أثار الاتفاق الذي وقَّعته الأطراف المتصارعة في جنوب السودان، الحكومة برئاسة “سيلفا كير” والمعارضة المسلحة بقيادة نائبه المعزول “رياك مشار”، في أغسطس/آب 2015 عدة تساؤلات حول أسباب وملابسات توقيعه، وأهم البنود والتحفظات عليه خاصة من قبل الحكومة، ثم مدى نجاحه في تحقيق الاستقرار في هذه الدولة الوليدة التي لم يمر على استقلالها سوى أربع سنوات ونصف خاضت نصفها تقريبًا في حروب أهلية بين شركاء الأمس “كير ومشار” مما أسفر عن مقتل أكثر من عشرة آلاف شخص وفرار قرابة ستمائة ألف إلى دول الجوار.
أسباب توقيع الاتفاق
تعددت الأسباب الدافعة لتوقيع الاتفاق، ولعل من أبرزها سببين:
-
الأول داخلي: يتمثل في عدم نجاح الحكومة في الحسم العسكري ضد المعارضة المسلحة والتي نجحت في الاستيلاء على مناطق النفط الحيوية في ولايات أعالي النيل والوحدة، فضلًا عن ولاية جونجلي. وهي الولايات التي تهيمن عليها قبيلة النوير التي ينحدر منها مشار والتي تعد المنافس القوي لقبيلة الدينكا الحاكمة التي ينحدر منها كير. هذا الفشل أسهم في إطالة أمد الحرب الأهلية منذ ديسمبر/كانون الأول 2013 وحتى توقيع اتفاق السلام.
-
الثاني خارجي: ويتمثل في وجود ضغوط دولية على الطرف الحكومي تحديدًا للقبول بهذا الاتفاق. هذه الضغوط قادتها بالأساس الولايات المتحدة، ويبدو أن لها علاقة بسيطرة المعارضة المسلحة على مناطق النفط في البلاد. هذه الضغوط جعلت كير يرضخ في نهاية الأمر ويقوم بتوقيع الاتفاق بعد قيامه بتسليم هيئة الإيجاد “الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا” 16 تحفظًا له عليه. كما أن تلويح مجلس الأمن بإمكانية التدخل وفرض عقوبات، جعلته يقوم بالتوقيع في السادس والعشرين من أغسطس/آب قبل انتهاء المدة المحددة له بخمسة أيام.
أبرز بنود الاتفاق
لقد تضمن الاتفاق العديد من البنود التي تتعلق بالمرحلة الانتقالية التي تستمر 30 شهرًا، وكذلك الترتيبات الأمنية المتعلقة بوضع القوات المتحاربة والقوات الخارجية الداعمة لها “مثل القوات الأوغندية الداعمة لكير”، فضلًا عن عملية تقاسم السلطة بينهما، والإشراف الإقليمي والدولي عليه.
ففيما يتعلق بتقاسم السلطة، نصَّ الاتفاق على عملية تقاسم السلطة بنسب متفاوتة على مختلف المستويات الوطنية والولائية المحلية كذلك، بدءًا من رأس السلطة التنفيذية مرورًا بالحكومة الوطنية؛ فالمجلس التشريعي الوطني، وصولًا إلى حكومات الولايات العشر التي تتشكَّل منها البلاد.
ويلاحَظ قبل الخوض في تفصيل هذه البنود أن طرفي عملية التقاسم كانا بالأساس الحكومة الموجودة فعليًّا برئاسة كير، والمعارضة المسلحة بقيادة مشار، مع عدم تجاهل الأطراف الأخرى في المجتمع “المعتقلين السابقين، الأحزاب السياسية، المرأة، وغيرها”، وإن كان تمثيلها بنسب أقل.
أولًا: بالنسبة للسلطة التنفيذية خلال المرحلة الانتقالية(1)
فقد نصَّ الاتفاق على أنها تتشكَّل بالأساس من الرئيس والنائب الأول للرئيس (وهو منصب تم استحداثه لم يكن موجودًا من قبل)؛ فضلًا عن نائب الرئيس، ثم الحكومة المركزية.
وبالنسبة لمنصب الرئيس فقد تم الاتفاق على أنه سيكون من نصيب سيلفا كير، وفي حالة حدوث عجز دائم أو إعاقة تمنعه من الاستمرار في عمله، فإن حزبه الحاكم يقوم باختيار بديل له خلال 24 ساعة على الأكثر (المادة 5 من الفصل الأول، مادة 3-3).
