تحل بداية العام الدراسي في عدد كبير من الدول العربية في خضم سياقات داخلية صراعية غير مواتية؛ حيث أدت الصراعات الداخلية الممتدة لانهيار تامٍّ في كافة أركان العملية التعليمية بعددٍ من الدول العربية، بالتوازي مع ضغوط متزايدة على الخدمات التعليمية في دول الجوار نتيجة تصاعد موجات اللجوء لهذه الدول، إذ ترتب على اتساع نطاق الحروب الأهلية في اليمن والعراق وسوريا وليبيا وجنوب السودان والصومال تدمير المنشآت التعليمية، وهجرة ملايين اللاجئين إلى بؤر الصراعات، وتسرب عدد كبير من الأطفال من التعليم، فضلا عن تصاعد استهداف المعلمين والقائمين على المؤسسات التعليمية، واستنزاف الموارد المالية المحدودة المخصصة للتعليم.
تصدع الأركان:
تصاعدت حدةُ تداعيات الصراعات الداخلية على استقرار وانتظام التعليم في دول عربية متعددة، لا سيما في ظل تصدع مؤسسات الدولة المسئولة عن تقديم الخدمات التعليمية، وارتفاع معدلات تسرب الأطفال من التعليم مع انخراطهم في الصراعات الداخلية، أو نزوحهم إلى دول الجوار مع عائلاتهم، وعدم قدرتهم على الحصول على الخدمات التعليمية في مخيمات اللاجئين. وفي هذا الإطار تتمثل أهم أبعاد تصدع العملية التعليمية في دول الصراعات في المنطقة العربية فيما يلي:
1- التسرب من التعليم: أكد تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للأمومة والطفولة في 3 سبتمبر 2015 بعنوان “التعليم تحت النار” أن الصراعات الداخلية في منطقة الشرق الأوسط منعت ما لا يقل عن 13.4 مليون طفل من تلقي التعليم في المدارس في كلٍّ من سوريا والعراق واليمن وليبيا وجنوب السودان بما يعادل نسبة 40% من إجمالي عدد الأطفال في سن الدراسة في هذه الدول، وتتفاوت معدلات التسرب من التعليم من دولة لأخرى؛ حيث تصل إلى 3.1 ملايين طفل في السودان، و3 ملايين طفل في العراق، و2.9 مليون طفل في اليمن، و2.7 مليون طفل في سوريا ومناطق تمركز اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان وتركيا ومصر، و2 مليون طفل في ليبيا.
وفي سوريا تفرض مركزية إدارة العملية التعليمية أن يعبر 20% من الطلاب الخطوط الفاصلة بين الأطراف المتصارعة لتأدية الامتحانات في المؤسسات التعليمية التابعة للنظام للحصول على شهادة إتمام الدراسة، وهو ما يؤدي لإحجام الطلاب عن إكمال تعليمهم، بينما تصاعدت معدلات استهداف الطلاب في العراق لتصل لأعلى مستوياتها منذ عام 2008؛ حيث سقط ما لا يقل عن 700 من الأطفال في مراحل التعليم المختلفة، وأُصيب ما لا يقل عن 500 خلال عمليات قصف لمنشآت تعليمية بين أطراف الصراع الأهلي العام الماضي. وفي ليبيا، تراجعت مستويات التسجيل في المؤسسات التعليمية في عام 2015 بنسبة 50% نتيجة احتدام الصراع الأهلي، وعدم قدرة المؤسسات التعليمية على تأمين انتقال التلاميذ إلى منازلهم.
2- تدمير المنشآت: أدت عمليات القصف المتبادل بين أطراف الصراعات الداخلية إلى تدمير المنشآت التعليمية أو استخدامها كمناطق تمركز عسكري من جانب الميليشيات المسلحة، فضلا عن تخصيص بعض المدارس والجامعات لإقامة النازحين من مناطق الصراعات مما يؤدي للضغط على المنشآت التعليمية المتبقية؛ حيث تشير تقارير منظمة اليونيسيف في عام 2015 إلى تدمير ما لا يقل عن 8850 مدرسة ومنشأة تعليمية في كلٍّ من سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان نتيجة الاستهداف المتصاعد للمنشآت التعليمية من جانب أطراف الصراعات الداخلية. فقد وصل عدد المدارس التي تعرضت للتدمير إلى حوالي 3500 مدرسة في اليمن، و1200 مدرسة في العراق، و281 مدرسة في قطاع غزة. وفي السياق ذاته أكد تقرير صادر عن المركز السوري لحقوق الإنسان في مطلع عام 2015 تدمير ما لا يقل عن 3994 مدرسة في سوريا، من بينها حوالي 450 مدرسة مدمرة بالكامل معظمها في محافظات حمص وريف دمشق وحلب، ولا ينفصل ذلك عن تحويل حوالي 1500 مدرسة إلى مقرات للنازحين داخل الأراضي السورية، وتحويل 150 مدرسة أخرى لمستشفيات ميدانية من جانب الميليشيات السورية، يضاف ذلك إلى تحويل عدد من المدارس لمراكز اعتقال ومقرات أمنية سواء للنظام أو للفصائل السورية المسلحة.
