منذ خمسين عاما بالضبط كان الأديب السوداني الشهير الطيب صالح يكتب روايته البديعة (موسم الهجرة إلي الشمال) التي وصفت بأنها قد تكون أهم رواية عربية في القرن العشرين.نشرت لأول مرة في بيروت في 1966 ثم أعيد نشرها في القاهرة ثم ترجمت إلي العديد من لغات العالم ومازال الاحتفاء بها مستمرا حتي الآن. وأنا أفسر هذا الاحتفاء العظيم بها بأمرين: جمالها وأهمية موضوعها إذ تدور أحداثها حول قضية إنسانية تكاد تستحق أن توصف بالخالدة وهي قضية الالتقاء بين حضارتين أو ثقافتين إحداهما لديها مقومة الغلبة والانتصار والأخرAي تصارع من أجل البقاء.
من هنا بدأ اختيار الطيب صالح لهذا الاسم (موسم الهجرة إلي الشمال) مفهوما ومناسبا إذ إن الحضارتين اللتين تصف الرواية التقاءهما أو الصراع بينهما ينتميان إلي الشمال والجنوب وبطل الرواية الذي يدور الصراع في عقله وقلبه رجل من الجنوب هاجر إلي الشمال وظل إلي آخر الرواية لا يستطيع أن يصل إلي قرار حاسم لمصلحة هذه الحضارة أو الثقافة أو تلك. وهذا ايضا من أسباب قوة الرواية، إذ تركها الطيب صالح ذات نهاية مفتوحة تسمح للقارئ بإعمال عقله واتخاذ قراره الخاص في القضية المطروحة بعكس رواية يحيي حقي البديعة ايضا قنديل أم هاشم .
لكن مما يلفت النظر وصف المؤلف ما يحدث بأنه موسم، نعم في الرواية هجرة إلي الشمال أكثر من معني لكن ما الذي جعل لهذه الهجرة موسما؟ وفي هذا الوقت بالذات سواء كان المقصود هو وقت وقوع احداث الرواية أي فترة ما بين الحربين العالميتين أو وقت كتابة الرواية في منتصف الستينيات؟ فإذا كان هذا الوقت أو ذاك هو حقا موسم الهجرة إلي الشمال فماذا عسانا أن نقول الآن، إذ نري آلاف المهاجرين في كل يوم من الجنوب إلي الشمال وقد استعصت عليهم الهجرة المشروعة يلقون بأنفسهم في قوارب صغيرة يحمل كل منها من الناس أضعاف حمولته الحقيقية فيموت منهم الكثيرون غرقا، ومع ذلك تتكرر المحاولة المستميتة كل يوم، علي أمل أن تتم الهجرة بنجاح في النهاية؟ إنهإ ذا كان للهجرة إلي الشمال موسم حقا فموسمها هو قطعا الآن أكثر منه في أي وقت مضي، فما الذي حدث بالضبط في الأعوام الخمسين الماضية لكي نصل إلي هذه النتيجة؟ .
> > >
كان صاحب المشكلة في روايةالطيب صالح مثقفا كبيرا أتي من قرية صغيرة في السودان إلي لندن فدرس في جامعتها حتي أصبح أستاذا للاقتصاد فيها وعندما قرر العودة إلي قريته في السودان كان كثيرا ما يغلق باب حجرته ليقرأ الصحف البريطانية والشعر الانجليزي. لم يكن قد هاجر إلي الشمال بحثا عن عمل لكن لينهل من علوم الغرب وثقافته وعندما انتهت حياته غرقا أو انتحارا لم يكن سبب اكتئابه سببا ماديا فقد كان في بحبوحة من العيش عندما ألقي بنفسه في النيل لكن كان السبب فشله في تحقيق التصالح بين الثقافتين.
الغالبية العظمي ممن يهاجرون الآن إلي الشمال سواء من العالم العربي أو غيره من بلدان الجنوب لا يسافرون لطلب العالم أو الثقافة بل سعيا وراء لقمة العيش وهم قد يكونون متعلمين أو غير متعلمين لكن معظمهم متبطلون عجزت بلادهم عن توفير وظائف لهم سواء كانت وظائف لائقة أو غير لائقة. ماذا حدث بالضبط ليحدث هذا التغيير في طبيعة الهجرة إلي الشمال؟ الاسباب تتعلق بالطالب والمطلوب أي بالبلاد المهاجر منها والبلاد المهاجر إليها علي السواء.
