طيلة العامين الماضيين عمل القيادي الشيعي مقتدى الصدر بهدوء للعودة إلى المشهد السياسي العراقي، مستفيدا من شعبيته القوية التي من المتوقع أن تمنحه مكاسب انتخابية جديدة في الانتخابات البرلمانية المرتقبة في أكتوبر القادم. وبعد أن نجح التيار الصدري في أن يضع يده على المناصب الحكومية، يكشف تقرير لرويترز السر وراء هذا النجاح، حيث يعود ذلك إلى ما تعلمه من أساليب جماعة حزب الله اللبناني والتي تتسق معه في المرجعية والولاء لإيران، في كيفية تبريد الانقسامات الداخلية واستقطاب الشارع والاستحواذ على السلطة.
بغداد- جون ديفيسون /أحمد رشيد- ذات ليلة شابها التوتر في شهر فبراير الماضي، خرج الآلاف من المقاتلين الموالين لرجل الدين الشيعي مقتدى الصدر إلى شوارع بغداد ومدن أخرى في جنوب العراق في استعراض بشاحنات البيك أب المحملة بالسلاح بينما وقفت قوات الأمن العراقية دون أن تحرك ساكنا.
كان ذلك أكبر استعراض للقوة من جانب فصيل رجل الدين الشعبوي منذ أواسط العقد الأول من القرن الحالي عندما خاض أتباعه معارك مع قوات الاحتلال الأميركي وألحقوا بها خسائر بشرية بالآلاف.
وبعد يومين وفي خطوة نادرة، ظهر الصدر أمام كاميرات وسائل الإعلام في قاعدته بمدينة النجف المقدسة عند الشيعة في جنوب العراق. وقال إن سرايا السلام التابعة له خرجت بسبب تهديد إرهابي يستهدف مواقع شيعية مقدسة وإن العراق ليس آمنا دون جماعته المسلحة، مضيفا أن “القوات الأمنية في حالة انهيار وضعف”.
وفي نظر حلفاء الصدر وخصومه على السواء كانت رسالته واضحة: فقد عاد الصدر بعد أن ظل سنوات خارج الصورة. كانت عودة إلى الشوارع وإلى دهاليز السلطة معا.
وخلال العامين الأخيرين عمل التيار الصدري بهدوء على الهيمنة على أجهزة الدولة العراقية. فقد تولى أعضاؤه مناصب عليا في وزارات الداخلية والدفاع والاتصالات. وتم تعيين من وقع عليهم اختياره في مؤسسات النفط والكهرباء والنقل التابعة للدولة والبنوك المملوكة للدولة بل والبنك المركزي العراقي، حسبما قال أكثر من عشرة مسؤولين حكوميين ونواب. وأتاحت هذه المواقع الجديدة للتيار الصدري قوة مالية.
حسن الكعبي: رئيس الوزراء القادم مليون في المئة ينتمي الى التيار صدري
ويوضح تحليل لوكالة رويترز أن الوزارات التي شغل الصدريون أو حلفاؤهم مناصب فيها في الآونة الأخيرة تمثل ما بين ثلث ونصف مشروع موازنة العراق لعام 2021 البالغ حجمه 90 مليار دولار.
ويتأهب التيار الصدري لتحقيق أكبر مكاسب في الانتخابات العامة المقرر إجراؤها في أكتوبر القادم. وربما يمثل هذا النفوذ المتنامي مشاكل للولايات المتحدة وإيران اللتين يتهمهما الصدر بالتدخل في شؤون العراق. وسبق أن نادى الصدر برحيل القوات الأميركية الباقية في العراق والبالغ قوامها 2500 جندي كما قال لطهران إنه لن يترك العراق في قبضتها.
ومع ذلك، أشار بعض الدبلوماسيين الغربيين في لقاءات خاصة غير رسمية إلى أنهم يفضلون التعامل مع حكومة يهيمن عليها الصدر على التعامل مع حكومة يهيمن عليها خصومه الشيعة المدعومون من إيران.
