يمكن القول إن جدل الانتخابات الرئاسية في إيران والمخاوف من تراجع نسبة الإقبال الشعبي على المشاركة في عملية الاقتراع، دفعت قوى السلطة والنظام إلى الاعتراف مكرهة بالمستوى المتدني للمشاركة في الانتخابات البرلمانية التي شهدتها إيران في يناير (كانون الثاني) 2020، ووصف هذا التراجع بأنه مؤشر واضح على تنامي حالة الاعتراض والنقمة الشعبية من الأوضاع السائدة والأزمات الاقتصادية والمعيشية. إلا أن هذه القوى عمدت إلى ربط هذه الأزمات بسوء إدارة حكومة الرئيس حسن روحاني وفشلها في اجتراح الحلول المطلوبة، في محاولة لإبعاد التهمة عن قوى السلطة والدور السلبي الذي مارسته لافراغ المنجز الأساس الذي راهنت عليه الحكومة لتحقيق نقلة تنموية واقتصادية جراء التوقيع على الاتفاق النووي، إضافة إلى السلوك التخريبي الذي قامت به بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي وإعادة العقوبات بشكل أكثر قسوة وشمولية.
لا شك في أن الاجتماع الإيراني يدرك وبشكل كبير أهمية دور المشاركة في العملية الانتخابية بما تمثله من طموح نحو التغيير الديمقراطي، ويعرف أيضاً مدى تأثير العزوف أو المقاطعة، لما تشكله من تعبير اعتراضي واضح وفي الوقت نفسه صامت على الاختلاف في نظرته إلى هذه العملية الديمقراطية عن نظرة السلطة والدولة العميقة الممثلة للنظام التي ترى في المشاركة الشعبية أنها حركة مهمتها إعادة إنتاج شرعية النظام بغض النظر عن مطالبها المحقة أو تلبية لنزوعها للتغيير في طبيعة الحكم وآليات القيادة والإدارة. وعليه، فمن غير المنطقي اتهام الشعب الإيراني بالجهل وعدم إدراك فلسفة ومنطق الاقتراع والانتخاب، كما يحاول منظرو السلطة والتيار المحافظ تقديمه كمسوغ لتراجع نسبة المشاركة أو العزوف الشعبي عنها.
المشاركة في حسابات التيارين
وفي قراءة واقعية لمؤشرات العزوف عن المشاركة، يمكن القول إنها لا تستهدف قوى السلطة والنظام فحسب، بل تشمل في سلبيتها القوى الإصلاحية التي راهنت ولا تزال تراهن على عودتها إلى السلطة ومراكز القرار بضغط من المشاركة الشعبية الواسعة. لأن التيارين المحافظ والإصلاحي، يريان في المشاركة الواسعة رفعاً لحظوظ التيار الإصلاحي بالعودة إلى رئاسة الجمهورية أو البرلمان أو المراكز المرتبطة بالعملية الانتخابية، وإذا كان المحافظون لا يرغبون في زيادة الحشود المشاركة لضمان نجاح مرشحيهم، على العكس من الإصلاحيين، فإن قيادة النظام والدولة العميقة تتعارض في رؤيتها مع رؤية القوى المحافظة، فالهاجس الذي يشغل هذه القيادة هو العلاقة المتوازية بين شرعية النظام والمشاركة الشعبية، والتي توفر له في حال اتساعها ورقة قوة في مواجهة التشكيك بتمثيله الشعبي وشرعيته الديمقراطية.
ويكشف تسريب الحوار الذي جرى بين رئيس السلطة القضائية إبراهيم رئيسي مع السكرتير الأمني للمرشد الأعلى أصغر مير حجازي والمتعلق بموقف المرشد من المطالب الصادرة عن قوى التيار المحافظ التي تدعوه إلى إعلان ترشحه، والتساؤل الذي طرحه حجازي في هذا الحوار حول قدرة رئيسي على تكرار تجربة انتخابات 2017 والحصول على نحو 16 مليون صوت مرة ثانية.
فهذا الحديث – بغض النظر عن صحته أو عدمها- لا شك أنه يدور في كواليس مراكز القرار وبيت ومكتب المرشد الأعلى الذي يبدو أن الشغل الشاغل له في هذه الأيام هو البحث عن شخصية تكون قادرة على تحريك الشارع الشعبي وإقناعه بالخروج من حالة العزوف والمقاطعة، وقد لا يكون الانتماء الواضح لهذه الشخصية للتيار المحافظ شرطاً لدى المرشد ليدفع بها إلى السباق الرئاسي ودعمها كمرشح توافقي يحقق الحد الأدنى من الشروط المطلوبة كالالتزام بالدستور ومبدأ ولاية الفقيه.
البحث عن التسوية
وفي الوقت الذي يبحث فيه المرشد الأعلى عن تسوية بين القوى السياسية تنتج انتخابات رئاسية ومشاركة شعبية حامية وواسعة، لا تزال قوى التيار المحافظ عاجزة عن فهم المتحول الشعبي الذي لم يعد سوى في جزء منه في المناطق الحضرية وفي المناطق الريفية يستجيب لخطاب هذه الأحزاب والقوى ذات الطابع الديني المتشدد، وهي في أفضل التقديرات لا تتجاوز نسبتها في كل إيران 20 في المئة من الشعب أو الشريحة الناخبة، في حين أن غالبية الشرائح الاجتماعية لم يعد الخطاب الديني مغرياً أو محركاً لها في جانب التوظيف السياسي. ما يعني أن هذه القوى، إما أنها لم تلجأ إلى إعادة تقييم دور وتأثير هذا الخطاب، وإما أنها جعلت منه غطاء يعطي تصرفاتها الشرعية الدينية والمذهبية للتخلص من المنافسين أو الخصوم على مبدأ الدفاع عن قيم الثورة والنظام الإسلامي المنبثق منها.
وعليه، فإن لجوء هذه القوى المحافظة إلى اعتماد مقولة أن المشاركة والاقتراع في الانتخابات هما “واجب شرعي وديني” وتعبير عن الوفاء “لإمامي الثورة” (الخميني والخامنئي) وتجديد العهد مع ولاية الفقيه وما تعنيه من الطاعة والتبعية لهذين الرجلين كواجب ودليل على الولاء لهما بما يبرئ الذمة أمام الله، يشير إلى أنها- أي هذه المقولة- لم تعد مؤثرة سوى لدى شريحة ضيقة من الإيرانيين سبقت الإشارة لها. وأن التركيز عليها يكشف انفصام هذه الأحزاب عن التحولات التي طرأت على الاجتماع الإيراني الذي تحول الدين والمذهب لديه إلى شأن خاص بعيداً من السياسة وتوظيفاتها، وأن المجتمع وصل إلى حالة من النضج وبات قادراً على ممارسة دوره المحاسبي وإن كان بأسلوب سلبي وصامت، للتعبير عن الأولويات التي تشغله منها الأزمات الاقتصادية والمعيشية وتفشي الفساد والهدر في الدولة والنظام، وحاجته إلى من يقود البلاد ويكون قادراً على اتخاذ القرار الحاسم في مواجهة مراكز القوى التي تعيق حركة الدولة ومؤسساتها ويكون قادراً على وضع إيران على سكة التنمية والنهوض الداخلي والخارجي وبناء علاقات متوازنة مع العالم بعيداً من التوتر والتفتيش المستمر عن عدو يُحمّل مسؤولية الأزمات حتى تلك المرتبطة بالفشل الإداري.
حسن فحص
اندبندت عربي