بقايا مطبخ ظلّ منه غاز الطهي، وبقايا غرفة نوم بقيت منها حقائب الملابس، ومجموعة من المقتنيات حولها في الهواء الطلق، هو ما كان عليه حال المرأة البدوية جازية كعابنة (أم عودة). تطهو أم عودة الطعام لأسرتها وأسر أبنائها بما بقي من مطبخ كان مسقوفاً داخل مسكن بدوي قرب بلدة الطيبة شرق رام الله وسط الضفة الغربية على الطريق الواصل بين رام الله وأريحا والمعروف بطريق المعرجات، قبل أن يدهم جيش الاحتلال الإسرائيلي قبل نحو ثلاثة أسابيع المنطقة ويهدم ويصادر مساكن أربع عائلات مبقياً إياها في العراء، والسبب أنها أقامت تلك المساكن من الخيام والصفيح في المنطقة (ج)، حسب اتفاق أوسلو، من دون ترخيص.
وتعرف المناطق (ج) بأنها تلك الأراضي التي أعطى اتفاق أوسلو بين “منظمة التحرير الفلسطينية” وحكومة الاحتلال عام 1993، السيطرة الأمنية والمدنية الإدارية عليها للاحتلال، وهي تشكل قرابة 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية. وكانت اتفاقية أوسلو قد قسمت الأراضي الفلسطينية إلى ثلاثة أقسام؛ ليكون القسمان الآخران هما المناطق (أ) التي تخضع للسيطرة الفلسطينية الأمنية والمدنية، والمناطق (ب) التي تخضع لسيطرة أمنية إسرائيلية وسيطرة مدنية وإدارية فلسطينية.
يصادر الاحتلال بقايا المساكن لعدم تمكين الأهالي من إعادة بناء ما دُمر باستخدام مخلفات الهدم
هدم من دون سابق إنذار
تحت أشعة الشمس الحارقة تقول جازية كعابنة لـ”العربي الجديد”، إنها طلبت من قوات الاحتلال التي عملت على تفكيك ما تبقى من مسكنها قبل مصادرته، بأن يبقوا لها على الأقل مطبخها كي يقيها من حر الشمس ويمنع عنها وعن طعامها الذي تحضّره غبار المكان، لكنهم لم يكترثوا. وتضيف أن “مسلسل الترحيل من مكان لآخر تزايد خلال وبعد تسعينيات القرن الماضي، لكنها المرة الأولى التي يتم الهدم فيها بهذا الشكل من دون إنذار مسبق، مع مصادرة بقايا المساكن لعدم تمكين الأهالي من إعادة استخدام مخلفات الهدم في البناء مجدداً”.
في الأيام الأولى بعد الهدم الذي طاول 10 منشآت تنوعت بين سكنية وحظائر للأغنام، حصلت العوائل على خيمتين من “هيئة مقاومة الجدار والاستيطان” الفلسطينية، كما يروي ممثل التجمع البدوي في الهيئة، محمود كعابنة، لـ”العربي الجديد”. ولأيام ظلّت النساء والأطفال يبيتون في خيمة، والرجال في الخيمة الأخرى أو في العراء، ريثما تدبروا أمورهم بعد أيام.
كان سكان هذا التجمع البدوي يقطنون في مكان آخر أقرب إلى بلدة الطيبة، لكن الاعتداءات المتكررة على ممتلكاتهم من قبل المستوطنين الذين يقيمون بؤرة استيطانية زراعية قريبة، دفعتهم لنقل مكان عيشهم لبضعة كيلومترات، والآن لا يزالون يفكرون فيما إذا كانوا سيبقون في المكان أم سينتقلون إلى أراضٍ أخرى في ظلّ قيام سلطات الاحتلال أخيراً بأخذ صور للتجمع، وهذا ما يذكرهم بما حصل قبل أيام من تصوير مكان سكنهم، ومن ثمّ هدمه من دون سابق إنذار أو أمر بالإخلاء.
