بعد الحادي عشر من سبتمبر، تبنى الرئيس الأميركي جو بايدن فكرة أن قوات بلاده يجب أن تغادر أفغانستان وهي أفضل حالا مما كانت عليه عندما دخلتها، وتمسّك بضرورة الانسحاب بغض النظر عن الوضع الأمني في البلد. ويرى المتابعون أن بايدن الذي كان مدافعا عن التواجد الأميركي في أفغانستان لمساعدة بلد منهك أمنيا وإنسانيا، بات على اقتناع اليوم بأن تحقيق الاستقرار الميؤوس منه في ظل استمرار خطر حركة طالبان يحرضه على تحديد نقطة النهاية لهذه المشاركة الأميركية.
واشنطن – بدأت الولايات المتحدة رسميا في مطلع مايو الماضي سحب آخر جنودها من أفغانستان، فيما يتوجس المتابعون والمحللون من تداعيات هذا الانسحاب على أمن البلاد خاصة مع استمرار العنف وتمدد مقلق لحركة طالبان في مناطق سيطرة الحكومة.
وفيما حققت قوات الأمن الأفغانية خسائر صادمة في صفوفها مع تزايد الهجمات التي يشنها مسلحو طالبان بالتزامن مع انسحاب القوات الأجنبية، يتساءل متابعون عن الدوافع الحقيقية التي كانت وراء قرار بايدن بالانسحاب وترك البلاد أمام مستقبل غامض ومجهول.
ويشير مايكل هيرش الذي أجرى في سنة 2001 حوارا صحافيا مع بايدن في تقريره في مجلة فورين بوليسي، إلى أن اقتناع الأخير بأن تحقيق الاستقرار بات ميؤوسا منه في البلاد دفعه إلى تحديد نقطة النهاية لهذه المشاركة الأميركية، لكن قرار بايدن لم يكن وليد اللحظة بل نتيجة تداعيات سياسية وعسكرية دفعته إلى تغيير موقفه من الصراع والتي يروي تفاصيلها هيرش.
من الحماس إلى خيبة الأمل
رايان كروكر: بايدن سوف ينظر إلى الوراء ويأسف لأنه اتخذ هذا القرار
كان بايدن ملتزما ذات مرة بمساعدة أفغانستان على الوقوف على قدميها. وفي الأيام الأولى، حين كان يعتقد أن الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش كان يطمح لنفس الشيء أيضا، استمع بايدن الذي كان آنذاك رئيسا للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ عام 2001، بحماسة إليه وهو يتحدث عن بناء الدولة.
كانت حركة طالبان حينها في حالة فرار، وتعرضت لضربة قويّة بالقنابل الأميركية، فقد انتصرت القوات في الحرب القصيرة المعروفة باسم “عملية الحرية الدائمة” بعد شهر واحد فقط. كان موضوع النقاش هو ماذا سيحدث لأفغانستان بعد ذلك. أومأ بايدن برأسه مستحسنا لأن بوش أصر على أن هذا لن يكون مثلما حدث في 1989، عندما تخلصت الولايات المتحدة من البلد مثل خرطوشة مستعملة بعد سنوات من إمداد المجاهدين في حربهم الناجحة ضد السوفييت، مما فتح الطريق أمام حكم طالبان.
أيد بايدن هذه الفكرة: هذه المرة، كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى البقاء. وذكر بايدن في حواره مع هيرش أن الرئيس كان “يواصل الحديث عن الالتزام طويل الأمد الذي يتعين علينا القيام به”.
لكن في الأشهر التي تلت ذلك، وجد بايدن نفسه منزعجا من تحول بوش السريع نحو العراق وإهماله لأفغانستان، وفقا لمساعدين سابقين. كان بايدن، حسب معظم الروايات، مستثمرا عاطفيا في أفغانستان في ذلك الوقت. وفي يناير 2002، أصبح أول عضو في الكونغرس الأميركي يزور كابول.
وقال السفير الأميركي السابق رايان كروكر، الذي رافقه في تلك الزيارة، إنه زار مدرسة جديدة للفتيات، وهي تجربة أثرت فيه بشكل كبير حيث حظر حكم طالبان مثل هذه المدارس. وأضاف المتحدث باسم بايدن السابق في مجلس الشيوخ نورم كورتس، والذي كان في الرحلة أيضا، “أستطيع أن أقول إنه كان يفكر في حفيداته الصغيرات”.
ثم حاول بايدن إقناع وزير الدفاع آنذاك دونالد رامسفيلد ببذل المزيد من الجهد لإدخال أفغانستان إلى العالم الحديث، لكن رامسفيلد أصر على إبقاء “البصمة صغيرة” وشن ضربات جوية مضادة للإرهاب بين الحين والآخر أطلق عليها الساخرون تكتيكات “اضرب الخلد”. ويتذكر كورتس أن رامسفيلد لم يستمع إلى حجج بايدن لزيادة المساعدات ووجود القوات الأميركية.
