نجح باراك أوباما في أن يقنع حكومات دول كبرى وعظمى بأن أميركا خرجت من عام ٢٠١٤ أقوى نفوذاً. نرى محاولات كثيرة من جانب معلقين أميركيين مؤيدين للرئيس أوباما لإثبات أنه شخصياً مسؤول عن هذه الزيادة في النفوذ الأميركي. تأتي هذه المحاولات في وقت انتخابات رئاسية يتعرض خلالها شخص رئيس الدولة للتقييم من جانب كل الأطراف الباحثة عن مرشح مناسب للحلول محله. سيكون من الصعوبة بمكان في مثل هذه الظروف التقليل من أهمية دور أوباما وإلقاء اللوم أو الثناء على عوامل خارجية، فعند القيام بتقييم السياسة الخارجية عموماً والأميركية خصوصاً لا يجوز إغفال دور الرئيس، حتى وإن كان رمزياً أو شكلياً أو كان ممن يحيطون أنفسهم ببطانة من عباقرة الاستراتيجية والديبلوماسية.
نذكر جيداً أنه في حالات كثيرة خلال السنوات السبع الماضية تعين على الرئيس الأميركي تنفيذ واجب الاختيار من بدائل معظمها سيئ. واتخاذ قرارات صعبة من بين خيارات حساسة. في كل الأحوال وعلى مر السنين والعهود، كان التحسن في مكانة أميركا يعود على الرئيس بالثناء وزيادة الشعبية، وبين هذه السنين والعهود يقف عام 2014 نموذجاً على التحسن وزيادة الشعبية.
بين كل المحاولات التي جرت لإبراز دور الرئيس الأميركي في تحقيق زيادة في نفوذ أميركا، لم نجد سوى محاولات قليلة جداً، ومتواضعة في معظم الأحيان، يبرز فيها الدور الذي لعبته ظروف خارجية لا دخل للولايات المتحدة أو للرئيس الأميركي بها في زيادة نفوذ أميركا السياسي. لم يأت تجاهل هذه الظروف نتيجة نية محددة أو مسبقة، بل جاء في إطار سعي المؤسسة الحاكمة إلى حجز موقع متميز للرئيس أوباما في سجل رؤساء أميركا. كان يكفي أن يكون الرئيس قد نجح في تجاوز انزلاق أشد في هاوية الأزمة الاقتصادية، أو أنه استجاب للرأي العام فأخرج القوات الأميركية من العراق وأفغانستان، أو أنه قاد مفاوضات دولية بالغة الصعوبة مع إيران، وأعاد العلاقات مع كوبا، وفرض على الحكومة العسكرية في بورما تخفيف القمع والتقدم نحو شكل تعددي في قيادة الدولة. هذه الخطوات، إن صحت كإنجازات، كانت كافية ليخرج الرئيس من البيت الأبيض بصفته الرئيس الذي وضع الولايات المتحدة على الطريق نحو نظام دولي جديد لا تنفرد فيه بالقيادة.
هناك بلا شك ظروف خارجية ساعدت أوباما وإدارته في تحسين صورة أميركا وزيادة نفوذها وتقوية ساعد البيت الأبيض في مفاوضاته مع الخارج، كان انخفاض أسعار النفط أحد هذه الظروف، لأنه وضع قيوداً على حرية صانع السياسة في كل من إيران وروسيا في المساومة مع الغرب عموماً وأميركا بصفة خاصة في القضايا محل الخلاف، ففي كل من إيران وروسيا، لعب الحصار الاقتصادي وكذلك انخفاض أسعار النفط دوراً كبيراً في إضعاف قوة المفاوضين الإيرانيين وأضاف إلى متاعب الرئيس بوتين الداخلية ودفعه إلى اتخاذ إجراءات كان يتمنى ألا يلجأ إليها، مثل الانتقام من أوروبا بحرق منتجاتها الزراعية أو تضييق الخناق على أكثر من دولة في شرق وشمال أوروبا.
كذلك ساهمت خلافات الدول الأعضاء في منطقة اليورو وفي الاتحاد الأوروبي عموماً، وبخاصة روسيا والصين، في إبراز حقيقة أن أميركا، رغم كل مشكلاتها وأوضاعها الاقتصادية، لا تزال الدولة الأقوى نفوذاً في عالم الغرب، هي الدولة التي كان يجب أن تؤخذ في الاعتبار في وقت انشغلت فيه دول أوروبا بمشكلات اللامساواة بين شمالها وجنوبها، وبأزماتها الاقتصادية الخانقة التي ضربت البرتغال وإسبانيا وإيرلندا وإيطاليا، وأخيراً اليونان التي كادت أن تكون سبباً في انهيار منطقة اليورو وتخريب الوئام داخل الاتحاد الأوروبي وتجدد ثقة روسيا باحتمالات عودتها لقيادة مجموعة سلافية في القارة.