3- استهداف المعلمين: يواجه المعلمون في بؤر الصراعات المسلحة تهديدات مباشرة لحياتهم، وهو ما يدفعهم للنزوح إلى مناطق أكثر أمنًا تضمن لهم الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية، ومن ثمَّ يتم إغلاق المؤسسات التعليمية في بؤر الصراعات الأكثر احتدامًا، ففي سوريا ترك ما لا يقل عن 52500 معلم و523 مستشار تعليمي عملهم في بؤر الصراع الأكثر احتدامًا، وفضلوا اللجوء إلى دول الجوار أو النزوح داخليًّا للمناطق التي يسيطر عليها النظام لضمان الحصول على رواتب منتظمة تتراوح بين 200 و450 دولار شهريًّا.
وفي اليمن، لم تتوقف عمليات الاستهداف المباشر للمعلمين في خضم الصراع الأهلي، وهو ما يستدل عليه بعملية قام بها الحوثيون استهدفت مؤسسة تعليمية في محافظة عمران وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 13 مدرسًا في أغسطس 2015. أما الصومال، فقد شهدت قيام حركة “الشباب”، في منتصف أبريل 2015، بتنفيذ هجوم على وزارة التعليم في العاصمة مقديشيو، حيث قامت الحركة بتفجير سيارة مفخخة أمام واجهة مبنى وزارة التعليم، تبعها اقتحام عناصر مسلحة للوزارة والسيطرة عليها، إلى أن تدخلت قوات الأمن الصومالية، مما أدى لمقتل 6 من المدنيين، بينما تعرض بعض المدرسين لعمليات اختطاف على أُسس طائفية في العراق، خاصةً بعد هيمنة تنظيم “داعش” على بعض المحافظات السنية.
4- استنزاف الموارد: تتعرض مختلف الدول العربية لضغوط متصاعدة على الموارد المالية المخصصة للتعليم في ظل تدفقات اللاجئين من بؤر الصراعات إلى دول الجوار، وهو ما يؤدي لتكدس الطلاب في المنشآت التعليمية، وتردي مستوى التعليم في الدول المضيفة للاجئين. ففي مناطق اللجوء بدول الجوار لم يتمكن حوالي 700 ألف من الأطفال السوريين من إكمال تعليمهم بسبب عدم وجود أماكن بالمنشآت التعليمية لاستقبالهم، إذ لم يتجاوز عدد الطلاب السوريين الذين تم استيعابهم في المدارس اللبنانية حوالي 106 آلاف خلال عام 2015 وفق إحصائيات وزارة التعليم اللبنانية، بينما كشفت إحصائيات وزارة التعليم العراقية في مطلع 2015 عن احتياج العراق لتأسيس حوالي 10 آلاف مدرسة لاستيعاب الزيادة المضطردة في عدد الطلاب، ومع تصاعد أعداد النازحين من مناطق الصراع في المحافظات السنية قام إقليم كردستان بالعراق بتخصيص ما لا يقل عن 84 مدرسة لاستيعاب حوالي 116 ألف من النازحين.
وفي اليمن، يمكن القول إن التعليم أضحى ضمن قائمة الاحتياجات غير الأساسية في ظل وجود ما لا يقل عن 65% من المواطنين تحت خط الفقر، واتجاه الأسر الفقيرة إلى عدم إرسال أطفالهم للمؤسسات التعليمية، سواء للبحث عن فرص العمل أو الهجرة لدول الجوار، أو نتيجة تصاعد ممارسات الزواج المبكر للفتيات.