ملحق فلسطين
النضال الفلسطيني في الداخل: اختفاء المشروع الاستراتيجي
تفريغ المناطق (ج) وتطبيق لسياسة الضم
ثلاثة أسابيع فقط تخللتها عمليات هدم أخرى، على وقع مسيرات للمستوطنين خرجت في مناطق متفرقة من الضفة الغربية وتحديداً في المناطق (ج)، تدعو حكومة نفتالي بينت لهدم منازل فلسطينية، وضد ما قالوا إنه عدم تنفيذ قرارات حكومية إسرائيلية بهدم مبانٍ فلسطينية في المناطق (ج).
لكن الحكومة الإسرائيلية الجديدة لا تبدو بعيدة حتى في تشكيلتها وفي ما تم التوافق عليه بين الأحزاب المكونة لها، عن هدف المستوطنين ذاك، وهو إبقاء المناطق (ج) فارغة من الفلسطينيين قدر الإمكان. تلك المناطق بالتحديد، هي التي كان مشروع الضم الذي طرحه رئيس وزراء الاحتلال السابق بنيامين نتنياهو العام الماضي، يستهدفها، وقد هدم الاحتلال فيها 294 منزلاً ومنشأة منذ بداية العام الحالي، إضافة إلى هدم 84 منزلاً ومنشأة في القدس المحتلة، بحسب الإحصاءات التي حصلت عليها “العربي الجديد” من “هيئة مقاومة الجدار والاستيطان” الفلسطينية.
ويقول المدير العام للنشر والتوثيق في الهيئة، قاسم عواد، لـ”العربي الجديد”، إنّ “معظم عمليات الهدم استهدفت التجمعات الفلسطينية في المناطق (ج)، وتركزت في الأغوار الشمالية، وتحديداً تجمع حمصة الذي استُهدف بالتهجير القسري، ما يعكس سياسة الاحتلال التي تقوم على تنفيذ الضم على الأرض على الرغم من التصريحات السياسية التي تتحدث عن تجميد المشروع”.
هدم الاحتلال في المناطق (ج) 294 منزلاً ومنشأة منذ بداية العام الحالي
هيئة إسرائيلية جديدة للبناء في المناطق (ج)
الحكومة الإسرائيلية الجديدة ليست بعيدة عن النهج نفسه الذي اتبعته الحكومة التي سبقتها، فقد قام نهج حكومة بينت على أساس تنظيم عملية استهداف المناطق (ج)، باتفاق الأحزاب المكونة للحكومة على استحداث هيئة جديدة خاصة بالبناء في مناطق (ج)، تحت إطار الإدارة المدنية الإسرائيلية. والأخيرة، جسم يتبع لجيش الاحتلال كان قبل إنشاء السلطة الفلسطينية يدير الشؤون المدنية للفلسطينيين، وبقي قائما على الرغم من إنشاء السلطة الفلسطينية.
في السياق، يقول المدوّن والمختص بالشأن الإسرائيلي، محمد أبو علان، في حديث لـ”العربي الجديد”، إن “استحداث هذه الهيئة يشير إلى مسألة هامة وهي أنّ مناطق (ج) كانت على سلّم أولويات حكومة بينت، ولكنها مرّت بمفاوضات بين الأحزاب المشكّلة للحكومة، إذ كانت تطالب بعض الأحزاب والشخصيات وتحديداً زعيم حزب “أمل جديد” جدعون ساعر، ومن خلفهم المستوطنون، بتشكيل هيئة جديدة لمتابعة قضايا المناطق (ج) تتبع مباشرة للحكومة”. ويضيف أبو علان، “فيما أراد وزير الأمن بيني غانتس، إبقاء الأمر عند الإدارة المدنية، ليتم التوصل في النهاية إلى حل بإنشاء الهيئة تحت إطار الإدارة المدنية. ويبدو الفرق بين المعسكرين أن أحدهما لا يريد الإعلان عن خطوات تشبه خطة الضم، بما تعني من مواجهة الإدارة الأميركية الحالية في هذه الفترة، بينما يريد الآخر إرضاء المستوطنين”.
