متلازمة هافانا.. لغز محير يقلق الولايات المتحدة

متلازمة هافانا.. لغز محير يقلق الولايات المتحدة

مرت أكثر من أربع سنوات على الإبلاغ عن تعرض دبلوماسيين وموظفين أميركيين لهجوم غامض في كوبا يعتقد على نطاق واسع أنه تم باستخدام سلاح ميكروويف الذي يؤثر بشكل مباشر على الأدمغة والأعصاب ويسبب الارتجاج.

ولا تزال الولايات المتحدة حتى اللحظة تحقق في تلك الهجمات الغامضة، إضافة إلى تسجيل إصابات جديدة داخل البلاد وخارجها بنفس طريقة الهجوم الذي وقع في هافانا أواخر العام 2016.

وتواجه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ضغوطات داخلية عديدة للكشف عمّا جرى في العاصمة الكوبية وأماكن أخرى، إضافة إلى ضرورة الكشف عن الخصم المحتمل الذي يقف وراء تلك الهجمات الغامضة.

ويضغط مجلسا الشيوخ والنواب على الإدارة الأميركية من أجل معرفة تفاصيل تلك الهجمات، والإجابة عن تساؤلات تتعلق أساسا بمعرفة نوعية الأداة أو السلاح المستخدم، وهل فعلا تم استخدام سلاح الموجات الراديوية أو الميكروويف لمهاجمة أدمغة الموظفين الأميركيين؟

وتعززت تلك التساؤلات مع الأعراض الجسمانية المتشابهة التي ظهرت على عدد كبير من الدبلوماسيين والعسكريين والجواسيس الأميركيين في هافانا وأماكن أخرى حول العالم.

واضطرت وكالة الاستخبارات الأميركية، التي لم تكشف حتى اللحظة عن أي تفاصيل تتعلق بالهجمات، إلى غلق محطتها في هافانا وسحب الدبلوماسيين والموظفين من البعثة الدبلوماسية. وتتكتم الأجهزة الأميركية المختلفة بشدة حول أسرار ما جرى في العاصمة الكوبية، إضافة إلى الحديث عن أسباب وقوع نفس الحادثة أواخر نوفمبر الماضي قرب البيت الأبيض وتسجيل حوادث أخرى مشابهة في عام 2019.

يقول علماء ومسؤولون حكوميون إنهم ليسوا متأكدين بعد من الطرف الذي قد يكون وراء أي هجمات، أو ما إذا كانت الأعراض التي ظهرت على الدبلوماسيين والموظفين قد نتجت عن غير قصد عن طريق معدات المراقبة، أو إذا كانت الحوادث في الواقع هجمات ناتجة عن استخدام سلاح ميكروويف.

وأطلق على المعضلة اسم “متلازمة هافانا” نسبة إلى أن تسجيل أولى الحالات على الموظفين كان في سنة 2016 بالسفارة الأميركية في كوبا. ويخضع حاليا للتحقيق ما لا يقل عن 130 حالة إجمالا في صفوف الإدارة الأميركية مقارنة بعشرات من الحالات المسجلة خلال العام الماضي، وفقا لمسؤول عسكري أميركي لم يكن مخولًا لمناقشة التفاصيل علنا.

ويسود القلق داخل الولايات المتحدة على وجه الخصوص بعد الكشف عن حادثين محتملين على الأٌقل في منطقة واشنطن بما في ذلك حالة واحدة بالقرب من البيت الأبيض في نوفمبر حين أبلغ مسؤول عن شعوره بالدوار.

ويقول الأشخاص الذين تعرضوا لهجمات إنهم أصيبوا بالصداع والدوار والأعراض المتوافقة مع الارتجاج، إضافة إلى أن بعضهم احتاج إلى أشهر من العلاج الطبي. كما أبلغ البعض عن سماع ضوضاء عالية قبل ظهور الأعراض المفاجئة.

