في الضفة الغربية وقطاع غزة بهدف جمع معلومات عن منشآت عسكرية ومدنية في إسرائيل من خلال استخدام حسابات وهمية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
وتظهر كل تلك العمليات بما لا يدع مجالا للشك أن أمر تجنيد المخابرات الإسرائيلية والمخابرات الإيرانية للعملاء بشتى الأساليب وتوظيفهم في تنفيذ عملياتهما صار أمرا جديا وواقعيا، خاصة وأن الخبراء في هذا الشأن باتوا على قناعة بأنهم أمام مواجهة جديدة في عمليات الاستهداف بين الطرفين أكثر مما كانت عليه قبل سنوات.
العرب