الاستعمار الصامت.. كيف تغزو الصين قلب أفريقيا؟

الاستعمار الصامت.. كيف تغزو الصين قلب أفريقيا؟

يحب الإثيوبيون على الأرجح تذكُّر هدية بكين العملاقة بشارع روزفلت الشهير بقلب أديس أبابا العاصمة، أكثر مدن أفريقيا ارتفاعا عن سطح البحر. كانت هَدية صينية بالغة السخاء، وبالغة الجودة بعكس سُمعة منتجات التنين الآسيوي، وبتكلفة وصلت إلى مئتي مليون دولار، ومئات من العمال الصينيين، وتصميم أشبه بتصميم قاعدة فضائية، وبناء هو الأطول في العاصمة الإثيوبية بـ 21 طابقا شق عنان سماء أديس أبابا (1). أتمت الصين كل شيء على أكمل وجه، وسلَّمت المقر الجديد للاتحاد الأفريقي للبلد الحبيس في مراسم احتفالية نهاية يناير/كانون الثاني لعام 2012، بحضور مستشار الصين السياسي الأول وقتها “جيا كوينجلين”، ورئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي. ظلَّ المبنى العملاق يمارس دوره بكفاءة تامة في جمع أقطاب القارة لخمس سنوات كاملة، وبقاعة مؤتمرات ضمن الأضخم في القارة، حتى يناير/كانون الثاني 2017، عندما استيقظ الإثيوبيون فجأة بعد كل هذه السنوات على كابوس استخباراتي لم يتوقَّعه أحد.

بدأ الأمر بتقني حاسوب مُتحمِّس يعمل بمبنى الاتحاد لاحظ أن خوادم أجهزة الحاسوب في المبنى تزدحم بأنشطة بيانات بين الساعة الثانية عشرة منتصف الليل والثانية صباح كل يوم، رغم عدم وجود أي شخص بالمبنى في هذه الساعات المتأخرة، وسرعان ما ساقه حماسه لتتبُّع مصدر الخلل الذي رصده، ليكتشف أن البيانات اليومية المتداولة، وأسرار الاتحاد الداخلية كافة المخزنة على كل أجهزة المبنى تقريبا، تُنقَل وتُخزَّن في خوادم غامضة أخرى ليست في أديس أبابا، وإنما في مكان آخر يبعد ثمانية آلاف كيلومتر كاملة من العاصمة الإثيوبية، تحديدا في مدينة شنغهاي الصينية.

روى مسؤول رفيع المستوى بالاتحاد الأفريقي -رفض ذكر اسمه- القصة المُذهلة لتسريب البيانات لصحيفة لوموند الفرنسية، مُؤكِّدا أن الاتحاد قام بحملة تطهير واسعة (2)، وأبعد جميع المهندسين الصينيين العاملين بالمبنى، ثم أجرى عملية استبدال كاملة للخوادم الإلكترونية كافة بخوادم أخرى خاصة رافضا عرضا صينيا باستبدالها، وشُفِّرت المراسلات كافة المتبادلة يوميا بين مسؤولي الاتحاد، مع تمريرها من طريق آخر بدلا من شركة إثيو تليكوم، المُشغِّل العام لشبكة الهواتف الإثيوبية، لكن الصحيفة لم تكتفِ بذلك في تحقيقها، وروت مشهدا بدا وكأنه قادم من قلب حرب استخباراتية باردة، عندما حضر فريق أمن سيبراني جزائري استدعاه الاتحاد ليُجري عملية مسح شاملة للمبنى، ليكتشفوا ميكروفونات دقيقة مزروعة في أماكن مختلفة (3).

سرعان ما نفت الصين رسميا، على لسان “كوانج ويلين” سفير بكين لدى الاتحاد الأفريقي، ما جاء بتحقيق لوموند واصفا إياه بأنه “منافٍ للعقل، واستيعابه أمر بالغ الصعوبة”، ثم أيَّده رئيس الاتحاد الأفريقي الجديد -آنذاك- الرواندي “بول كاغامي” قائلا إنه لا وجود لأي عمليات تجسُّس (4)، قبل أن ينضم لحفلة النفي رئيس وزراء إثيوبيا السابق “هايله ديسالين” مُؤكِّدا أن العلاقات الصينية الأفريقية “إستراتيجية وشاملة جدا”، لكن كل تصريحات النفي فشلت في الرد على التفاصيل الدقيقة التي أوردتها “لوموند”.