الانحدار للعنف:
لا تقتصر تداعيات تردي أوضاع التعليم في دول الصراعات الداخلية في المنطقة العربية على المعاناة الإنسانية للمدنيين، وإنما تتضمن تهديدات مباشرة بإطالة أمد الصراع إلى ما لا نهاية، وإعاقة عمليات التسوية وإعادة الأعمار؛ حيث يتم استقطاب الأطفال المتسربين من التعليم من جانب التنظيمات الإرهابية التي تقوم بتدريبهم على استخدام الأسلحة أو تنفيذ عمليات انتحارية، ويُستدل على ذلك بمقاطع الفيديو التي نشرها تنظيم “داعش” في العراق وسوريا لأطفال يقومون بتنفيذ عمليات إعدام بحق عناصر من معارضي التنظيم، فضلا عن العملية الانتحارية التي قامت بتنفيذها طفلة تنتمي لتنظيم “بوكوحرام”، والتي أدت إلى مقتل 15 شخصًا، والهجوم الانتحاري الذي نفذه طفل سوري في منطقة سامراء بالعراق في يناير 2015.
ولا يقتصر تجنيدُ الأطفال على التنظيمات الإرهابية، حيث تعتمد الميليشيات المسلحة على الأطفال في العمليات العسكرية، وعادةً ما يكون المقابل المادي الدافع الأكثر فاعلية في استقطاب الأطفال لصفوفهم، وهو ما يتجلى في مشاركة الأطفال ضمن ميليشيات “الحشد الشعبي” في العراق وميليشيات “الحوثيين” في اليمن. ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست” في مايو 2015؛ فإن الأطفال يُشكلون حوالي ثلث عدد قوات “الحوثيين” التي تضم 26 ألف مقاتل.
أما الجانب الأكثر خطورةً لانهيار التعليم في بؤر الصراعات الداخلية فيتمثل في قيام التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة بإنشاء مؤسسات تعليمية بديلة تقوم بتدريس الفكر التكفيري المتطرف للأطفال، على غرار “جبهة النصرة” التي أسست “معسكر أشبال الأقصى لإعداد المجاهدين” الذي يستهدف إعداد كوادر تعتنق فكر تنظيم “القاعدة” بين الأطفال، وهو ما يمثل محاكاة لتجربة “مدارس الجهاد” التي أسسها تنظيم “داعش” في المناطق التي يسيطر عليها في سوريا والعراق بهدف نشر أفكار التنظيم بين الأطفال، وانتقاء كوادر من بينهم يتم ضمهم للتنظيم للقيام بعمليات عسكرية.
ويتجاوز عدد معسكرات تدريب الأطفال على القتال في سوريا والعراق حوالي 14 معسكرًا تدربها تنظيمات متعددة، مثل تنظيم “داعش”، و”جبهة النصرة”، و”الحزب الإسلامي التركستاني”، و”جند الشام”، وقوات “الحشد الشعبي” الشيعية. وتقوم هذه المعسكرات بالدمج بين التعليم العقائدي المكثف، والتدريب العسكري المتواصل، بهدف إعداد جيل جديد من الكوادر المسلحة.
أما التعليمُ المدني في بؤر الصراعات المسلحة فلم يسلم من هيمنة أطراف الصراع، حيث أسس تنظيم “داعش” ديوان التعليم بهدف إدارة العملية التعليمية في المناطق الخاضعة لسيطرته في سوريا والعراق، حيث تم تغيير المقررات الدراسية بكافة المدارس لتصبح متوافقة مع فكر تنظيم “داعش”، وتمت إضافة مقررات شرعية بكافة المراحل الدراسية مع حذف مقررات التاريخ والفلسفة، وتم تأسيس مدارس للتعليم باللغة الإنجليزية لأطفال مقاتليه غير الناطقين باللغة العربية في سوريا والعراق، وتم استقطاب مدرسين بدوام كامل أو جزئي لهذه المدارس، أما في المناطق الكردية في سوريا فتم تغيير لغة التعليم الرسمية في المدارس إلى اللغة الكردية، مع إلغاء كافة المقررات المتعلقة باللغة العربية، وهو ما دفع نظام الأسد، في 23 سبتمبر 2015، لسحب المدرسين من المناطق الكردية، مثل مدينة قامشلي بمحافظة الحسكة، والامتناع عن سداد رواتب المدرسين بهذه المدارس.