ملحق فلسطين
هل تستطيع حماس ان تقود حركة التحرر الفلسطينية؟
ومن الأهداف المهمة للهيئة كما يشرح أبو علان، العمل على تجفيف الموارد المالية للسلطة الفلسطينية التي تستخدم للعمل والبناء في مناطق (ج)، فهي ستبذل جهوداً لدى الاتحاد الأوروبي لتجفيف المال عن مشاريع في هذه المناطق.
من جهتها، تؤكد المديرة العامة للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية “مدار”، هنيدة غانم، في حديث مع “العربي الجديد”، أنّ استحداث هذا الجسم يعني أن هذه الهيئة الإسرائيلية ستعمل كذراع شبيهة لمنظمة “ريغافيم” الاستيطانية، وهي منظمة يمينية وظيفتها مراقبة البناء في المناطق (ج) في الضفة الغربية، إضافة إلى النقب في جنوب فلسطين المحتلة عام 1948، مضيفةً أن هذا الجسم يهدف للتأكد من عدم وجود بناء فلسطيني في تلك المناطق، لتكون مستقبلاً تحت السيطرة الإسرائيلية.
وتقول غانم، إنّ ذلك “يعطي مؤشرات على توجهات الحكومة اليمينية الصرفة بما يتعلق بالملف الفلسطيني، فقد وصلت لمرحلة ينتقل فيه السؤال من حل دولتين إلى حل على أراضي العام 1967 من دون المستوطنات، وأخيراً إلى اعتبار مناطق (ج) وكأنها فعلياً جزء من إسرائيل”.
جهود إسرائيلية لدى الاتحاد الأوروبي لتجفيف المال عن مشاريع في المناطق (ج)
استهداف متواصل ومحاولات لتثبيت الأهالي
بدوره، يؤكد مسؤول ملف التخطيط في المناطق (ج) ومدير دائرة المساحة والخرائط في وزارة الحكم المحلي الفلسطينية، جهاد ربايعة، في حديث مع “العربي الجديد”، أنّ “السكان في المناطق (ج) يعيشون الخطر ولا جديد في ما تم استحداثه”. ويضيف ربايعة: “يمكن أن يتضاعف الخطر، لكن الهدم موجود، وتهديد السكان موجود، ربما سيزيدون أعداد الموظفين والكوادر، ولكن سياسة استهداف المناطق (ج) متواصلة”.
ويشدد ربايعة على أنّ “وزارة الحكم المحلي ستستمر في تنفيذ المخططات الهيكلية في المناطق (ج)، وفق سياسة فلسطينية بدأت في العام 2011، شملت حتى الآن تجهيز 130 مخططاً هيكلياً لتجمعات في المناطق (ج)، تم تنفيذ 90 مشروعاً منها، من شق طرق، وتجهيز خزانات مياه، وإقامة مدارس، من دون انتظار موافقات إسرائيلية”. ويؤكد ربايعة أنّ “التخطيط في المناطق (ج) لن يتوقف”، واصفاً مصطلح “جمع معلومات استخبارية” عن البناء في تلك المناطق والذي ورد كأحد أهداف الهيئة الإسرائيلية الجديدة بأنه “مصطلح لغايات سياسية فقط، وآلة الهدم كما هي لم تتوقف”.
وفي حين أنّ مشاريع وزارة الحكم المحلي الفلسطينية، تقام بدعم من دول الاتحاد الأوروبي، فيما تهدف الهيئة الإسرائيلية الجديدة لتجفيف ذلك التمويل تحديداً، يقول ربايعة: “إن سياسة الاتحاد الأوروبي داعمة لتلك المشاريع”، متوقعاً عدم تأثرها بتلك الإجراءات الإسرائيلية، ويوضح: “هم مطلعون على القرارات العنصرية الإسرائيلية التي لن تؤثر في هذا الدعم”.