ومنذ هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2017، وجهت القوات التي حاربت التنظيم من الولايات المتحدة والفصائل المدعومة من إيران أسلحتها للأخرى بهجمات صاروخية وضربات بالطائرات المسيرة. ومع انشغال خصومه الشيعة، اتجه الصدر في هدوء إلى العمل السياسي.
وقال دوج سليمان السفير الأميركي السابق لدى العراق ورئيس معهد دول الخليج العربية في واشنطن “وجدنا أن الصدر واحد من المكابح الرئيسية للتوسع الإيراني والنفوذ السياسي الشيعي الموغل في الطائفية بالعراق بعد انتخابات 2018”.
ويلفت مسؤولون كبار بالحكومة وساسة من الشيعة إلى أن التيار الصدري تعلم بعضا من أساليبه السياسية من جماعة حزب الله اللبنانية المسلحة التي تربطها بالحركة الصدرية صلة وثيقة. ومن هذه الأساليب سبل تجنب انقسام أصوات الصدريين ومن ثم تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الانتخابية.
ولخص نصار الربيعي رئيس الهيئة السياسية للتيار الصدري، نهضة التيار فقال “هذه المناصب موجودة بكل مكان. يعني عندنا ناس تابعين للتيار الصدري بكل مؤسسات الدولة. وعندهم مناصب كبيرة ومهمة. هم أبناء مؤسسة متدرجون”.
فيما وصف حازم الأعرجي القيادي في الخط الأول للتيار الصدري بأن هذا التيار أقوى من أي وقت مضى منذ 2003، مضيفا أنه هو “الجهة الأقوى بالعراق”. في حين نفى رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي من قبل أن التيار الصدري يسيطر على مناصب كبيرة في حكومته وهو يؤكد أنه يمسك بزمام الأمور.
بدءا من منتصف العقد الأول في القرن الحالي نأى الصدر بنفسه بصفة عامة عن الحكومات العراقية سواء التي أيدتها الولايات المتحدة أو تلك التي أيدتها إيران.
وفي 2007 انسحب التيار الصدري من الحكومة بسبب رفضها تحديد جدول زمني لانسحاب القوات الأميركية من البلاد. وفي سنة 2008 قاد رئيس الوزراء نوري المالكي حملة على جيش المهدي سقط فيها المئات من المقاتلين قتلى. وفي 2014 أعلن الصدر أنه سينسحب من ساحة العمل السياسي. ويقول معاونوه إنه خشي أن تهتز سمعته من جراء الارتباط بطبقة الحكم التي يرى العراقيون جميعا تقريبا أنها فاسدة.
ومما لا ريب فيه أن التيار الصدري واصل شغل مناصب رئيسية في بعض الوزارات، لاسيما وزارة الصحة، واستمر في الدفع بمرشحين في الانتخابات.
وفي أواخر 2019 تفجرت احتجاجات على حكومة عبدالمهدي المدعومة من إيران. وندد المتظاهرون بالفساد والنفوذ الأجنبي واختصوا إيران بانتقاداتهم. وشنت القوات الأمنية العراقية والفصائل التي تدعمها طهران حملة أمنية على المحتجين العزل.
ولجأ الصدر إلى تويتر مطالبا باستقالة الحكومة. وانضم أنصاره إلى الاحتجاجات. وقال محتج من المطالبين بالديمقراطية اسمه مصطفى قاسم (31 عاما) “وجود التيار الصدري في جانبنا كان في غاية الأهمية. فهو قوة كبيرة وأعطانا دعما معنويا وماديا”.
وبعد أسابيع أمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشن ضربة بطائرة مسيرة أسفرت عن مقتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني وقائد الحشد الشعبي العراقي أبومهدي المهندس في مطار بغداد. وأدى مقتل الاثنين إلى إضعاف التكتل الموالي لإيران وانقسامه.