ضعف المبادرات:
دفع تردي الأوضاع التعليمية في بؤر الصراعات الداخلية بالمنطقة العربية لتكثيف جهود الأطراف الداخلية والإقليمية والدولية لملء الفراغ الناجم عن انهيار المؤسسات التعليمية. وفي هذا الإطار تمثلت أهم مبادرات التعليم في بؤر الصراعات الداخلية فيما يلي:
1- مدارس المخيمات: أدى انقطاع الأطفال اللاجئين عن التعليم إلى قيام بعض المؤسسات الخيرية بإنشاء مدارس للاجئين في المخيمات شبيهة بالكتاتيب الدينية، حيث تتكون من خيمة في مناطق تمركز اللاجئين، وتُركز على تدريس القرآن الكريم واللغة العربية والحساب، وهي لا تتبع أي جهة رسمية في دولة اللجوء، وإنما في الأغلب تأتي بمبادرة من أئمة المساجد أو الجمعيات الخيرية ممن تأتمنهم إدارة المخيمات والجهات الأمنية على تعليم النشء. ونتيجة اعتمادها على التطوع والعمل الخيري وكونها لا تتطلب انتقال أطفال اللاجئين إلى داخل الدولة فإن هذه المدارس تُعد الأكثر قبولا في مخيمات اللاجئين في لبنان والأردن وتركيا.
2- مبادرة جيل غير ضائع: تم إطلاق هذه المبادرة بدعم من الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الإنسانية غير الحكومية والمانحين الدوليين، وتستهدف حماية الأطفال من تداعيات الصراعات الداخلية، حيث تمكنت هذه المبادرة من تأسيس 600 مدرسة مفتوحة في سوريا تسمح للمنتسبين إليها بتعويض المقررات الدراسية التي لم يدرسوها خلال سنوات الصراع، كما ساهمت المبادرة في مضاعفة عدد الأطفال السوريين المسجلين في التعليم الرسمي وغير الرسمي، وأثمرت جهود المؤسسات المنخرطة في المبادرة عن تعليم ما لا يقل عن 413 ألف طفل سوري ولبناني من الفقراء خلال العام الفائت.
3- حملات العودة للتعليم: قامت منظمة اليونيسيف برعاية مجموعة حملات بعنوان “العودة للتعليم” في عدد من الدول العربية، وتقوم هذه الحملات على إنشاء مراكز للتعليم البديل وإصلاح المؤسسات التعليمية المتضررة من الصراعات الداخلية. ففي قطاع غزة قامت اليونيسيف بتأمين عودة 260 ألف طفل للدراسة، وتدريب ما لا يقل عن 11 ألف معلم على إدارة التداعيات النفسية للصراعات، وفي لبنان أطلقت وزارة التعليم اللبنانية ومنظمة اليونيسيف حملة “كلنا المدرسة” لدعم تعليم اللاجئين السوريين، حيث تم تسجيل ما لا يقل عن 106 آلاف طفل من اللاجئين في المدارس اللبنانية في مقابل 300 ألف آخرين لم يتم تسجيلهم، حيث تتحمل اليونيسيف كامل تكلفة تعليم اللاجئين في المدارس اللبنانية.
4- إعادة الإعمار: تولّت بعض المؤسسات الخيرية في الدول العربية بناء مدارس جديدة في بؤر الصراعات الداخلية التي تمت تسويتها في إطار عمليات إعادة الأعمار؛ حيث تم التوافق على قيام مؤسسة الأزهر في مصر بإعادة تأهيل المدارس الأزهرية في الصومال في ديسمبر 2014، وهو ما تبعه قيام منظمة الدعوة الإسلامية في قطر بتمويل إنشاء 29 مدرسة في الصومال في المناطق الأكثر فقرًا.
وعلى الرغم من التوسع في مبادرات تعليم الأطفال المتضررين من الصراعات الداخلية، فإن هذه المبادرات تتسم بمحدودية النطاق، وافتقادها القدرة على استيعاب الأطفال المتضررين من الصراعات الداخلية، فضلا عن ضعف التمويل لهذه المبادرات، وهو ما يتجلى في إخفاق مؤسسات الإغاثة الدولية في تأمين 200 مليون دولار العام الماضي لتمويل خدمات التعليم لأطفال اللاجئين في سوريا ولبنان والأردن على الرغم من تعهد كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والأمم المتحدة بتقديم حوالي 316 مليون دولار لدعم أطفال سوريا المتضررين من الصراع الأهلي.
وفي المجمل، يؤدي تردي الأوضاع التعليمية في مناطق الصراعات الداخلية لإطالة أمد الصراعات نتيجة توظيف الأطفال من جانب أطراف الصراع، وهيمنة الفرقاء المتصارعين وحلفائهم الإقليميين على عمليات التنشئة والتعليم كبدائل للدولة، مما يساهم في تكريس قيم التطرف والتكفير والصراع والعنف وعدم تقبل الآخر لدى الأجيال الصاعدة، وتعزيز توجهات الانفصال والانتماءات والولاءات الأولية الإثنية والطائفية والعرقية، مما يجعل الصراعات الأهلية غير قابلة للتسوية.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية