العراق جوهرة التاج على رأس من يرغب بتاج

العراق جوهرة التاج على رأس من يرغب بتاج

لا أمن عربيا في مواجهة إيران من دون العراق. هذه خلاصة لا تحتاج إلى شرح.

الكل يستطيع أن يرى الآن ما معنى أن يُصبح العراق إقطاعية من إقطاعيات الولي الفقيه. مئات المليارات التي نُهبت من ثروات العراق على امتداد العقدين الماضيين هي التي وفرت لجمهورية العصابة في إيران أن تقاوم العقوبات، وأن تواصل برامجها العسكرية، وأن توسع طموحاتها الإقليمية لتشمل سوريا واليمن ولبنان.

أنظر إلى بيئة ما قبل الغزو الأميركي للعراق وسترى أوضاعا إقليمية مختلفة، ليست إيران فيها سوى قوة ثانوية، لا تستطيع بالكاد أن تتدبر شؤون ما بعد الهزيمة العسكرية مع العراق في العام 1988، بعد تلك الحرب التي دامت لثماني سنوات.

انكسر العراق ووقع ضحية تواطؤ أميركي إيراني فكانت النتيجة هي ما نحن فيه الآن.

تجرؤ إيران الآن أن تهدد المنطقة برمتها، وهي تبتز العالم بالسعي لتطوير أسلحة نووية، وتريد من وراء هذا الابتزاز أن تحافظ على ما كسبته من علاقات التواطؤ مع إدارة الرئيسين جورج بوش الابن وباراك أوباما.

لم تلحظ هاتان الإدارتان أنهما كانتا تغذيان الوحش الذي سينقلب عليهما يوما. قصر النظر الشديد والتقليدي في علاقات واشنطن مع القوى الإقليمية المختلفة في العالم هو الذي أقنعها بقبول المقايضة بأن تمنح السلطة في العراق لإيران مقابل حصة من برامج النهب للموارد.

رأت واشنطن أن وجودها في العراق أصبح مكلفا من الناحية العسكرية، فاختارت أن تعود بما خف حمله وتركت الباقي لميليشيات طهران ومشروعها الطائفي.

لا يوجد مبرر اقتصادي ولا علمي واحد يبرر لطهران أن تقوم برفع مستويات تخصيب اليورانيوم إلى ما يتجاوز نسبة الـ60 في المئة، إلا أن جمهورية العصابة لا تريد من وراء هذا الابتزاز أكثر من أن تحافظ على نفوذها في العراق وسوريا واليمن ولبنان في المقايضة المقبلة. وقد تقبل تسويات هنا أو هناك، إلا أنها لن تقبل تسوية لاقتسام المصالح مع أيّ كان في العراق.

إنه جوهرة التاج، ليس فقط بسبب موارده الهائلة، بل لأنه القوة الوحيدة المضادة التي إذا ما نهضت، فإنها سوف تُجبر طهران على أن تعيد النظر بطموحاتها الإقليمية وتعود لتنحسر إلى قوة داخل حدودها، لا تجرؤ على تهديد أحد، ولا التوسع على حساب مصالح الآخرين.

الكثير من الدول العربية، استسلمت للواقع، من باب القناعة ربما بأن الإدارة الأميركية أذكى من أن تُوقع مصالحها ونفوذها الإقليمي تحت طائلة التهديد أو الابتزاز. ولقد أثبتت الأيام أن هذه القناعة كانت خاطئة من جهتين اثنتين على الأقل.

الأولى، الإدارات الأميركية غبية عادة، وليس العكس. القوي الذي يؤمن بقوته يستغني في الغالب عن التفكير ظانا أن قوته تكفل له إعادة التوازنات كيفما يشاء ساعة يشاء. أما الأثمان التي يدفعها الآخرون من ذلك فهي لا تهمه من الأساس. (ماذا يعني بالنسبة إلى واشنطن أن يتشرد خمسة ملايين عراقي، مثلا، أو أن يتم تهجير وتدمير مدن بكاملها، أو أن تُمارس أعمال التعذيب والقتل والاغتصاب ضد مليوني إنسان على أيدي ميليشيات الولي الفقيه؟ لا شيء على الإطلاق. بل إنها مفيدة بما توفره لأدوات الفساد من فرص النهب وممارسة الضغوط لتوقيع المزيد من العقود الزائفة).