وحدد أحد التحليلات الرئيسية عن تلك الهجمات “طاقة الترددات الراديوية النبضية الموجهة” باعتبارها السبب الأكثر منطقية. ونقلت وكالة أسوشيتد برس عن تقرير للأكاديمية الوطنية للعلوم أن هجوم التردد اللاسلكي يمكن أن يغير وظائف المخ دون التسبب في “أضرار هيكلية جسيمة”. لكن اللجنة لم تتمكن من التوصل إلى نتيجة نهائية حول كيفية إصابة الأفراد الأميركيين.

وتشير وثيقة رفعت عنها السرية وصادرة عن وزارة الخارجية الأميركية في العام 2018 إلى “الافتقار إلى القيادة العليا والاتصالات غير الفعالة والفوضى المنهجية” في الرد على قضايا هافانا. ويقول التقرير إن سبب الإصابات “غير معروف حاليا”. ونشر أرشيف الأمن القومي بجامعة جورج واشنطن الوثيقة.

تحقيقات بلا نتائج
Thumbnail
يقود مجلس الأمن القومي الأميركي تحقيقات حول ملابسات الأعراض التي ظهرت على الدبلوماسيين والموظفين والعسكريين الأميركيين في أماكن مختلفة حول العالم سواء تلك التي وقعت في هافانا أو الحوادث الجديدة المسجلة داخل الولايات المتحدة.

وتقدم الإدارة الأميركية في الوقت الحالي تأكيدات للأشخاص الذين تعرضوا لهجمات محتملة بأسلحة ميكروويف بأنها تأخذ الأمر على محمل الجد، وتحقق فيه وستتأكد من حصول المتضررين على رعاية طبية جيدة.

ويتهم المدافعون عن المتضررين حكومة الولايات المتحدة بالفشل في التعامل مع المشكلة بجدية أو توفير الرعاية الطبية والمزايا اللازمة للأشخاص الذين تعرضوا لهجمات.

ويقول مارك زيد، وهو محام يمثل العديد من الأشخاص المتضررين، إن “الحكومة لديها فهم أفضل بكثير مما صرحت به” حول الحوادث التي جرت في هافانا وأماكن مختلفة حول العالم.

وينقل زيد عن وثائق حصل عليها من وكالة الأمن القومي تشير إلى أن لديها معلومات تعود إلى أواخر التسعينات من القرن الماضي عن “دولة معادية” غير محددة من المحتمل أنها تمتلك سلاح ميكروويف “لإضعاف العدو أو ترهيبه أو قتله بمرور الوقت”.

وتشير تقارير صحافية أميركية مختلفة إلى الصين وروسيا كدولتين محتملتين بالوقوف وراء الهجمات أو أنهما تمتلكان تلك الأسلحة المتطورة غير التقليدية.

وفي يونيو عام 2018 قالت وزارة الخارجية الأميركية إنها أعادت دبلوماسيين من قوانغتشو بالصين خوفا من تعرضهم لأعراض مماثلة للتي ظهرت في هافانا.

هجوم التردد اللاسلكي يمكن أن يغير وظائف المخ دون التسبب في “أضرار هيكلية جسيمة”، ويعتقد أن المتضررين تعرضوا لطاقة الترددات الراديوية الموجهة

وقاد كريستوفر ميلر، وزير الدفاع بالوكالة خلال الأشهر الأخيرة لإدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، فريقا في البنتاغون للتحقيق في الهجمات المشتبه بها، وذلك بعد أن التقى بجندي في أواخر العام الماضي وصف كيف أنه أثناء خدمته في بلد لم يحدده ميلر سمع صوتا قبل إصابته بصداع شديد.

ويقول ميلر لوكالة أسوشيتد برس “لقد كان مدربا جيدا.. هذا أميركي، وعضو في وزارة الدفاع. في هذه المرحلة، لا يمكنك تجاهل ذلك”.

