مجموعة من الرجال وبعض النساء يشاهدهم العالم يصطفون أمام وبجوار وخلف الرئيس الأميركي أينما حل، عند خروجه من المكتب البيضاوي أو عند سلم الصعود للطائرة الرئاسية “إير فورس وان” (Air Force 1).
ينتمي هؤلاء إلى جهاز الخدمة السرية، الذي يأتي على رأس مهامه حماية الرئيس الأميركي وعائلته، ونائب الرئيس والرؤساء السابقين، ومرشحي الرئاسة والوزراء، وكبار الشخصيات الأجنبية التي تزور الولايات المتحدة.
وتُلخص الثقافة السياسية الأميركية وظيفة أفراد الخدمة السرية في “أخذ الرصاصة بدلا من الرئيس”.
ويتكون جهاز الخدمة السرية من 3200 شخص، منهم ما يقرب من 1300 يتولون مهام الحماية والحراسات الخاصة، ولا يرتدي أفرادها ملابس رسمية، بل يظهرون بملابس مدنية محافظة (بدل داكنة اللون)، ويرتدي أغلبهم نظارات شمسية سوداء لإخفاء هوياتهم. ويتبع الجهاز ومنذ مارس/آذار 2003 لوزارة الأمن الداخلي.
نشأة الجهاز
ويعد الجهاز أحد أقدم وكالات إنفاذ القانون الفدرالية في أميركا، وقد أنشئ الجهاز في الأصل في عام 1865 للقضاء على التزوير المتفشي في العملة بعد انتهاء الحرب الأهلية، حيث كان ما يقرب من ثلث العملات المتداولة في الولايات المتحدة مزورة.
ولمعالجة هذه المشكلة، أنشئ جهاز استخبارات ملحق بوزارة الخزانة، وتوسعت وتطورت طبيعة الجهاز على مدار السنوات والعقود التالية، حتى أصدر الكونغرس قانونا ينظم عمل جهاز الحماية السرية، ويكلفه بحماية الرئيس، وذلك عقب اغتيال الرئيس وليام ماكينلي عام 1901.
ويتركز عمل أفراد الخدمة السرية على الحفاظ على بيئة آمنة للرئيس وغيره من المسؤولين الذين توفر لهم الحماية.
وتدعو الخدمة السرية الوكالات الاتحادية وأجهزة الولايات المختلفة، والوكالات المحلية الأخرى إلى تقديم المساعدة على أساس يومي طبقا لجدول الرئيس، ففي حال قيام الرئيس بزيارة ولاية ما، يتم التنسيق مع أجهزة الأمن الخاصة بهذه الولاية.
علاقات متضاربة
وجمعت علاقات معقدة بين الرؤساء الأميركيين وأفراد الخدمة السرية، فالبعض عاملهم بسوء، بينما أغدق آخرون عليهم بالثناء والهدايا.
وأربك سلوك الرئيس كينيدي أفراد الحماية الخاصة لكثرة خروجه على خطط تحركاته المسبقة من أجل لقاء عشيقة له هنا أو هناك.
كما تعود الرئيس بيل كلينتون على مغادرة البيت الأبيض في أوقات مفاجئة، ودون سابق ترتيب للقاء أصدقاء أو معارف له.
أما الرئيس دونالد ترامب فلم يكترث بهم وعاملهم وكأنهم خدم له، ويتحدث كتاب “الفشل ممنوع.. صعود جهاز الخدمة السرية وانحداره” للكاتبة كارول لوينغ، عن اضطرار أفراد حماية الرئيس إلى البقاء إلى جواره في سيارة الليموزين رغم إصابته بفيروس كورونا، عندما خرج من مستشفى والتر ريد لعدة دقائق لتحية أنصاره في سبتمبر/أيلول الماضي.
الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب يتحدث مع أحد أفراد حراسته (رويترز)
تاريخ من الاغتيالات
ولا تعد عملية حماية الرئيس الأميركي سهلة على الإطلاق، خاصة مع دورية الانتخابات السريعة، وحتمية مشاركة الرئيس في فعاليات يحضرها آلاف الأميركيين، منها فعاليات في مطاعم أو جامعات أو فنادق أو كنائس أو ملاعب رياضية، هذا إضافة لكثافة الرحلات الداخلية والخارجية.
وعلى مدار تاريخها القصير، شهدت الولايات المتحدة العديد من الاغتيالات السياسية التي راح ضحيتها عدد من الرؤساء. وقد جاءت البداية عندما اغتيل أبراهام لينكولن، الرئيس السادس عشر لأميركا، عام 1865، وكان أول رئيس يغتال فيما تعد أهم حادثة اغتيال في التاريخ الأميركي، فقد جاءت عقب انتصاره في الحرب الأهلية، وإنهائه العبودية.