لم يمضِ الكثير على ما حدث، وبعد أربعة أشهر فقط من واقعة التجسُّس، أعلنت الكونغو قبولها هدية معمارية صينية أخرى (5) تمثَّلت بتولّي بناء البرلمان الكونغولي بتكلفة بالغة الضخامة تتجاوز على الأرجح 50 مليون يورو، ورغم أن السلوك الكونغولي العام كان متسامحا مع حقيقة أن المبنى ربما يكون أقل من أن يُشكِّل قلقا لبلد يواجه أزمات لا تنتهي، لا يمكن تجاهل احتمال أن تكون هدية بكين مقابلا سخيا لمنافع أخرى قد يحصدها العملاق الآسيوي من البلد الأفريقي المُمزَّق بالصراعات والمتخم بالأزمات، والغني بموارده الطبيعية.

تختصر مليارات الصين المتناثرة بطول أفريقيا وعرضها الكثير من علاقات تُشكِّل حصيلة أكثر من عقدين من تشابكات اقتصادية وسياسية بينهما، علاقات تقوم في مجملها على المنفعة المتبادلة كما تُقدَّم رسميا وشعبيا في كلٍّ منهما، وهي وإن كانت تُحقِّق بالفعل عديدا من المنافع لكلا الطرفين، فإنها أيضا علاقة ربما تميل دوما للجانب الصيني، أحد أكبر مستهلكي موارد الطاقة الأفريقية. وفي وقت يسعى فيه الجميع للحصول على نصيب من كعكة الموارد الأفريقية الوفيرة وشبه المجانية لمَن يعرف كيفية استغلالها، وهو أمر لم تكن الصين بمنأى عنه لبضعة عقود مضت، منذ أن تشكَّلت الملامح الأولى للعلاقات الصينية الأفريقية في السبعينيات، فإن بكين تبدو وكأنها على موعد الآن مع إعادة تعريف نفوذها الأفريقي في إحدى أكبر حلبات تنافس القوى العالمية.

تعتبر الولايات المتحدة والغرب عامة علاقة الصين بإفريقيا شكلًا جديدًا من أشكال استعمار طالما استغلت فيه الصين موارد إفريقيا من المعادن والطاقة لصالح دفع نموها الاقتصادي للأمام بطريقة أسرع
كان المسؤولون الصينيون يظهرون في حالة دفاع شبه دائمة عندما يتعلَّق الحديث بأذرع بكين الطويلة في أفريقيا منذ فترة طويلة، لكن الأمر اختلف كثيرا في الأعوام القليلة الأخيرة، وتحديدا عندما استدعى خطاب “هيلاري كلينتون”، وزيرة الخارجية الأميركية، مطلع أغسطس/آب 2012 نبرة هجومية صينية نادرة تجاه أميركا. في ذلك الوقت، طالبت كلينتون القادة الأفارقة، من على منصة بجامعة سنغالية، بانتقاء شركاء اقتصاديين “مسؤولين وغير استغلاليين”، وكانت الإشارة (6) موجَّهة بشكل لا لبس فيه للصين، خاصة بعد أن أعلنت الأخيرة قبل أسبوعين تقريبا من خطاب هيلاري تقديمها لقروض واستثمارات لأفريقيا بقيمة 20 مليار دولار. التقطت بكين الإشارة، وقرَّرت الرد مباشرة وهجوميا عن طريق وكالة أنبائها الرسمية “شنيخوا”، قائلة إن كلينتون “إما جاهلة بحقائق علاقات الصين بأفريقيا، أو اختارت تجاهلها، وفي الحالتين فإن ادعاءاتها بأن الصين تحاول الاستيلاء على ثروات القارة لنفسها هو ادعاء مزور، وأن الصداقة بين الصين وأفريقيا تجعل ما قالته كلينتون أقرب إلى الكذب”.