وأوضح جوناه بلانك، أحد مساعدي بايدن السابق الذي رافقه في تلك الرحلة بصفته خبيرا في شؤون أفغانستان في مجلس الشيوخ “كان يرى أنه لا ينبغي عليك الذهاب وقتل الناس والمغادرة، لقد شعر من الناحيتين الأخلاقية والجيوسياسية أنه إذا كنت تغزو بلدا، وتتدخل عسكريا، ستقع عليك مسؤولية تركه في حال أفضل مما وجدته عليه”.
وعندما حولت واشنطن انتباهها إلى العراق، وأصبح بايدن في النهاية أحد أولئك الذين سمحوا بتلك الحرب، بدأت الأمور تسوء بنسق خطير في أفغانستان، حيث تسللت طالبان عائدة من الجبال وشكلت “مجلس شورى كويتا”، وهو مجلس قادة طالبان عبر الحدود في باكستان.
وبحلول سنة 2004، عندما بدأ تمرد طالبان بشكل جدي مرة أخرى، كانت الولايات المتحدة منشغلة بالعراق. وأصبحت الأمور منذ ذلك الوقت خارجة عن السيطرة تماما.
وباتت حركة طالبان المتمردة تمارس نفوذها أو سيطرتها على نصف البلاد على الأقل، بتمويل من مبيعات الأفيون وجهاز المخابرات الباكستاني. كما أصبحت تتمتع بقدرة على الضرب بحرية حتى في العاصمة الأفغانية كابول، خاصة وأن المجموعة المتشددة قد تسللت بعمق إلى قوات الأمن الوطنية الأفغانية المحبطة.
ودفعت حالة عدم الاستقرار بايدن إلى شعوره بخيبة أمل ما قاده إلى تبني وجهة نظر مختلفة تماما اليوم وهو يتّجه حول نهج يبدو مشابها للذي اتبعه بوش ورامسفيلد منذ إعلانه انسحاب جميع القوات الأميركية بحلول الذكرى العشرين لهجمات 11 سبتمبر.
وقال بايدن حينها في خطاب الانسحاب من البيت الأبيض “أنا الآن رابع رئيس للولايات المتحدة يترأس وجود القوات الأميركية في أفغانستان. جمهوريان اثنان وديمقراطيان. ولن أنقل هذه المسؤولية إلى شخص خامس”. وأضاف دون أن يخوض في التفاصيل “سيستمر عملنا الدبلوماسي والإنساني”.
وعلى رغم التزامه بمساعدة البلاد خاصة على صعيد إنساني، يخشى البعض داخل البنتاغون ومجتمع المخابرات الأميركية من أن يعرض إعلان النجاح المبكر والانسحاب السريع بايدن لنفس الانتقادات التي عانى منها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عندما انسحب من العراق في عام 2011 (بناء على نصيحة بايدن)، فيما يخشى آخرون من أن قرار بايدن قد يترك الولايات المتحدة في مكان مشابه لما كانت عليه قبل 11 سبتمبر: مواجهة دولة مضيفة للقاعدة تهيمن عليها طالبان.
ورغم وعودها بخلاف ذلك، يحذر الخبراء من أن طالبان تواصل رعاية علاقة وثيقة مع ما تبقى من الجماعة الإرهابية.
وقال كروكر، الذي عمل مرتين سفيرا في أفغانستان، إنه يعتقد أن بايدن معميّ بـ”تفكير سحري” بشأن أفغانستان، خاصة إذا كان يعتقد أن لواشنطن أي نفوذ متبقّ مع طالبان.
ويعتقد كروكر أن “بايدن سوف ينظر إلى الوراء ويأسف لأنه اتخذ هذا القرار. أنت لا تُنهي الحرب بسحب قواتك. فهي تستمر من دونك”.
ما الذي تغير بالنسبة إلى بايدن؟ سؤال حاولت الإجابة عليه العديد من الروايات نقلا عن الأشخاص الذين يعرفون الرئيس جيدا، فقد وصل إلى نهاية فترة طويلة من خيبة الأمل العميقة تجاه أفغانستان، وهي العملية التي بدأت مع الزعيم الأفغاني الذي نصبته واشنطن في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حامد كرزاي.
توصل بايدن بمرور الوقت إلى الاعتقاد أنه بسبب الفساد المستشري، كانت الولايات المتحدة رمت المليارات من الدولارات وخسرت ما يقرب من 2500 أميركي بالإضافة إلى أكثر من 20 ألف جريح في أمة كانت متخلفة ومحطّمة بشكل لا يمكن إصلاحه، يحكمها أمراء حرب من طراز العصور الوسطى والحساسيات الأصولية.
وكشف مشروع “تكلفة الحرب” في جامعة براون أن الحرب كلفت 2.26 تريليون دولار إجمالا منذ غزو الولايات المتحدة للبلاد في 7 أكتوبر 2001. ووفقا لتقرير صدر الخريف الماضي عن المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان، كلّفت مشكلة تبذير الأموال والاحتيال وسوء المعاملة الولايات المتحدة ما لا يقل عن 19 مليار دولار من أموال إعادة الإعمار (حوالي 30 في المئة من المبلغ الذي استثمره الكونغرس وراجعه) في أفغانستان منذ سنة 2002.