واغتيل لينكولن خلال عرض مسرحي ليلي على مسرح فورد بالعاصمة واشنطن دي سي، بعد مضى 5 أيام فقط على انتهاء الحرب الأهلية رسميا.
وكان جيمس جارفيلد الرئيس العشرون لأميركا ثاني رئيس يتم اغتياله عام 1881 بمحطة السكك الحديدية بواشنطن عن طريق المحامي كارلوس جيتو الذي كان غاضبا، بعد أن رفض طلب تعيينه كسفير للولايات المتحدة في فرنسا.
وبعد ذلك اغتيل الرئيس الخامس والعشرون وليام ماكينلي عام 1901 عندما أطلق الفوضوي ليون كازلجوسز الرصاص عليه أثناء تحيته لمؤيديه فى حفل استقبال بمدينة كليفلاند بولاية أوهايو.
وكان الرئيس الخامس والثلاثون جون إف كينيدي هو آخر من اغتيل من الرؤساء عام 1963، وقتل خلال سير موكبه بمدينة دالاس بولاية تكساس وسط جمع غفير من المواطنين اصطفوا لتحية الرئيس وزوجته أثناء مرور سيارتهما المفتوحة في الشوارع.
ومنذ محاولة اغتيال الرئيس السابق رونالد ريغان عام 1981 على يد رجل مسلح “مختل”، لم تجر أي محاولات لاغتيال رئيس أميركي، ويرجع البعض الفضل في ذلك إلى كفاءة ومهنية جهاز الخدمة السرية المخولة بحماية الرئيس الأميركي.
فضائح وسقطات
ويعرض كتاب “الفشل ممنوع..” في 27 فصلا وعلى 560 صفحة، لتاريخ حافل بالفشل والنجاح لجهاز الخدمة السرية.
وللجهاز سجل حافل من الفضائح الصغرى، منها ما جرى في سبتمبر/أيلول 2014، عندما قام رجل يبلغ من العمر 42 عاما يحمل سكينا بتسلق سياج البيت الأبيض، عبر الحديقة الشمالية، واتجه ناحية الغرفة الشرقية قبل أن يتصدى له أحد الضباط.
وبعد 3 سنوات، تجول شخص آخر تسلل للبيت الأبيض حتى اقترب من باب المدخل الشرقي، قبل أن يضبطه أحد ضباط الخدمة السرية بمحض الصدفة.
أما الفضيحة الكبرى فقد كانت صدمة اغتيال الرئيس كينيدي، فقد كانت فضيحة مدوية في تفاصيلها ونتائجها، وعرف عن أفراد الحماية تناول كميات كبيرة من المشروبات الكحولية في هذه الفترة، وهو ما أدى لضعف إجراءات حماية كينيدي، وانتهت بمقتله وسط العشرات من أفراد الخدمة السرية.
وتغيرت ثقافة الجهاز جذريا بعد هذه الحادثة، وخضع لعملية إصلاح وتغيير واسعة، حيث يتلقى أفراد الجهاز تدريبات تعد هي الأشرس والأقوى في العالم، مما جعله وحدة نخبوية يحلم آلاف الأميركيين بالانضمام لها.
إلا أن محاولة اغتيال رونالد ريغان عام 1981 أعادت التشكيك في قدرات الجهاز مع اقتراب شخص يحمل مسدسا من الرئيس ونجاحه في إصابة الرئيس بطلقات اخترقت رئته، إلا أن شجاعة تيم ماكارتي، أحد أفراد الحراسة، والذي تلقى إحدى الرصاصات كانت موجهة للرئيس، رفعت من مكانة الجهاز في الوقت ذاته.
وجاءت فضيحة مدينة كارتاخينا بدولة كولومبيا لتضع كبرياء وتاريخ الجهاز في الوحل، ففي رحلة إلى المدينة الساحلية للتحضير لزيارة الرئيس باراك أوباما في عام 2012، أعيد 11 عضوا من فريق حماية الرئيس إلى واشنطن بعد ليلة من تناول الخمور والسكر وممارسة الجنس مع عاهرات في فندقهم، على حساب دافعي الضرائب الأميركيين، وخروج تفاصيل هذه الفضيحة للإعلام.
خوف من المستقبل
ورغم أن أميركا لم تعرف اغتيالا سياسيا مهما منذ المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس رونالد ريغان عام 1981، يتخوف الكثير من المعلقين من الانزلاق لدائرة الاغتيالات مرة أخرى في مجتمع ينتشر فيه السلاح جنبا إلى جنب مع كل أنواع نظريات المؤامرة.
وتسببت أحداث اقتحام الكونغرس في السادس من يناير/كانون الثاني الماضي، وسط حالة من الاستقطاب السياسي الحاد الذي لم تعرفه الولايات المتحدة من قبل، في زيادة هذه المخاوف.
المصدر : الجزيرة