تَعتبر الولايات المتحدة والغرب عامة علاقة الصين بأفريقيا شكلا جديدا من أشكال استعمار (7) طالما استغلَّت فيه الصين موارد أفريقيا من المعادن والطاقة لصالح دفع نموها الاقتصادي للأمام بطريقة أسرع، ولكن ما يراه الغرب استعمارا تراه الصين علاقة فوز متبادل لكلا الطرفين. ففي حين تنال الصين ما تحتاج إليه من المعادن وموارد الطاقة، تنال أفريقيا مليارات الدولارات في شكل قروض ومشاريع تنموية وبنية تحتية واستثمارات تدفعها نحو تحقيق نموها الذاتي المتأخر منذ زمن طويل. لذا عندما نشأت العلاقات الصينية-الأفريقية بداية الخمسينيات بتمويل الأولى بناء خط سكة حديدية (8) لنقل النحاس الخام من زامبيا إلى تنزانيا، ثم استمرت بعد ذلك تصاعديا وصولا إلى أواخر التسعينيات، لم تكن أفريقيا خلال هذه الفترة وما بعدها بحاجة إلى مَن يُخبرها بالبقاء بعيدا عن الاستثمار مع الصين، ليس فقط للمنافع التي حصَّلتها بالفعل خلال السنوات التالية، بل لأن الصين -وعلى عكس الغرب وأميركا خاصة- لم تكن تُخبر أفريقيا بما تحتاج إليه (9)، بل تلتزم بسياسات متبادلة من عدم التدخُّل مقابل الاكتفاء بالمنافع الاقتصادية القائمة بالفعل، أو هكذا تُصدَّر الصورة على كل حال.

خرجت هذه الصورة للعلن في كل مرة بالإعلان عن قروض واستثمارات صينية ضخمة في دول أفريقية عدة، لعل أبرزها وقع في ديسمبر/كانون الأول عام 2015 عندما أعلن الرئيس الصيني “تشي جين بينغ” عن استثمارات وقروض لأغراض التنمية الأفريقية بقيمة 60 مليار دولار (10). لكن تأثير بكين الأكبر في صورتها الإيجابية أتى عن طريق مجموعة ضخمة من منح تعليمية للطلاب الأفارقة في الصين، وبحزمة من برامج تدريبية (11) تمزج ما بين تدريب الساسة الشباب والمسؤولين الحكوميين وبين تحقيق أهداف بكين في نشر ثقافتها وتاريخها إلى قلب القارة السمراء.

تحكي “باربرا نجاو” في معرض حديثها عن إعادة تعريف الصين لدورها في أفريقيا (12)، وفي لمحة خاطفة من قلب العاصمة الكينية “نيروبي”، حينما بدا أن كل ما يحيط ببرنامج “أفريقيا لايف” من المذيع “الساحر” حد تعبير باربرا، ولقطات الفيديو المختارة بعناية من صور لمسؤولين أفارقة واجتماعات حكومية وقوات عسكرية، كل شيء بدا في لحظة ما أنه يعمل ضمن منظومة أفريقية إعلامية متكاملة، وأصبح في لحظة تالية خارج النسق تماما بمعرفة أن البث التلفازي يتم من محطة مملوكة للصين في نيروبي أنشأتها عام 2010. كان الهدف من هذا هو “الدخول لقلب أفريقيا الحقيقية”، هدف أصبحت معه الصين الثانية على قائمة أكبر نماذج التنمية شعبية في القارة، وإنْ لم تستطع بحال تجاوز الولايات المتحدة التي ظلَّت على القمة شعبيا، وإن اختلفت هذه الشعبية على المستوى التنفيذي.

لم يكن الاختلاف بين وجهات النظر الحكومية والشعبية نابعا فقط من تدريبات سياسية مجانية تمنحها الصين لرجالها الأفارقة، مَن يُصبحون فيما بعد أعمدة لاستثماراتها أيضا، ولكن لأن أحد أوجه الانتقادات الشعبية المهمة لبكين هي أن استثماراتها تأتي على الأغلب في صورة تعاقدات حكومية تُحيطها السرية، ما يعني انعدام القدرة على احتساب حجم المزايا والفائدة المفترض حدوثها من عدمه، ويأتي انتقاد آخر باعتبار أن الاستثمارات الصينية غالبا ما تأتي بعمالة صينية كاملة للعمل في مشاريعها والإشراف المباشر عليها، ما يعني ندرة فرص العمل المحلية التي تُوفِّرها هذه الاستثمارات للأفارقة (13). أما الانتقاد الثالث فيدور حول كون الحكومات الأفريقية هي المستفيد الأكبر من مشاريع الصين غير المُعلَنة نتيجة لحجم الفساد المُتضخِّم بالقارة.

