منذ أعمال الشغب الدامية، التي اندلعت في “الربيع الأسود” قبل عقدين من الزمن بمنطقة القبائل بشمال شرق الجزائر، استطاعت أقلية الأمازيغ انتزاع بعض المطالب المتعلقة بالهوية، واليوم تشارك بقوة في الحراك الشعبي حتى لا تتكرر المأساة، وتتطلع إلى تحقيق مكاسب أكبر في ظل ما تعيشه البلاد من تغيير سياسي بعد الإطاحة بالنظام السابق.
الجزائر – بعد عامين من الإطاحة بنظام عبدالعزيز بوتفليقة، يستذكر سكان منطقة القبائل الجزائرية ما حصل قبل عقدين من الزمن، والتي كانت نقطة فارقة في طريق تحقيق مطالبهم بعد أن أعطت أعمال الشغب في ما يعرف بـ”الربيع الأسود” بُعدا سياسيا واجتماعيا لقضية الهوية الأمازيغية بجوهرها الثقافي طيلة العقود الأربعة الماضية.
وتعود هذه الذكرى إلى الـ18 من أبريل 2001 حين أصيب طالب في المرحلة الثانوية (18 عاما) ويدعى ماسينيسا قرماح بجروح خطيرة جراء إطلاق دركي النار عليه من سلاح كلاشينكوف في مقر الدرك الوطني في بني دوالة، وهي بلدة جبلية بالقرب من تيزي وزو، شرق العاصمة.
وكان قرماح أوقف بعد مشاجرة عادية بين الشباب والدرك، ولكنه توفي بعد يومين، بالتزامن مع ذكرى “الربيع الأمازيغي” عندما قامت السلطات بقمع المظاهرات المؤيدة للأمازيغية، فاندلعت أعمال شغب أشعلت المنطقة التي غذاها السخط الاجتماعي، ولتنتشر في كل منطقة القبائل ثم مناطق أخرى من الشرق، ولاسيما في الأوراس.
ونزل سكان المدن والقرى إلى الشوارع للمطالبة بإغلاق جميع مقرات الدرك الوطني في المنطقة، وتحولت التظاهرات إلى مواجهات مع قوات الأمن التي أطلقت النار بالذخيرة الحية ما أسفر عن مقتل 126 شخصا وجرح أكثر من خمسة آلاف آخرين.
يقول سعيد سعدي أحد رموز النضال من أجل الهوية الثقافية الأمازيغية، لوكالة الصحافة الفرنسية إنه “لا أحد كان يمكن أن يتخيل أن رجل درك يمكن أن يقتل بدم بارد شابا في ثكنته”. وأكد أن “رد فعل السكان كان غاضبا”.
وأوضح سعدي الرئيس السابق لحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (علماني) أن “الربيع الأسود” هو “شهادة ميلاد لشكل جديد من الاحتجاج في الجزائر أدى إلى احتلال الشارع”.
ومنذ ذلك الحين، أصبحت المسيرات علامة على السخط الشعبي عندما يتعلق الأمر بنقل رسائل إلى السلطات. وبالتالي، فإن التوترات الاجتماعية مثل مشكلة مياه الشرب والحصول على سكن، غالبا ما تؤدي إلى تظاهرات تتحول أحيانا إلى أعمال شغب.
ويشير سعدي إلى أن الجزائر سجلت أكثر من عشرة آلاف حركة احتجاجية منذ بداية ثورات “الربيع العربي” في المغرب العربي والشرق الأوسط في 2011، مؤكدا أن “جميع المطالب تقريبا لا تمر عبر الطرق القانونية أبدا”.
وتواصلت الاحتجاجات حتى اندلاع الحراك الشعبي في الـ22 من فبراير 2019، الذي أزاح بوتفليقة من الحكم، لكنه مازال مستمرا رغم حظر التجمعات والمسيرات للمطالبة بتغيير جذري للنظام القائم منذ الاستقلال في 1962.
وكان سعدي حين حصول الحادثة رئيسا للتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، الحزب المشارك في الائتلاف الحكومي. وقد سأل الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة الذي انتخب في 1999 حول وعده بإحلال السلام في بلد نخرته حرب أهلية دموية بين قوات الأمن والإسلاميين. وخاطبه قائلا “لا يمكننا الاستمرار في المشاركة في حكومة تطلق النار على أبنائها”.
وفي ربيع 2002، استطاعت حركة العروش (تجمع قبائل المنطقة)، وهي منظمة موروثة من الأجداد أصبحت تقود الحركة الاحتجاجية، تحقيق مطلب رحيل غالبية كتائب الدرك الوطني من منطقة القبائل. وكذلك أصبحت اللغة الأمازيغية معترفا بها “كلغة وطنية” بقرار من بوتفليقة، رغم أنه معارض لأي فكرة تتحدث عن التعددية.
ففي 12 مارس 2002، أعلن بوتفليقة أنه قرر تضمين تعديل الدستور مادة تعترف بالأمازيغية كلغة وطنية دون أي هدف إلا لخدمة الوطن والمصلحة الوطنية، وفي الثامن من أبريل، اعترف البرلمان بالأمازيغية كلغة وطنية ثانية إلى جانب اللغة العربية، تتويجا لنضال استمر قرابة 40 عاما في منطقة القبائل.