من ناحية ثالثة، لا يمكن إنكار دور العرب بفوضى ديبلوماسياتهم وترهل سياساتهم، وبثورات الربيع التي هزت أركان العديد من الدول العربية. العرب خدموا أوباما خدمة كبيرة لأنهم توقفوا عن مطالبته، ولو بحياء وتردد، التوصل إلى سلام فلسطيني إسرائيلي في الشرق الأوسط. واقع الأمر أن أكثر من مسؤول أميركي عبروا في لقاءات خاصة عن ارتياح واشنطن لامتناع الحكام العرب الذين زاروا الولايات المتحدة أو التقوا بمبعوثين منها عن الحديث عن القضية الفلسطينية وإسرائيل. ارتاحوا أيضاً لسبب آخر، وهو أن العرب بانشغالهم عن القضية الفلسطينية تركوا البيت الأبيض يدير معركة مع إسرائيل في عزلة عن قضية فلسطين. لا أظن أنه كان خافياً على كثير من المعلقين مصادفة أن النخب الحاكمة العربية كانت غاضبة على الرئيس أوباما. بدأ الغضب مع تراخيه في التصدي للثورة التي أطاحت بزين العابدين بن علي والثورة التي أطاحت بحسني مبارك. هذا الغضب وجد ما يغذيه في كل اجتماع دول أممي يعقد بقيادة أميركا مع وفود إيرانية.
لعبت ظروف إقليمية ودولية أخرى دوراً مهماً في تحسين مركز أميركا التفاوضي مع قوى دولية عديدة وبخاصة مع كل من الصين وروسيا. كان القرار الذي اتخذته حكومة آبى في طوكيو لتسليح اليابان بعد إدخال تعديلات على دستورها أحد هذه الظروف. نعرف أن أوباما وضع منذ فترة غير قصيرة نصب عينيه هدفاً بأن يتمكن من نقل التركيز في الاستراتيجية الأميركية من أوروبا إلى شرق آسيا. نعرف أيضاً أن الأحوال الاقتصادية الداخلية وتأزم الأمور في الشرق الأوسط والاهتمام بإيران لم تسعفه. لذلك رأيناه يضاعف في الشهور الأخيرة سعي إدارته لتشجيع حكومة اليابان على الإسراع باتخاد الإجراءات التي تساعده في الضغط على الرئيس الصيني خلال زيارته للولايات المتحدة. وبالفعل كان للتفاهمات بين أميركا واليابان في الأسابيع الأخيرة الفضل في إقناع النخبة الحاكمة في اليابان بنية أميركا تجديد التزامها الدفاع عن اليابان وشرق آسيا أمام مشاريع التوسع الصيني، وهي النخبة التي تولت بعد ذلك مهمة إقناع الرأي العام العنيد بجدوى تعديل الدستور وتسليح اليابان.
اللافت للنظر في العلاقة الصينية الأميركية أن الصين لا تزال في حاجة إلى القوة الأميركية لتضمن سلامة وأمن الممرات البحرية التي تعتمد عليها تجارة الصين ورخاؤها وبرامج توسعها. يبدو واضحاً أن القوة الصينية تنمو وبسرعة هائلة، ولكن هذه القوة التي تبدو مهددة للدول الإقليمية الأخرى في شرق آسيا ليست كافية بعد لحماية مصالح الصين في البحار والمحيطات. هذه المياه التي ما زالت تحرسها الولايات المتحدة بكفاءة عالية. وليس من المستبعد أن يتوصل الطرفان إلى تفاهم أو تفاهمات عديدة تؤجل لسنوات أو عقود أخرى احتمالات المواجهة بين الصين وأميركا. لا يكفي اتفاق ثنائي أو اتفاقية دولية تنظم استخدامات الإنترنت والتلصص على أسرار الصناعة والحرب دليلاً على أن الطرفين واثقان من أن خلافاتهما القادمة ستحل في إطار سلمي، المطلوب في واشنطن، كما في بكين، التوصل إلى اتفاق يضمن وصول الصين إلى مواقع القيادة الدولية بأقل تكلفة وتضحيات، ويضمن أن يقع أي تراجع في مكانة الولايات المتحدة في المستقبل بدون توترات وفي شكل يحفظ لأميركا كرامتها ويحتفظ لها بالنفوذ الذي تستحقه…
جميل مطر
صحيفة الحياة اللندنية