وفي هذا الفراغ تقدم الصدر. فقد قال أكثر من عشرة وزراء حاليين وسابقين ودبلوماسيين غربيين إنه استغل تشتت خصومه وضعف وضع رئيس الوزراء الكاظمي في التعجيل بسيطرة الصدريين.
وقال المسؤولون الحكوميون والنواب إنه في المواقع التي لم يشغل الصدريون مناصب مباشرة فيها كانت التعيينات من نصيب مرشحيهم المفضلين بما يجعلهم أسرى لجميل الصدر عليهم. ومن المناصب التي يهيمن عليها الصدريون من خلال حلفاء منصب وكيل وزارة النفط ومحافظ البنك المركزي ومناصب أخرى حساسة تتعلق بالشؤون المالية، حسبما قاله مسؤولون في وزارتي النفط والمالية.
منذ هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2017، وجهت القوات التي حاربت التنظيم من الولايات المتحدة والفصائل المدعومة من إيران أسلحتها للأخرى بهجمات صاروخية وضربات بالطائرات المسيرة. ومع انشغال خصومه الشيعة، اتجه الصدر في هدوء إلى العمل السياسي
وقدر تقرير حديث أصدره مركز تشاتام هاوس للبحوث في الشؤون الدولية أن الصدريين شغلوا حوالي 200 منصب من أكثر المناصب غير الوزارية نفوذا منذ 2018.
وقد ساعد الدور المتزايد الذي يلعبه التيار الصدري في إدارة الدولة في الدفع بالتشريعات التي يفضلها والموافقة على القرارات الحكومية الكبرى أو الاعتراض عليها. وتخصص موازنة العام 2021 المزيد من الأموال في جنوب العراق قلب النفوذ الشيعي الذي يمثل قاعدة التأييد التقليدية للتيار الصدري وللوزارات التي يتمتع فيها بأقصى نفوذ، وذلك وفقا لما قاله ساسة كبار من الشيعة والأكراد. وربما تتبقى بعد ذلك مبالغ أقل للمناطق الشمالية السنية التي تعرضت للدمار في المعركة مع تنظيم داعش وتحتاج أشد الحاجة لإعادة الإعمار. ولم يعلق التيار الصدري على ذلك.
ويؤكد نواب ومحللون أن الانتخابات العامة المرتقبة وقانونا انتخابيا جديدا يعتبران في صالح الأحزاب الكبرى التي لها قاعدة تأييد شعبي واسعة لأن المرشحين سيحتاجون أصواتا أكثر وربما تسفر عن تعزيز وضع التيار الصدري. وكان الصدريون طالبوا بإجراء الانتخابات وبالقانون الجديد.
وأوضح مسؤولان من الصدريين وثلاثة مسؤولين كبار من الشيعة أن جماعة حزب الله اللبنانية الشيعية قدمت دورات سياسية للصدريين. ففي انتخابات محلية عام 2009 على سبيل المثال دفع التيار الصدري بعدد محسوب بدقة من المرشحين في كل منطقة لتفادي تفتيت الصوت الصدري.
وقال مساعد الصدر واثنان آخران من المسؤولين الصدريين إن التيار وحزب الله لا يزالان على اتصال وثيق ويتبادلان الخبرات السياسية والاقتصادية والعسكرية بانتظام بما في ذلك كيفية التعامل مع الأزمات السياسية المحلية والإقليمية.
ويستخدم الفصيلان نهجا مماثلا للتواصل على الصعيد المحلي مقترنا بنشاط الجناحين العسكري والسياسي. وتربط الجانبين صلات أسرية من خلال المصاهرة. وتنحدر عائلة الصدر من لبنان.
وأكد متحدث باسم حزب الله أن الجماعة قدمت ما وصفه بمساعدات لفصائل عراقية بما فيها التيار الصدري وقال “نعم هذا صحيح، قدمنا بعض المساعدة والتدريب السياسي والتثقيفي لعدد من الفصائل العراقية من بينها التيار الصدري وبالطبع من بينها التدريب والبرامج الانتخابية”.