أمَّا بالنسبة لمنصب النائب الأول للرئيس فبموجب المادة 6، فقرة 1 من الفصل الأول، هو منصب تم استحداثه خلال المرحلة الانتقالية للإشراف وتنفيذ الإصلاحات والمهام الواردة في الاتفاقية وسوف يُلغى مع انتهاء المرحلة ما لم يُقِر الدستور الدائم أمرًا آخر. هذا النائب الأول سيتم اختياره من المعارضة المسلحة لجنوب السودان (أي: جبهة رياك مشار) المادة 6، فقرة 2. وفي حالة شغور المنصب لظرف ما خلال المرحلة الانتقالية تقوم القيادة العليا في المعارضة المسلحة باختيار بديل خلال 24 ساعة (المادة 6، فقرة 4).
لكن الأمر المهم في هذا الشأن هو تأكيد الاتفاقية على فكرة اتخاذ القرارات الرئاسية بصورة جماعية في العديد من الأمور المهمة، بمعنى أنه لابد من أن تحظى قرارات الرئيس بموافقة النائب الأول في بعض القضايا، مثل: تعيين أعضاء المحكمة الدستورية ومحافظي الولايات، وكذلك التكليف والتعيين والترقية والتقاعد وإقالة ضباط الجيش الوطني NDFSS والقوات النظامية الأخرى (المادتان 8-1-1، 8-1-2).
كما حددت الاتفاقية كذلك مجموعة من القضايا الأخرى التي تتطلب ليس فقط موافقة نائبه الأول، ولكن نائبه أيضًا، ومنها قضايا إعلان وإنهاء حالة الطوارئ وإعلان الحرب (8-2-1، 8-2-2).
وربما كانت هذه البنود السابقة أحد أبرز تحفظات سيلفا كير، على اعتبار أنها تمنح خصمه مشار تحديدًا حقَّ النقض “الفيتو” على القرارات المهمة، أو كما وصفها عند توقيع الاتفاق، فإنها بمثابة “منحة أو مكافأة للمتمردين”.
ثانيا: بالنسبة لتوزيع مقاعد الحكومة
لقد حددت الاتفاقية في المادة 10 توزيع المقاعد الحكومية على النحو التالي:
حكومة جنوب السودان برئاسة كير: 53% من الوزراء، 16 وزيرًا، القوات المسلحة للمعارضة: 33%، 10 وزراء، المعتقلون السابقون 7%، وزيران، القوى الأخرى 7%، وزيران.
أمَّا بالنسبة لمجالس الولايات التي تخضع لسيطرة المعارضة المسلحة، وهي: جونجلي، والوحدة، وأعالي النيل، فقد تم الاتفاق على توزيعها وفق النسب التالية:
الحكومة الحالية 46%، المعارضة المسلحة 40%، المعتقلون السابقون 7%، الأحزاب الأخرى 7%. وبالنسبة لحكام هذه الولايات فقد تم النص على أن تقوم المعارضة المسلحة باختيار حاكمي ولايتي الوحدة وأعالي النيل، مقابل اختيار حزب كير لحاكم ولاية جونجلي.
وهنا يلاحظ أن عملية التقسيم هذه كانت إحدى النقاط التي تحفَّظ عليها كير، لأنه كان يطالب برفع نسبة حكومته لتصبح 70% لاسيما في ظل وجود النفط في هذه الولايات.
ثالثا: بالنسبة للترتيبات الأمنية
كانت هذه من أهم النقاط التي أثارت حفيظة كير تحديدًا، وربما كان أحد أسباب طلبه تأجيل التوقيع على الاتفاق، وفي المقابل كان واضحًا وجود حرص من الوسطاء سواء في الإيجاد، أو الترويكا على ضرورة وضع نصوص محكمة تحول دون تكرار انتهاكات وقف إطلاق النار لاسيما بعد فشل قرابة خمس اتفاقيات سابقة في هذا الشأن.