والثانية، هي أن القوة الأميركية التي تبدو مطلقة ليست مطلقة بالفعل ولا تستطيع أن تعيد تركيب التوازنات إلى ما كانت عليه ساعة تشاء. فمن الواضح أن إيران تجرؤ اليوم على ابتزاز هذه القوة لتضعها أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التواطؤ لاقتسام المصالح وإما المواجهة الشاملة.

إدارة الرئيس جو بايدن اختارت التواطؤ. هذا هو المعنى الوحيد لنظرية “عودوا، لنعد” إلى الاتفاق النووي، من أجل رفع العقوبات عن إيران. وهذا هو المعنى الوحيد من قبول الانسحاب من العراق وإغلاق القواعد الأميركية فيه، وهذا هو المعنى الوحيد للتفاوض مع ميليشيات طهران من أجل العودة إلى الاتفاق الأمني الذي تم توقيعه في العام 2008.

القوة الأميركية رضخت، في الواقع، للابتزاز لأنها لا تريد تحمل كلفة المواجهة العسكرية، ولأنها لا تملك “خطة ب” لاستعادة ما رغبت، هي نفسها، بالتخلي عنه.

هناك شيء تفعله إسرائيل، في العلاقات مع حلفائها، لم تتعلمه الدول العربية. الإسرائيليون عادة ما يكررون هذه القاعدة لحلفائهم “افعلوا ما تريدون، ولكن أمننا هو أمننا نحن. نحن معكم بمقدار ما يتناسب ذلك مع مصالحنا، ولكننا نحافظ على أمننا على النحو الذي نراه نحن مناسبا”.

القوة الأميركية رضخت، في الواقع، للابتزاز لأنها لا تريد تحمل كلفة المواجهة العسكرية، ولأنها لا تملك “خطة ب” لاستعادة ما رغبت، هي نفسها، بالتخلي عنه

العملية الإسرائيلية ضد مركز نطنز النووي كان يمكن أن يُنظر إليها على أنها إهانة لوزير الدفاع الأميركي الزائر لويد أوستن لأنه سمع بها عن طريق الصحف، وظهر كمثل “الأطرش في الزفة” أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي، فلم يجرؤ على قول كلمة واحدة واكتفى بتأكيد تعهدات الدعم لأنه يعرف تلك القاعدة.

إدراك الدول العربية المتضررة من تهديدات إيران بأن العراق هو جوهرة التاج في مواجهة هذه التهديدات، كان يمكنه أن يوقف تواطؤات واشنطن عند حد. ولكنه كان يمكن أن يوفّر للدول العربية غطاء أفضل لو أنها اختارت أن تحافظ على أمنها في العراق بأدواتها الخاصة، لا أن تكون رهينة لذكاء إدارات الولايات المتحدة.

الأساس في العودة إلى بناء علاقات اقتصادية وتجارية مع العراق يجب أن يقوم على نظرة أبعد من مجرد نظرة “المصالح” إلى نفسها. بمعنى ألاّ يكون الأمر قصة تبادل تجاري لتحقيق منافع آنية.

هذه النظرة الضيقة، ربما تكون “ذكية” ولكن بالمقاييس الأميركية للذكاء.

كان يجدر بالمسؤولين العرب الخليجيين أن يقولوا لنظرائهم الأميركيين: أنتم تهددون أمننا بتقديمكم العراق على طبق من فضة لإيران. نحن لا نثق بأنكم أذكياء. كما لا نثق بقدرتكم على مساعدتنا أصلا. لأن من يسلم التاج إلى دولة عصابة لا يمكن ائتمانه على شيء من الأساس. ولذلك، حلّوا عن… سمانا، أنتم وخططكم الغبية.

السعي لاستعادة العراق كدولة وككيان وشعب هو الطريق الوحيد لمواجهة تهديدات إيران ضد دول المنطقة. هو الطريق الوحيد الذي يمكنه أن يُبقي مياه الخليج آمنة للملاحة وللتجارة الدولية. هو الوحيد الذي يمكنه أن يحفظ أمن البحرين ومنشآت السعودية النفطية من الاعتداءات، وهو الوحيد الذي يمكنه أن يوقف تمدد المشروع الطائفي الصفوي ليشكل تهديدا للاستقرار السياسي والاجتماعي في الكويت.

هذا العراق يمكن يُستعاد باستعادة الملايين ممن أصبحوا ضحية لسلطة ميليشيات إيران.

أما كيف؟ فهذا سؤال يتعين أن تقرأ واشنطن جوابه في الصحف من دون أن يشعر وزراء دفاعها بالإهانة.

العرب