كان “أنتوني كاباندو”، مسؤول فِرَق العمل الخاص بالسكرتارية العامة لـ “الحركة الشعبية لتحرير السودان” التي أصبحت الحزب الحاكم في دولة جنوب السودان بعد 2011، مندهشا لدرجة أنه لم يتوقَّف عن الحديث عن سفره عام 2017 لأجل تدريب صيني انتدبته إليه الحركة (14)، بداية من زيارته محطة السكك الحديدية والمطار الرئيس بشنغهاي، ومرورا بالمدرسة التابعة للحزب المركزي في بكين، ووصولا إلى بعض المناطق الصناعية ومراكز الشرطة في مناطق مختلفة من أنحاء الصين. وقع أنتوني تحت تأثير التطوُّر الاقتصادي والصناعي الصيني لدرجة لم يكن معها بحاجة إلى أن يكون التدريب، الذي تلقَّاه كونه واحدا من بين آلاف المسؤولين الأفارقة، وسيلة دعاية بأي شكل لمبادئ بكين أو حزبها الحاكم.

كان الهدف الرئيس من نشأة برامج التدريب الصينية الدولية منذ السبعينيات، وخاصة لأجل السياسيين والعسكريين الأفارقة، هو تصدير مبادئ الثورة الصينية الشيوعية للعالم، ويمكن القول إن بكين لم تعد بحاجة إلى تخصيص برامج التدريب للدعاية لنفسها في أفريقيا، بل أصبحت تكتفي بإبهار القادمين من دولهم النامية بكل ما حقَّقته من تقدُّم صناعي وتكنولوجي وطفرة اقتصادية لا يُدرك الزائرون طريقا للوصول إليها إلا باتباع طريق الصين المفتوح على مصراعيه بالمساعدات كما التدريبات. لم تمنع هذه الحقيقة بكين من مواصلة الاستثمار في تربية العناصر السياسية الشابة في الدول المقصودة ورعايتهم، بما يمنحهم بعد ذلك فرصة لأن يُصبحوا هم أنفسهم قادة هذه الدول في يوم من الأيام.

وهو طريق بدأته بكين منذ السبعينيات كما ذكرنا، ويُعَدُّ المثال الأبرز حاليا لرجال الصين في أفريقيا هو “إيمرسون ماناناغوا”، رئيس زيمبابوي القادم بانقلاب عسكري يُزعم تورُّط الصين فيه، إثر زيارة للصين قام بها القائد العام للجيش الوطني الزيمبابويّ، الجنرال “كونستانتينو شيوينغا”، قبل أيام فقط من الانقلاب (15)، ويُعتقد أنه نال فيها موافقة الصين على التحرُّك بقواته للإطاحة بالرئيس الراحل روبرت موغابي. تربط صداقة طويلة قائد الجيش الزيمبابوي بالرئيس الحالي ونائب الرئيس الأسبق ماناناغوا، لكن هذا الأخير كان هو نفسه الذي نال تدريباته العسكرية في الصين خلال الحرب الأهلية في زيمبابوي في الستينيات، وعاد بعدها لارتكاب جرائم قتل وتعذيب ضد الآلاف من أبناء وطنه خلال الحرب.

خلال تلك الفترة أيضا ومرورا بالثمانينيات والتسعينيات، كانت علاقات الصين بأفريقيا لا تزال متأرجحة بين محاولات الأولى تأكيد وجودها على الساحة العالمية، وبين انتشار الحروب الأهلية والصراعات في أنحاء القارة السمراء كافة، بما يجعلها غير مؤهَّلة أغلب الأمر لأن تتجه إليها دولة صاعدة كالصين لتُركِّز استثماراتها فيها. وبحلول أوائل الألفية الثانية كانت الأمور في طور تحوُّل كامل لصالح توغُّل صيني بأفريقيا، لتصبح الصين الرقم الأول على قائمة شركاء القارة التجاريين لفترة استمرت لأكثر من عقد تقريبا منذ عام 2000.

