ترتيبات إيرانية لنقل النموذج العراقي للميليشيات إلى أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي

ترتيبات إيرانية لنقل النموذج العراقي للميليشيات إلى أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي

تراهن إيران على أن انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان سيفرض معادلة جديدة ويمكنها من فرض نفوذها وسياستها في أفغانستان، مكررة بذلك ما قامت به في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، وخصوصا بعد انسحاب القوات الأميركية عام 2011. وما يعزز هذا السيناريو نسبة الشيعة التي تشكل عشرين في المئة من إجمالي عدد السكان والمنتشرة بمدينة هِرَات غربي أفغانستان، والتي يُطلق عليها اسم «إيران الصغرى».

ما يفاقم التداعيات الجيوسياسية للانسحاب الأميركي من أفغانستان بحلول سبتمبر القادم أنها بلاد لا تزال الولاءات القبلية والعرقية والمذهبية راسخة فيها، وهذا ما يجعلها مطمعًا للدول ذات النزعات التوسعية الساعية لبناء فضاء إقليمي واسع في مجالاتها الحيوية.

تجد إيران في إعلان انسحاب القوات الدولية من دولة قريبة منها جغرافيًا ومضطربة أمنيًا وعرقيًا فرصة مواتية لتحقيق أهدافها وتثبيت مصالحها قبل تعافيها، بناءً على خبرات سابقة في كل من العراق وسوريا.

وتراهن على أن الانسحاب سيفرض معادلة جديدة في هذا البلد تمكنها من زيادة دورها، وإمكانية تكرار ما قامت به في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003 والذي تضاعف عقب الانسحاب منه عام 2011.

وتحرص على القيام بهذا الدور في أفغانستان مستغلة الفراغ الذي يتركه خروج القوات الأميركية وحلفائها الدوليين، وهو ما برهن عليه إعدادها لهذا السيناريو مُسبقًا من خلال محاولات امتلاك أوراقها وأدواتها المعتادة التي تلعب بها داخل ساحات مهيأة للتصارع العرقي والمذهبي.

وما يعزز سيناريوهات استغلال طهران لهذا الملف في المستقبل القريب طبيعة التركيبة الديمغرافية، حيث تبلغ نسبة الشيعة حوالي عشرين في المئة من إجمالي عدد السكان، وتنتشر قبيلة الهزارة الشيعية في المناطق الجغرافية المتاخمة للحدود بمدينة هِرَات غربي أفغانستان ويُطلق عليها اسم “إيران الصغرى”.

وتتضاعف فرصُ مدِّ النفوذ بين الأقلية الشيعية جراء الفراغ الدولي بالنظر إلى حجم هذه الأقلية وثقلها في موازين القوى الداخلية، فضلًا عما عاناه الشيعة الهزارة من اضطهاد سابق وما ينتابهم من قلق حاليا بشأن مستقبل البلاد، في ضوء صعود قوى إسلامية سنية متطرفة، وهو ما يُلجئهم إلى توطيد علاقاتهم وتحالفاتهم مع إيران.

يحظى ترويج الهزارة الشيعة لخطاب المظلومية بمردود إيجابي وتفاعل واسع من القوى الخارجية التي تدعمهم، فعرقيتهم ليست مكونًا هامشيًا، حيث تُعد ثالث أكبر مجموعة عرقية في أفغانستان، ولم تتوقف معاناة أبنائها حيث قُتل الآلاف منهم تحت حكم طالبان، واستلم تنظيم داعش راية استهدافهم واضطهادهم فور تثبيت أقدامه في البلاد منذ عام 2016 من خلال تنفيذ هجمات انتحارية وتفجيرات في المناطق والأحياء ذات الكثافة الشيعية في كابول وغيرها من المدن.

وينظر الهزارة الشيعة بعين الولاء لإيران لأسباب مذهبية وأيديولوجية فضلًا عن الدوافع الاجتماعية والاقتصادية التي أدت إلى انضمام الآلاف من شباب الهزارة إلى صفوف ميليشيا “فاطميون”، عندما أسسها قادة الحرس الثوري الإيراني عبر استقطاب الأفغان الفقراء العاملين في إيران ومن العاطلين عن العمل وغير الآمنين وممن يستميتون في إعالة أسرهم.

أفغان فاطميون
استغلت إيران الظروف الصعبة لأبناء قومية الهزارة الأفغانية في ظل وجود نحو ثلاثة ملايين لاجئ منهم على أراضيها، ما دفع فيلق القدس مبكرًا إلى تجنيد عدد كبير منهم مقابل الحصول على راتب وأوراق رسمية للإقامة.