وسافر بايدن في فبراير 2008 مرة أخرى إلى أفغانستان مع زملائه المقربين في مجلس الشيوخ جون كيري وتشاك هيغل، وتلقوا دعوة لتناول العشاء مع كرزاي في قصره. أراد الثلاثة الكبار في مجلس الشيوخ معالجة الفساد في حكومة كرزاي، بما في ذلك الكسب غير المشروع والصلات المزعومة بالمخدرات. وبعد أن نفى كرزاي وجود مثل هذه المشاكل، ألقى بايدن الغاضب منديله، وضرب الطاولة بيده، وخرج معلنا “انتهى هذا العشاء”.
في كتابه “أرض الميعاد” أوضح الرئيس باراك أوباما أن بايدن بات يرى في أفغانستان مستنقعا خطرا وقد حثه على تأخير انتشار القوات الأميركية هناك
وأوضح بلانك “حدث الانقسام الأكبر بالنسبة إليه في يناير 2009. كان ذلك عندما خاض رحلته الوحيدة بصفته نائب الرئيس المنتخب”. واقتناعا منه بأن تحقيق الاستقرار في أفغانستان كان ميؤوسا منه، أصبح بايدن المسؤول الكبير الوحيد الذي يجادل في وقت مبكر في إدارة أوباما بأن زيادة قوات أخرى سوف تكون بلا جدوى. كما كتب أوباما في مذكراته الأخيرة “أرض الميعاد” أن بايدن أعرب عن القليل من الثقة في مصداقية الحكومة الأفغانية في ظل حكم كرزاي والرئيس أشرف غني أحمدزي لاحقا.
وتابع أوباما “مهما كان مزيج الأسباب، فقد رأى في أفغانستان مستنقعا خطيرا وحثني على تأخير الانتشار”.
وخسر بايدن هذا النقاش في البداية، حين رفع أوباما مستويات القوات الأميركية إلى ما يقرب من 100 ألف جندي. ولكن بعد ذلك، بدأ أوباما في خفض هذا العدد بشكل كبير في فترة ولايته الثانية حيث فشلت استراتيجية البنتاغون لمكافحة التمرد وكسب القلوب والعقول بالمساعدات الإنسانية والسياسة العسكرية بالمليارات من الدولارات من أجل “التطهير والسيطرة والبناء” للمدن والبلدات فشلا ذريعا في جل البلاد، ويبدو أنه أكّد مشورة بايدن المتشككة.
وكان بايدن، حتى قبل أن يصبح نائب الرئيس، يدفع أوباما نحو تحديد نقطة النهاية. وفي جلسة استماع مع قائد القوات الدولية في العراق آنذاك الجنرال ديفيد بترايوس في ربيع عام 2008، نصح بايدن أوباما بتخفيض توقعاته لما قد يبدو عليه العراق بعد انسحاب الولايات المتحدة. وقد شكل هذا لاحقا كلا النهجين تجاه أفغانستان.
وحصل أوباما، الذي كان مرشّحا رئاسيا، على إشادة وسائل الإعلام بقوله “عندما تكون لديك موارد محدودة، عليك أن تحدد أهدافك بإحكام وتواضع. أنا لا أقترح أن نسحب كل قواتنا مرّة واحدة. أنا أحاول الوصول إلى نقطة نهاية”.
كما أصبح بايدن حذرا من الحجج التي لا تنتهي من البنتاغون حول انتظار “الظروف” المناسبة قبل الانسحاب.
وبمجرد أن أصبح رئيسا، أشار بايدن سريعا إلى نواياه عندما أبقى على مبعوث الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، زلماي خليل زاد. ففي العام الماضي، تفاوض خليل زاد على اتفاق مثير للجدل مع طالبان “ستغادر القوات الأميركية بحلول الأول من مايو مقابل التزام طالبان بالتنصل من القاعدة والدخول في محادثات سلام مع وفد أفغاني”. لكن فشلت طالبان إلى حد كبير في تنفيذ هذه الوعود وتثبت إلى اليوم أنها ستظل خطرا أمنيا يهدد البلاد.
وفي النهاية، عزا بايدن قراره إلى كونه يتعلق بإنهاء تضحيات لا داعي لها، قدّمها الشباب الأميركي مثل ابنه الراحل بو، الذي خدم في العراق والذي ذكره في خطاب الانسحاب.
وأردف بايدن “لم يكن القصد من الحرب في أفغانستان أن تكون مشروعا متعدد الأجيال. لقد تعرضنا للهجوم. ذهبنا إلى الحرب بأهداف واضحة. لقد حققنا تلك الأهداف. مات أسامة بن لادن والقاعدة متدهورة في أفغانستان. وقد حان الوقت لإنهاء الحرب الأبدية”.
العرب