ويعد مسؤولو الدفاع والاستخبارات في الولايات المتحدة علنا بالضغط من أجل الحصول على إجابات ورعاية أفضل للأشخاص الذين يعانون من الأعراض، خاصة بعد تسجيل إصابات جديدة وزيادة التفاعل الإعلامي الواسع مع قضاياهم التي كانت طي الكتمان في السنوات الأخيرة.

ويقول توماس كامبل، المتحدث باسم وزارة الدفاع، إن أسباب أي حوادث أصبحت محل تحقيق نشط.

وشهد مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز أمام الكونغرس أنه سيجعل التحقيق في تلك الهجمات “أولوية قصوى للغاية لضمان حصول زملائي على الرعاية التي يستحقونها وأننا نصل إلى حقيقة سبب هذه الحوادث وهوية المسؤول عنها”.

ولم يحدد المسؤولون الأميركيون في السنوات الأخيرة دولة مشتبها بها، على الرغم من أن بعض الأشخاص المتضررين يشتبهون بالتورط الروسي سواء في هافانا أو أماكن أخرى.

وتقول صحف أميركية إن أجهزة الاستخبارات رصدت اتصالات لجواسيس روس في أماكن وجود الدبلوماسيين في العاصمة الكوبية سنة 2016، لكن لم تؤكد جهات رسمية في الولايات المتحدة حتى اللحظة تلك المعطيات.

تكتم رسمي
يتلقى مدير وكالة المخابرات المركزية تحديثات يومية بشأن التحقيق الذي يشمل الموظفين الذين أبلغوا عن حالات مشابهة هذا العام. والتقى أبرز مسؤول استخباري في الولايات المتحدة مع أولئك الذين أبلغوا عن وقوع إصابات وكذلك مسؤولي وكالة المخابرات المركزية الآخرين.

وعملت الوكالة على تقليل وقت الانتظار لموظفيها لتلقي العلاج في العيادات الخارجية. كما استبدلت كبير المسؤولين الطبيين بطبيب ينظر إليه داخليا على أنه أكثر تعاطفا مع الحالات المحتملة للتعرض لهجوم بسلاح ميكروويف.

ويقول مارك بوليمروبولوس، من وكالة المخابرات الأميركية ويبلغ من العمر 26 عاما، شخصت إصابته الدماغية عقب زيارة لروسيا في عام 2017 “لقد عولجنا بشكل فظيع في الماضي. والآن هم يعيّنون الأشخاص الذين يصدقوننا وسيدافعون عن رعايتنا الصحية”.

وتشير تلك التصريحات إلى عمق التكتم الذي ساد حول قضية التعرض لهجمات بسلاح ميكروويف أو هجمات “موجهة” بترددات الراديو.

وكانت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارين جان بيير قد رفضت أواخر أبريل الماضي تأكيد أو تقديم أي تفاصيل بشأن وقائع محتملة في الولايات المتحدة عامي 2019 و2020 تبدو مماثلة لما يشتبه بأنها هجمات موجهة بترددات الراديو تسببت في مرض غامض.

ويفتح التكتم حول نوعية الهجمات وطبيعتها الباب أمام تساؤلات حول نوعية السلاح المستخدم أو السبب الأساسي الذي يدفع الإدارة الأميركية وأجهزتها الاستخبارية إلى عدم الحديث عن الموضوع بشكل واضح وصريح في ظل تزايد عدد حالات الإصابات التي وصلت داخل الولايات المتحدة.

وتعهدت الإدارة الأميركية السابقة في أكتوبر الماضي بتخصيص “موارد حكومية أميركية كبيرة” لحل هذا اللغز الذي تأثر فيه أكثر من 40 موظفا حكوميا أميركيا بين عامي 2016 و2018.

وفي أوائل مايو تعهد كل من رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الديمقراطي مارك وورنر ونائبه الجمهوري ماركو روبيو بالكشف عن ملابسات تسجيل حالات جديدة من الهجمات الغامضة على مسؤولين أميركيين في جميع أنحاء العالم.