ومع تحديد موعد الانتخابات في أكتوبر يملأ الصدريين شعور بالثقة. وحسب حسن الكعبي النائب الأول لرئيس مجلس النواب العراقي في مقابلة تلفزيونية خلال أبريل “رئيس الوزراء القادم مليون في المئة صدري”.
ويسلم معظم خصوم الصدر بأن الصدريين سيحتلون المركز الأول وأن نفوذهم الاستثنائي في إدارة الدولة سيمنحهم القول الفصل في من يقود الحكومة.
وتمثل هذه التوقعات معضلة للقوى الغربية والإقليمية. فقد سبق أن انتقد الصدر طهران وواشنطن ولندن وعواصم الخليج العربية لتدخلها في شؤون العراق، لكنه كان أيضا واحدا من قلة من القيادات الشيعية العليا التي زارت السعودية كما أنه أمضى فترات طويلة في إيران رغم علاقته غير المستقرة معها.
وقال مسؤول كبير في التيار الصدري “مقتدى تربطه علاقات طيبة مع الخليج وإيران وتركيا”، لكنه صحح نفسه بعد أن ذكر الولايات المتحدة في السياق ذاته. وقال المسؤول “له أقارب في قم (المدينة الإيرانية المقدسة)”، مشيرا إلى أخيه الأكبر المقيم بإيران.
وبرأي مسؤول رفيع في إقليم كردستان العراق الذي يتمتع بالحكم الذاتي وتربطه علاقات وطيدة بالولايات المتحدة “من الصعب أن يكون الصدر في مواجهة مع إيران. ففي النهاية، سيكون مقتدى أقرب لإيران منه للولايات المتحدة”.
وأبرز دبلوماسي غربي أن الدول الغربية تعتبر الصدر “كما مجهولا” وترى فيه الزعيم العراقي الوحيد القادر على تنفيذ الإصلاحات والتصدي للفصائل المدعومة من إيران، لكنه لا يزال يرتاب ارتيابا عميقا في الولايات المتحدة وبريطانيا على وجه التحديد.
يحمل بروز دور الصدر في طياته مخاطر على التيار الصدري ذاته. فقد كشف اثنان من كبار مسؤولي الحكومة من معارضي الصدر أن أتباعه لم يعرفوا الرأفة في مسعاهم لوضع اليد على المناصب في الدولة.
ويروي مسؤول تعليمي في جنوب العراق يدعى أبوأمير كيف أن أنصار الصدر هددوه لكي يتنحى عن منصبه في مدرسة حكومية، وهو منصب كان قد أقيل منه توا سلفه الصدري لتهم فساد. وقال أبوأمير إنهم كانوا يريدون إعادة المسؤول الصدري إلى منصبه.
وبين أبوأمير الذي طلب عدم كشف اسمه بالكامل أنه ما إن تسلم المنصب حتى بدأت رسائل تصله من أنصار الصدر يهددونه فيها ويطالبونه بالاستقالة. وأضاف أن مسؤولا حكوميا صدريا تم تعيينه مؤخرا دخل المدرسة بعد بضعة أيام مع عدد من المسلحين وأعاد الصدري المفصول إلى منصبه. وكان أبوأمير قد لاذ بالفرار.
ومن ناحية أخرى بدأ بعض شباب الصدريين ينصرفون عن التيار. فقد اعتاد قاسم الذي شارك في الاحتجاجات أن يكون من أنصار التيار، لكنه كشف أنه وآخرين انصرفوا عنه استياء بعد أن انقلب أنصار الصدر على الناشطين المطالبين بالديمقراطية في أوائل 2020.
وكان الصدر قد سحب دعمه للاحتجاجات بعد بضعة أسابيع من نجاحها في تحقيق هدف الإطاحة بالحكومة المدعومة من إيران. وأردف قاسم “ربما كان الصدر يكسب نفوذا في الدولة لكنه يخسر الناس أمثالي”.
العرب