لذا تضمنت الترتيبات الأمنية التي جاءت في الفصل الثاني من الاتفاقية ما يلي:
-
إن الأطراف المتحاربة عليها اتخاذ مجموعة من الإجراءات والترتيبات المتعلقة بالوقف الدائم لإطلاق النار بما في ذلك وقف العدائيات، والفصل بين القوات، وسحب هذه القوات وكذلك حلفاء كل طرف من مسرح العمليات استنادًا لاتفاقية 23 يناير/كانون الثاني 2014، والامتثال والخضوع لآلية الرصد والمراقبة Monitoring and Verification Mechanism (MVM) (المادة 1-4).
-
تتفق الأطراف المتحاربة على سحب كل القوات الداعمة أو المتحالفة معها (الأطراف الإقليمية) خارج البلاد خلال 45 يومًا من توقيع الاتفاق (في إشارة إلى القوات الأوغندية المتدخلة لدعم كير) (المادة 1-5).
3. تتفق الأطراف المتحاربة على الفصل والتجميع والإيواء لقواتها المتقاتلة خلال 30 يومًا من توقيع الاتفاقية من أجل جمع الأسلحة والمعدات، ونزع السلاح، وتسريح القوات، على أن يتم تشكيل اللجنة الوطنية للوقف الدائم لإطلاق النار والقوات الموحدة من القيادة العسكرية للطرفين وبمساعدة نواب رؤساء الأركان للإشراف على هذه المهام، فضلًا عن عملية تشكيل الجيش الوطني الموحد.
وبمجرد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، فإن آلية المراقبة والتحقق التابعة لمنظمة الإيغاد سوف تتحول لتصبح آلية مراقبة وقف إطلاق النار والترتيبات الأمنية الانتقالية المعنية بمراقبة مدى التقدم المتحقق في ذلك ورفع تقارير مباشرة للجنة المشتركة للمراقبة والتقييمJoint Monitoring and Evaluation Commission، ومعنى هذا أن الإشراف على العملية الأمنية سيكون من قبل الطرف الإفريقي لضمان عدم حدوث انتهاكات لوقف إطلاق النار كما كان يحدث من قبل. وقد انتقدت الحكومة أيضًا عدة فقرات من هذه الترتيبات لاسيما تلك المتعلقة بسلطات اللجنة المشتركة لمراقبة الاتفاق وتقييمه، لكونها ستشرف على مؤسسات البلاد ومنها الحكومة الانتقالية.
كما أثار حفيظة الحكومة تلك النقطة المتعلقة بنزع السلاح من العاصمة جوبا وخروج جميع القوات المتحاربة منها خلال 90 يومًا من الاتفاقية (المادة 5 فقرة 1 من الفصل الثاني)، مع تشكيل حرس جمهوري من الفريقين يكون مسؤولًا عن إدارتها؛ حيث اعتبرتها بمثابة انتقاص من مسألة السيادة على العاصمة. لكن هذا التحفظ قوبل أيضًا بالرفض.
ملاحظات ختامية
من العرض السابق يمكن استخلاص مجموعة من الملاحظات الختامية، أبرزها ما يلي:
-
انعكاس سير المعارك العسكرية خلال فترة الحرب الأهلية على الاتفاق وبنوده؛ حيث إنه يميل لصالح المعارضة بسبب نجاحها في السيطرة على الولايات المهمة في البلاد؛ وهو ما يعني أن التفاوض السياسي انعكاس للوضع العسكري الميداني.
-
وجود شبه انحياز من جانب الوسيط الدولي وكذلك الإقليمي لصالح المعارضة المسلحة بدليل رفض كل تحفظات كير قبل وبعد التوقيع. هذا الانحياز ربما تفسره عدة أمور، منها: صعوبة تحقيق استقرار في البلاد في ظل استحواذ كير وقبيلته الدينكا على كل مفاصل البلاد، وكذلك سيطرة مشار على الولايات النفطية ربما يفسر الجانب المصلحي في هذا الانحياز.
-
أن المؤشرات الأولية منذ التوقيع وحتى الآن تشير إلى أن هذا الاتفاق ربما يلقى حالة من النجاح لم تكن متوفرة لسابقيه، خاصة في ظل التلويحات الدولية بإمكانية استصدار قرارات عقابية من مجلس الأمن ضد الطرف الذي ينتهك الاتفاق. ولعل تصديق المجلس التشريعي بالإجماع عليه يعد أحد المؤشرات المهمة في هذا الصدد.
___________________________
د. بدر حسن شافعي
مركز الجزيرة للدراسات