وقالا في بيان مشترك “يبدو أن هذا النوع من الهجمات ضد مواطنينا الذين يعملون لصالح الحكومة يشهد زيادة”، مؤكدين ضمنيا ما كشفته شبكة “سي.إن.إن” عن هجومين وقعا مؤخرا على الأراضي الأميركية.

استهداف الأدمغة
جيمس جيوردانو: لدى الأشخاص المتضررين إصابات عصبية
جيمس جيوردانو: لدى الأشخاص المتضررين إصابات عصبية
تقول السلطات الأميركية منذ أول إبلاغ عن حالات الإصابات بالمرض الغامض سنة 2016 إن “التحقيق لا يزال مستمرا” دون الكشف عن تفاصيل رسمية حول تلك الهجمات، لكن ماذا يقول الطب حول ما تعرض له الأشخاص وظهور أعراض الغثيان والصداع والدوار وأعراض أخرى غامضة؟

تشاور الدكتور جيمس جيوردانو وهو أستاذ علم الأعصاب في جامعة جورج تاون مع وزارة الخارجية الأميركية بشأن الحالات المسجلة في هافانا، واطّلع على الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة وخارجها.

ولاحظ جيوردانو بعد مراجعة سجلات الأشخاص المتضررين في هافانا وجود أدلة على إصابات عصبية لدى عدة أشخاص، مما يشير إلى أنهم ربما أصيبوا بموجات الراديو.

وحدد اثنين من الجناة المحتملين: جهاز يستخدم عن قصد لاستهداف الضحايا المحتملين أو أداة تستخدم موجات الطاقة الموجهة لإجراء المراقبة التي قد تكون أضرت عن غير قصد بالأشخاص المستهدفين.

ويكشف أستاذ علم الأعصاب أن إحدى هجمات نوفمبر الماضي خارج البيت الأبيض كانت لها “أوجه تشابه كبيرة” مع متلازمة هافانا، مشيرا إلى أن الحكومة الأميركية لم تصرح له ليقدم توضيحا أكبر.

ويقول جيوردانو “من الصعب للغاية، إن لم يكن من المستحيل، تزييف نتائج معينة للتقييمات السريرية الموضوعية أو تحريفها. فهناك أشياء معينة لا يمكنك أن تجعل أعصابك تفعلها أو لا تفعلها”.

وعلى الرغم من النتائج الظاهرة على أكثر من صعيد إلا أن هناك علماء آخرين ما زالوا متشككين بشأن استخدام سلاح غير تقليدي في الهجمات الأخيرة أو هجمات هافانا.

وجادل الدكتور روبرت بالوه من جامعة كاليفورنيا لوس أنجلس بأن عمليات مسح أدمغة الأشخاص الأصحاء تعرض أحيانا مشاكل صغيرة وأن أي سلاح محتمل سيكون كبيرا جدا أو يتطلب قدرا كبيرا من الطاقة ليتم نشره دون اكتشافه.

ويقول بالوه إن العدد المتزايد من الحالات التي تعتبر هجمات طاقة موجهة مرتبطة في الواقع بـ”مرض جماعي نفسي المنشأ”، حيث يبدأ الناس الذين يسمعون عن الآخرين الذين يعانون من الأعراض في الشعور بالمرض.

لكن في حادثة قنصلية الولايات المتحدة في كوبا بين 2016 و2018 عانى الدبلوماسيون وأفراد من عائلاتهم من مشاكل صحية مختلفة في التوازن ومن دوخة ومشاكل في حركة العين وقلق وتهيج وما أسماه الضحايا “ضباب في الإدراك”، حيث سميت تلك الأعراض بـ”متلازمة هافانا”.

ويقول بوليمروبولوس الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية إنه يعتقد أن الولايات المتحدة ستحدد في نهاية المطاف ما وراء الحوادث ومن المسؤول. ويضيف “إذا وجدنا أن خصما معينا قد فعل ذلك، فستكون هناك قرارات غير مريحة بشأن ما يجب فعله”.

صحيفة العرب