حتي منتصف القرن العشرين كانت صورة الغرب التي تصل إلي البلاد الفقيرة لا تكاد تصل إلا إلي المتعلمين الذين لديهم وسيلة أو أخري للاطلاع علي ما يحدث خارج بلادهم. كانت الغالبية العظمي من شعوب البلاد الفقيرة سواء من الفلاحين أو العمال المشتغلين في المدن يعيشون في شبه عزلة عن العالم الخارجي إذ لم تكن وسائل الإعلام والاتصالات قد تطورت لتتيح لهم الخروج من هذه العزلة الذهنية. كانت وسائل الإبهار والجذب لا تصل إذن إلا لأمثال بطل رواية الطيب صالح (مصطفي سعيد): شاب نشأ في الريف حقا لكنه تعلم في الخرطوم ثم القاهرة وأتيح له من الامكانات المادية فضلا عن الطموح ما سمح له بمواصلة دراسته في لندن. الآن صورة الغرب تصل إلي الجميع متعلمين وعمالا في المدن أو فلاحين في قراهم، وهي تصل حاملة رسائل لا عن تفوق الغرب العلمي والثقافي بقدر ما هي رسائل عن جاذبية المجتمع الاستهلاكي وبحبوحة العيش.
لاشك أن للتغيير ايضا علاقة بانتقال مشعل الحضارة الغربية من أوروبا إلي أمريكا، بما يتضمنه هذا الانتقال من تغير في نوع الجاذبية. بل قد يكون لهذا التغير ايضا في طبيعة الهجرة علاقة باتجاهات رءوس الأموال إذ تجري هجرة الاشخاص عادة في نفس اتجاه رءوس الأموال. في عصر الاستعمار الأوروبي القديم طوال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين – باستثناء عقد الأزمة العالمية في الثلاثينيات – كان اتجاه رءوس الأموال في الأساس من الشمال إلي الجنوب، حيث استثمرت الدول الشمالية الصناعية في مصادر المواد الأولية في الجنوب وفي بناء المرافق العامة في الجنوب التي تخدم هذه الاستثمارات ثم جاء عصر المعونات الأجنبية لدول الجنوب في الربع الثالث من القرن العشرين حين حل النفوذ الأمريكي محل النفوذ الأوروبي، واستخدمت الولايات المتحدة سلاح المعونات الاقتصادية لتثبيت أقدامها في الجنوب تحت ذلك الشعار الجديد (التنمية الاقتصادية) أتاحت هذه الاستثمارات ثم المعونات فرصا للعمالة في الجنوب بدأت في التقلص مع نهاية الستينيات وبداية السبعينيات إذ بدأت استثمارات الشمال في دول الجنوب تتخذ صورة الاستثمارات الأجنبية الخاصة علي أيدي ما عرف بالشركات متعددة الجنسيات وهي استثمارات كثيرا ما أدت إلي تدهور الصناعة المحلية في دول الجنوب وخلقت من البطالة أكثر مما خلقت من فرص العمل . بل بدأت في الوقت نفسه حركة مضادة في اتجاه رءوس الأموال تتجه من الجنوب إلي الشمال في صورة ما تحوله هذه الشركات من ارباح إلي بلادها الاصلية أو في صورة تدوير إيرادات النفط من دول البترول في الجنوب للاستثمار في البلاد الصناعية في الشمال أو في صورة ما جري تهريبه من ثروات الحكام الفاسدين في الجنوب بدعم من هذه الشركات نفسها مكافأة لهم علي تسهيل عمل هذه الشركات في بلادهم.
لم يكن غريبا إذن في ظل هذا كله أن تشتد حركة الهجرة في الشمال ابتداء من سبعينيات القرن الماضي وأن تتخذ صورة مختلفة عن صورتها الشائعة قبل ذلك فتصبح هجرة شباب متبطل يبحث عن عمل إلي أن تطورت إلي هذه الصورة الحديثة المفزعة التي رأيناها في الأشهر الأخيرة من هجرة مئات الآلاف من العالم العربي وإفريقيا إلي أوروبا متجشمين خطر الغرق في الطريق هربا من الدمار الذي خلقته أو دعمته سياسة دول الشمال في بلادهم المنكوبة.
خلال هذه العقود الخمسة الأخيرة كان التركيب السكاني في دول الشمال يتغير لمصلحة قبول أعداد أكبر من المهاجرين من الجنوب إذ انخفض بشدة معدل المواليد في الشمال ومن ثم انخفضت نسبة قوة العمل في اجمالي السكان وزادت نسبة كبار السن في دول الشمال فزاد العبء الذي يتحمله اقتصادها من أجل توفير حياة كريمة لنسبة متزايدة من السكان لم تعد تسهم في العمل. فتح باب الهجرة لتعويض هذا النقص في قوة العمل وانصراف العاملين في هذه الدول أكثر فأكثر إلي الأعمال التي تعتمد علي القوة الذهنية أكثر من القوة الجسدية تاركة هذه الأعمال الأخيرة للمهاجرين من الجنوب.
يبدو إذن أن هذه الأيام التي نعيشها الآن هي الموسم الحقيقي للهجرة من الشمال وليست الأيام التي كتب فيها الطيب صالح روايته الشهيرة وإن كان يظل للطيب صالح الفضل ليس فقط في إنتاج رواية بديعة تصور مشكلة سوف تظل قائمة دائما لكن ايضا في صدق حدسه بما أسفر عنه تطور الأحداث بعد ظهور الرواية.
د.جلال أمين
صحيفة الأهرام المصرية