ارتبط نموذج العلاقات الصينية الأفريقية بنوع خاص من الاعتماد المتبادل على نوعين بعينهما من الاحتياجات. كانت الطاقة على رأس حاجات الصين الصاعدة في التسعينيات، وكانت البنية التحتية المُدمَّرة من أثر الحروب الأهلية وحروب التحرير ضمن احتياجات القارة السمراء الرئيسة، ووجد كلاهما في الآخر وسيلة لتلبية حاجاته ما جعل “المنفعة المتبادلة” هي أساس تلك العلاقات في بداياتها بالفعل كما تُكرِّر الصين دوما. لم يستمر هذا الوضع طويلا، وكان الصراع الصيني مع القوى الآسيوية والعالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة واليابان، أحد أسباب ذلك، بينما كان انعدام الاستقرار واستمرار الحروب في نواحٍ عدة من أفريقيا، وكذا رسوخ الفساد والأنظمة الاستبدادية في غالبية دولها، أسبابا أخرى جعلت من العلاقات الثنائية محل جدل عالمي، ليس فقط لعدم شفافيتها على طول الخط تقريبا، إنما كذلك لتورُّط الصين في تعاملات عدة مع حكومات وأنظمة ديكتاتورية مباشرة، لتتحوَّل هذه الصفقات من تنمية القارة في المقام الأول إلى دور جديد أصبحت فيه الصين صاحبة المنفعة الأكبر في علاقاتها الأفريقية المختلة وغير المتوازنة.

تُعَدُّ زيمبابوي أحد أبرز أمثلة الدول الأفريقية التي ترتبط بعلاقات طويلة وتبادل تجاري ضخم مع بكين مقارنة بجيرانها، علاقات سياسية وقفت فيها الصين طويلا إلى جانب موغابي تارة بتوطيد العلاقات الاقتصادية الهادفة للتنمية، وتارة أخرى باستخدام حق النقض “الفيتو” الذي وقف حائلا دون فرض عقوبات دولية على زيمبابوي عام 2008. على الجانب الآخر بقيت علاقات الصين مع دول كالكونغو ونيجيريا وجنوب السودان محل جدل كبير، إثر اتهامات الولايات المتحدة والغرب لبكين بإقامة علاقات قوية فقط مع الدول الغنية بموارد الطاقة دونا عن بقية أنحاء القارة، ورغم دفاع بكين الدائم عن نفسها، عمليا، بإقامة علاقات مع إثيوبيا وكينيا وأوغندا وقائمة طويلة أخرى من دول تُعَدُّ فقيرة، فإن هذا لم يمنع استمرار الاتهامات للصين بإساءة استغلال علاقاتها الأفريقية.

لم تكن علاقات المصالح المرتبطة بالاستثمارات الصينية في أفريقيا سوى أحد اتهامات عدة وُجِّهت ولا تزال للعملاق الآسيوي، اتهامات اعتبرها البعض قائمة على أُسس راسخة، بينما اعتبرها آخرون “سوء فهم” لطبيعة العلاقات وكذا لاحتياجات كلا الطرفين على طول الطريق، وفيما يقف استغلال موارد قارة كاملة لصالح النمو الصيني على رأس قائمة هذه الاتهامات، فإن المقارنة بين الغرب أو الولايات المتحدة خاصة وبين الصين في علاقة كلٍّ منهما بأفريقيا تضع بكين في موقف لا تُحسد عليه على الأرجح، وتبدأ معها سلسلة من تداعيات ومقارنات لا تنتهي حول أفضلية كلٍّ منهما وأهمية وجوده، وحول تأثير كل ذلك على النمو الاقتصادي الأفريقي المتذبذب.

تظهر الخوذات الزرقاء للجنود بمقاطعة شان دونغ الصينية بوصفها علامة مميزة على انتمائهم لقوات حفظ السلام الدولية التابعة للأمم المتحدة، ويظهر معها افتخار صيني كثيف بمثالية تُروِّج لها بكين في سياستها الخارجية. لم يتعلَّق الأمر بمكان نشر هؤلاء الجنود أو توقيت انتشارهم، وإنما تعلَّق على طول الخط بسُمعة الصين العالمية التي تُروِّج لها تلك القوات.

أصبحت بعثات السلام الصينية “الأكثر مشاركة في عمليات حفظ السلام الدولية” (16)، وفي أفريقيا خاصة. لكنّ الاحترام والثقة اللذين نالتهما قوات حفظ السلام الصينية لم يعكسا الحال نفسه للشركات ورجال الأعمال الصينيين العاملين والموجودين بأفريقيا، أو للسياسة المالية نفسها التي اتبعتها بكين مع القارة. ولم يكن الأمر يتعلَّق فقط بحجم الفوائد العالية التي تضعها الصين على قروضها لأفريقيا مقارنة بفوائد مالية شبه منعدمة للقروض والاستثمارات الدولية، وإنما بالتوغُّل البشري الصيني لأعماق القارة عن طريق شبكة واسعة من الشركات الخاصة أو المملوكة للدولة، أو المهاجرين الصينيين القادمين فرديا للعمل في أفريقيا، ما منحهم الآلاف من فرص العمل التي يرى الأفارقة أنهم أحق بها.