تعود أصول لواء “فاطميون” إلى لواء “أبوذر” المشكل من قوات أفغانية والذي قاتل بجانب القوات الإيرانية خلال الحرب العراقية الإيرانية، وحديثًا جرى تطويره وإعادة إنتاجه في سوريا عبر تأسيس ميليشيا أفغانية محترفة تقاتل لحساب إيران في سوريا، على يد علي رضا توسلي الذي قتل في درعا في مارس 2015، وبإشراف مباشر من الراحل قاسم سليماني قائد فيلق القدس.

قبل الزج بلواء “فاطميون” في جبهات القتال في سوريا بجانب قوات النظام السوري لتحقيق أهداف إيران جرت تربية مقاتليه على الفقه الإثنى عشري بالنجف وكربلاء وعقد جلسات تلقين مكثفة أمام المرجعيات الشيعية في قم، ما جعلهم بجانب ما اكتسبوه من خبرات قتالية متقدمة متشبعين بالفكر الطائفي والولاء الأعمى لنظرية ولاية الفقيه وللمرشد الإيراني.

ادخر فيلق القدس مقاتلي لواء “فاطميون”في سبيل توظيفهم في سياق إقليمي أكبر كإحدى الأدوات الرئيسية التي تناور بها طهران في الصراعات المستقبلية بجنوب آسيا وداخل أفغانستان.

تجد إيران في إعلان انسحاب القوات الدولية فرصة مواتية لتحقيق أهدافها وتثبيت مصالحها قبل تعافيها

عندما شرعت طهران في الدفع بمقاتليه إلى الساحة الأفغانية سمحت بعودة قرابة ثلاثة آلاف مقاتل بطرق سرية العام الماضي، ونظرًا للانتقادات الشعبية والنخبوية والصرامة الأمنية التي تعاملت بها الحكومة الأفغانية مع هؤلاء ظلوا مفككين دون قيادة مركزية تجمعهم، وانتشروا في أجزاء متفرقة من البلاد.

وفق تكتيكات طهران المتدرجة والتي تهدف إلى تمكين وكلائها وميليشياتها خطوة خطوة، سعى دبلوماسيون إيرانيون تاليًا لإضفاء الشرعية على نشاط مقاتلي “فاطميون” بأفغانستان، بهدف فرض الاعتراف بهم ووقف ملاحقتهم والتضييق الأمني عليهم ومنع محاكماتهم ولمنحهم الحرية والمساحة التي تمكنهم من تنظيم صفوفهم وهيكلة حركيتهم في إطار تنظيمي يحظى بقيادة مركزية، تمهيدًا لمزاولة نشاطاتهم في البلاد بحسب التوجيهات الصادرة من الحرس الثوري.

وحتى نهايات العام الماضي لم يكن الواقع الأفغاني ممثلًا في الحكومة المحلية والنخبة السياسية مهيأً لقبول وكلاء لإيران سبق وأن حاربوا لحسابها في سوريا، وهو ما وضح في ردود الفعل الغاضبة والرافضة لتصريحات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف حينئذ، والتي عرض خلالها على الحكومة الأفغانية الاستعانة بخدمات لواء “فاطميون” كأفضل خيار لمكافحة إرهاب تنظيم داعش.

يدفع التطور الأخير المتعلق بإعلان الانسحاب الأميركي طهران إلى اتخاذ ما يلزم لشرعنة حضور “فاطميون” لينتقل مقاتلوه من ملاحقين مختبئين يتحركون بحذر مخافة الاعتقال من قبل الاستخبارات الأفغانية إلى طرف معلن وفاعل ومعترف به من كافة الأطراف بالداخل الأفغاني.

لم يدرب فيلق القدس لواء “فاطميون” ليكون جيشا سريا ينفذ عمليات إرهابية خاطفة ضد خلايا داعش أو لاستهداف خصوم طهران وفق ما تستدعيه الظروف ويعود إلى مخابئه، إنما أسسه ليصبح ذراعًا عسكرية حاميةً لمكتسبات عرقية الهزارة الشيعية السياسية وساعيةً لتحقيق المزيد منها وفق مخطط مرحلي يراوح بين المناورة والضغط وبين الخشونة والليونة.

ومن المرجح أن تعطي طهران الضوء الأخضر لمقاتليها للبدء في تنفيذ عمليات عسكرية لخلط الأوراق في المشهد الأفغاني، في حال ذهبت الأمور بضغوط دولية وأميركية إلى توقيع اتفاق سلام بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان واقتسام للسلطة بينهما يخدم الأهداف الغربية.

تعتمد إيران في المقام الأول على تحالفها النوعي مع طالبان في حال واصلت الحركة القتال للهيمنة بشكل كامل على السلطة، بالتوازي مع تحسين أوضاع الهزارة الشيعة السياسية والاقتصادية وفرض ميليشيا “فاطميون” التي عاد مؤخرًا نحو عشرة آلاف من مقاتليها إلى أفغانستان لتصبح رقمًا في المعادلة المستقبلية بالتوافق مع طالبان، تحت ذريعة حماية الشيعة ومواجهة داعش والميليشيات السنية المسلحة.