وكان البرلمان قد صادق في السابع من فبراير 2016 بأغلبية ساحقة على مراجعة جديدة للدستور نصت على أن الأمازيغية هي الآن “لغة رسمية” بينما اللغة العربية “هي اللغة الوطنية والرسمية” و”تظل اللغة الرسمية للدولة”.
وفي منتصف ديسمبر 2017 تظاهر المئات من الطلاب لمدة أسبوع في عدة مدن، خاصة في منطقة القبائل، بعد رفض تعديل برلماني ينص على تعميم تدريس الأمازيغية في جميع المدارس الحكومية والخاصة بالجزائر مع إضفاء الطابع “الإجباري” على القرار.
وبالنسبة إلى سعدي الذي نشر مؤخرا الجزء الثاني من مذكراته، فإن قرار بوتفليقة “بإقرار الأمازيغية لغة وطنية جاء لتبرئة نفسه من المسؤولية عن جرائم الدولة المرتكبة في منطقة القبائل”. ثم أصبحت الأمازيغية اللغة الرسمية الثانية في البلاد إلى جانب اللغة العربية بمناسبة تعديل الدستور في عام 2016.
أما التقدم الآخر في مسار النضال من أجل الاعتراف بالثقافة الأمازيغية فحدث في ديسمبر 2017، عندما أصدر بوتفليقة مرسوما يعترف برأس السنة الأمازيغية “ينّاير” التي توافق الـ12 من يناير من كل سنة ميلادية، عطلة وطنية رسمية في الجزائر “لتوطيد الوحدة الوطنية”.
ومن المؤكد أن الاعتراف باللغة الأمازيغية كلغة رسمية لم يغير شيئا في الواقع ما عدا اللافتات الحكومية المكتوبة بها، ذلك لأن تدريسها ظلّ اختياريا ما جعلها تحتل مرتبة ثانوية في البرامج الدراسية.
ولكن في حياة أمة في طريق البناء مثل الجزائر، من الضروري وجود “مراجع رمزية”. ويقول سعدي إنه “من الأهمية أن نرى جبهة التحرير الوطني الحزب الوحيد سابقا الذي شوّه سمعة قضية الهوية الأمازيغية لعقود، مضطرّا للاعتراف بها”.
والأمازيغية هي اللغة الرئيسية في التعاملات اليومية لسكان منطقة القبائل الكبرى في الجزائر، التي تضم محافظات عدة بشرق العاصمة. وينقسم هؤلاء السكان إلى مجموعات منفصلة جغرافيا وهي القبائل والشاوية في منطقة الأوراس والمزاب المجموعة الأمازيغية الوحيدة ذات المذهب الإباضي في منطقة غرداية.
كما يوجد الطوارق أقصى الجنوب والشناوة في منطقة شرشال غرب العاصمة، وهناك مجموعة بربرية أخرى قرب مدينة ندرومة على الحدود مع المغرب، وتتميز لغتها أو لهجتها بقربها الكبير من الشلحة؛ وتعتبر من أمازيغ الشلوح (بربر) في المغرب.
تاريخ من النضال
في عام 1963، بعد عام على الاستقلال، أسس النائب الأمازيغي وأحد قادة حرب الاستقلال حسين آيت أحمد، المتمرد على سلطة أحمد بن بلة وهواري بومدين، جبهة القوى الاشتراكية التي تدافع عن الهوية الأمازيغية والديمقراطية. وشنّ تمردًا مسلحًا في منطقة القبائل، فقمعته السلطة بشدة واتهمت مقاتلي جبهة القوى الاشتراكية بـ”الانفصالية”.
وبعد حادثة مقتل قرماح خلصت لجنة تحقيق وطنية إلى أن الدرك كان مسؤولاً عن بدء أعمال الشغب وقمعها. وجاء في تقرير اللجنة أن “العنف المسجل ضد المدنيين هو عنف حرب باستخدام ذخائر الحرب”. وقرر عبدالعزيز بوتفليقة الذي انتخب قبل عامين من ذلك على أساس تعهّده بإحلال السلام في بلد دمره تمرد إسلامي تشكيل لجنة تحقيق وعهد برئاستها إلى الخبير القانوني محند إسعد، وهو من منطقة القبائل.
وغالبا ما عارضت منطقة القبائل السلطة المركزية وكانت في طليعة النضال من أجل الهوية الأمازيغية، لكنها كانت أيضًا معادية للتطرف الإسلامي. وفشلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الحصول على موطئ قدم فيها عام 1990 عندما فازت بغالبية المجالس البلدية والولائية في غالبية مناطق البلاد.
وعندما اندلعت الحرب الأهلية عام 1992 بقيت المنطقة بمنأى عنها في البداية، لكن مع تضاريسها الجبلية التي يصعب الوصول إليها، صارت معاقل لـ”أمراء” الجماعات الإسلامية المسلحة التي ضاعفت الاعتداءات ضد قوات الأمن خصوصا.
العرب