تُدافع الصين عن نفسها في المقابل بالقول إن حجم المساعدات الصينية لأفريقيا لا يُمثِّل في النهاية سوى 5% من حجم المساعدات العالمية، وهو ما يُمثِّل قيمة صغيرة تمنحها في النهاية أفضلية إحداث التطوير المطلوب في الداخل الصيني قبل أي شيء، وإن كان ما يشفع لها في المقابل هو نسبة الـ 13% من حجم القروض التي تُقدِّمها للقارة. نسبة تلاشت قيمتها من وجهة النظر الغربية عالميا أمام النسبة العالية من الفوائد، وتلاشت قيمتها محليا أمام تأثيرها المحدود على حياة العامة في أفريقيا، وإنْ ظهر هذا التأثير طفيفا وبطريقة ما في دول مثل غينيا والكونغو ومالي ما بين 2003-2013، حيث قدَّرت منظمة التعاون الدولي أنه أمام كل زيادة بنسبة 1% من الناتج المحلي الصيني يُقابله زيادة 0.3% في هذه الدول نتيجة الاستثمارات المباشرة المتبادلة مع الصين.

كانت ذروة العلاقات التجارية بين الصين وأفريقيا قد بدأت تتراجع مرة أخرى بعد 2011 تحت تأثير تداعيات الأزمة المالية العالمية في 2008، وسعي الصين التالي لها للتحوُّل من اقتصاد قائم على التصدير للتركيز على النمو الداخلي، ومعه الاهتمام بالتطوُّر التقني كونه أحد أوجه المنافسة العالمية القادمة، سعي تراجعت معه علاقات الصين وأفريقيا، وإن ظلَّت معها الأولى الشريك التجاري الأكبر للثانية، بينما احتفظ كلاهما بتأثير متبادل تجلَّى أثره الأكبر في تغاضي الاتحاد الأفريقي عن حادثة التجسُّس التي نفاها الطرفان سريعا.

في الأسبوع الثاني من فبراير/شباط 2018، شهد عرض جالا السنوي، أحد أهم برامج التلفاز الصيني الحكومي وأعلاها مشاهدة والمعروف باحتفالية العام الصيني الجديد، ظهور مشهد على مسرح البرنامج تصدَّر وسائل الإعلام العالمية (17). في المشهد البادئ برقصة أفريقية تقليدية ومرحة، تظهر امرأة صينية تُمثِّل دور سيدة مسنة أفريقية (18) بأرداف صناعية بلاستيكية شديدة الضخامة، فيما اعتبرته وسائل التواصل الاجتماعي “عنصرية صينية تجاه أفريقيا”، وهو أمر سرعان ما نفته بكين مدافعة عن العرض المسرحي كاملا.

يختزل هذا المشهد البسيط العلاقات الأفريقية الصينية، وربما بالأحرى يختزل العلاقات الأفريقية مع العالم كاملا. في تلك البقعة من العالم تسير الأمور ببساطة جدا، ويتعامل العالم في معظمه بسلوك تقليدي لكنه ما زال يُثبت فاعليته في كل مرة: هناك قارة كبيرة تقع على هامش العالم يُمكننا أن نسخر منها كما نشاء، لكنها تحتاج إلى أموال من أي مكان، ويُمزِّق سكانها بعضهم بعضا في حروب مطوَّلة بأسلحة من البلدان نفسها المانحة لتلك الأموال تقريبا، في صراعات ربما تتورَّط في إشعالها هذه البلدان أيضا، وجرَّاء تلك الحروب تحتاج القارة أيضا إلى بنى تحتية ضخمة مستمرة، يمكن أن توفرها البلدان نفسها، في مقابل قدر مقبول من الولاء، وقدر أكبر من الطاقة والموارد التي تواصل القوى الاستعمارية، بمختلف أشكالها، استنزافها من القارة السمراء في دائرة مُفرغة بلا نهاية.

————————————————————-