وسواء قامت إيران عبر لواء “فاطميون” بنشر الفوضى وإعاقة أي استقرار أمني، حال توصلت طالبان إلى اتفاقية سلام مع كابول، أو وظفته كذراع عسكرية حامية لمكتسبات الشيعة وتأمين نفوذها على حدودها الشرقية، فلن تكون أفغانستان بعيدة عن النموذج العراقي الذي تفضله.

تحرص طهران على استغلال الوضع الأمني المضطرب وذرائع التصدي لداعش ومكافحة الإرهاب السني للدفع بعناصر ميليشيا “فاطميون” إلى أفغانستان والعمل على دمجهم ضمن القوات الأفغانية في سياق الواقع الجديد الذي تفرضه طالبان، على غرار ميليشيا الحشد الشعبي في العراق.

تتضاعف فرصُ مدِّ النفوذ بين الأقلية الشيعية جراء الفراغ الدولي بالنظر إلى حجم هذه الأقلية وثقلها في موازين القوى الداخلية

وتهدف من وراء ما تخطط له، في ما يتعلق بتكريس نفوذها داخل الأجهزة الأمنية من خلال كيانات موالية لها تتلقى أوامرها منها، إلى حماية مصالحها في كابول وتأمين حدودها الشرقية والحفاظ على تدفق المياه من أفغانستان والتعامل مع ملايين اللاجئين على أراضيها والتصدي لتجارة المخدرات، علاوة على تعطيل المصالح الأميركية في المنطقة وتوسيع نفوذها السياسي ونشاطها الاستخباراتي في الداخل الأفغاني.

وكشف إيجاد ذراع عسكرية طائفية لمواجهة القوى السنية مساعي إيران لاستباق الحرب الأهلية التي يتوقعها البعض بعد انسحاب القوات الأميركية، لأن توسع نفوذ لواء “فاطميون” من شأنه أن يخلق بعدا طائفيا للصراع الذي يُتوقع أن يتحول من مشاحنات ومواجهات عرقية إلى اقتتال سني شيعي يكرس البعد الطائفي، ويهدد أمن المنطقة بأسرها.

ويرمي إيواء إيران قرابة الثلاثة ملايين لاجئ أفغاني منذ تسعينات القرن العشرين ومباشرة استقطاب أعداد كبيرة منهم وتدريبهم وتسليحهم والدفع بهم إلى أفغانستان إلى بناء جبهات قتال موالية لإيران، وينطوي على استباق سيناريوهات انتقال أفغانستان إلى فوضى جديدة.

ويتيح الإعداد العسكري الميليشياوي المبكر لإيران تأمين حضورها ونفوذها بعد الانسحاب، حال نشوب صراع مسلح موسع يرجحه فقدان الحكومة المركزية نفوذها في كابول تدريجيًا، فضلًا عن تحفُز الأطراف الداخلية لتحصيل الحد الأقصى من المكاسب.

ويفضي نشوب حرب أهلية في ظل التنافس على السلطة بين مقاتلي طالبان وما تبقى من الجيش الأفغاني إلى منح أطراف متحالفة مع طرفي الصراع الرئيسيين فرصة تكريس الوجود العسكري، وفي مقدمتها الهزارة الشيعة ولواء “فاطميون” وما يُعرف بالتحالف الشمالي الذي يتشكل من الأوزبك والطاجيك، مع مراعاة علاقات طهران الجيدة بالطاجيك.

إيران استغلت الظروف الصعبة لأبناء قومية الهزارة الأفغانية في ظل وجود نحو ثلاثة ملايين لاجئ منهم على أراضيها، ما دفع فيلق القدس إلى تجنيد عدد كبير منهم

وإذا فرض هذا السيناريو نفسه على الواقع الأفغاني فمن غير المستبعد أن تشرع إيران في السيطرة على غرب أفغانستان، معتمدة على حضور وانتشار الشيعة الهزارة بوسط البلاد وعلى جهود مقاتلي لواء “فاطميون”، بينما تفرض طالبان هيمنتها على المناطق الجنوبية التي تقع في دائرة نفوذها حاليًا بالتوازي مع سعيها للسيطرة على المزيد من عواصم الأقاليم.

ومن المرجح أن يعيد تحالف الشمال ترتيب أوراقه وتنظيم صفوفه بينما تخطط تنظيمات، مثل داعش والقاعدة، للاستفادة القصوى من المستجدات على الأرض، فيما ستحكم شبكة “حقاني” المصنفة على القائمة الأميركية للإرهاب سيطرتها على شرق أفغانستان. وتجد طهران فرصتها كلما تداخلت الأوراق وتقطعت السبل في الدولة، وهو ما تنتظره منذ فترة.

العرب