ترافقت وفاة وزير دفاع إدارة بوش السابق دونالد رامسفيلد مع العديد من الأصوات المعتذرة التي تبرر جرائم الدولة، والتي أصبحنا نتوقع سماعها من أتباع النزعة العسكرية الأميركية. ويشمل ذلك أولئك المنبثقين من النخب الصحفية -صحيفة “نيويورك تايمز” هي أوضح مثال على ذلك. ويقول الملف الذي نشرته الصحيفة عن حياة رامسفيلد أنه “كان ينظر إليه على نطاق واسع” على أنه “أقوى وزير دفاع منذ روبرت س. مكنمارا خلال حرب فيتنام”. وتركز الصحيفة على إدارة رامسفيلد للحرب في العراق، التي قالت الصحيفة أنها “حرب مكلفة ومثيرة للانقسام دمرت حياته السياسية في نهاية المطاف وعاشت بعد انتهاء خدمته في المنصب بسنوات عديدة. ولكن على عكس ماكنمارا الذي قدم اعترافا بارتكاب أخطاء فادحة في فيلم وثائقي صدر في العام 2003 بعنوان “ضباب الحرب”، لم يعترف رامسفيلد بوجود إخفاقات جسيمة في مهنته، وحذر في حفل وداع في البنتاغون من أن الانسحاب من العراق سيكون خطأ فادحا، على الرغم من أن الحرب، كما علِم البلد، كانت تستند إلى فرضية خاطئة -أن الرئيس العراقي صدام حسين كان يؤوي أسلحة دمار شامل”.
“مكلفة”، “مثيرة للانقسام”، “إخفاقات”، “خطأ”، “تستند إلى فرضية خاطئة”. هذه هي الأوصاف المحددة التي استخدمتها صحيفة “نيويورك تايمز” لوصف حرب العراق. وكان يمكن أن تستخدم الصحيفة أوصافا أخرى كان يمكن أن تكون أكثر انتقادا بكثير لما فعلته الولايات المتحدة. كلمات مثل: غير شرعية. جريمة حرب. خداع. أكاذيب. لا أخلاقية. قتل جماعي. وهي كلمات قوية. ولذلك، لأولئك الذين لم يعيشوا السنوات المزعجة لتلك الحرب كبالغين، أو الذين عاشوها ولكن ذكرياتهم عنها شرعت في التلاشي، أو الذين لم يولوها الكثير من الاهتمام في ذلك الوقت على الإطلاق، سوف أشرح بالتفصيل صلة هذه الأوصاف الأخيرة.
غير قانونية وجريمة حرب: شكّل الغزو الأميركي للعراق إحدى أسوأ جرائم الحرب في القرن الماضي. كان ذلك الغزو انتهاكا صارخا لميثاق الأمم المتحدة الذي يحظر استخدام القوة إلا أذِن بذلك مجلس الأمن (المادة 48)، أو عندما تستخدم دولة القوة في الدفاع عن النفس ضد هجوم مستمر عليها (المادة 51). ولا يمكن للولايات المتحدة أن تدعي أيا من ذلك في حالة العراق، مما يعني أن غزوها كان انتهاكا صارخا -ليس لميثاق الأمم المتحدة فحسب، وإنما أيضا لمبادئ ميثاق محكمة نورمبيرغ التي أنشأتها الأمم المتحدة لمعاقبة مسؤولي الحزب النازي على جرائمهم المتمثلة في العدوان خلال الحرب العالمية الثانية. وشملت هذه الجرائم 1) “التخطيط أو التحضير أو الشروع في حرب عدوانية أو حرب تنتهك المعاهدات أو الاتفاقات أو الضمانات الدولية”؛ 2) “المشاركة في خطة أو مؤامرة مشتركة لإنجاز أي من الأفعال المذكورة” في النقطة (1) أعلاه. ومن الواضح أن تصرفات الولايات المتحدة في العراق تشكل انتهاكا لمبادئ نورمبيرغ، بالنظر إلى أنها خططت لها، وأعدتها، وأنشأتها، وشنتها قوة عدوانية ضد بلد لم يكن منخرطا في أنشطة حربية تجاه الولايات المتحدة، وأن الأفعال الأميركية كانت انتهاكا للمبادئ الصريحة المنصوص عليها في المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي كانت الولايات المتحدة ملتزمة بها (الأمم المتحدة وميثاق الأمم المتحدة).
خداع، أكاذيب: من دواعي السرور للمتملقين أن يستخدموا عبارات ملطفة من نوع “على أساس فرضية خاطئة” بدلاً من التعامل مع الواقع القاسي المتمثل في أن الرؤساء الأميركيين وإداراتهم يكذبون ببساطة من أجل تبرير خوض حروب إجرامية. وكان هناك نوعان من الأكاذيب التي انتهجتها إدارة بوش بشأن العراق: الأكاذيب الصارخة، وأنواع الأكاذيب الموجودة في منطقة رمادية من الإنكار المعقول، حيث لم يتطابق خطابهم العلني على الإطلاق مع ما كانوا يقولونه وراء الأبواب المغلقة.
على الجبهة الأولى، في ما يتعلق بالأكاذيب الصارخة، زعمت الإدارة أن العراق ربما يزود الإرهابيين بأسلحة نووية أو بالتكنولوجيا، وهو صنع مخاوف في ذهن الجمهور من تهديد قد يجعل أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) تبدو بائسة بالمقارنة. وقد تناقضت هذه الدعاية بشكل صارخ مع ما قاله للإدارة العديد من خبراء الأسلحة ومكافحة الإرهاب الدوليين والمحليين. وفضح تحقيق أجري في ادعاء إدارة بوش بأن العراق كان يحاول الحصول على اليورانيوم من النيجر أكاذيب الإدارة على الملأ، كما خلصت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أيضا إلى أن الادعاءات بأن العراق لديه أنابيب ألمنيوم مناسبة لتخصيب اليورانيوم إلى مستوى إنتاج الأسلحة كانت خاطئة. وقد تم إخطار الإدارة بكل هذا، لكنها تجاهلت عن قصد كل هذه التقييمات عندما كذبت على الجمهور بشأن وجود تحالف بين العراق والإرهاب. وعلاوة على ذلك، أبلغ مستشار إدارة بوش لمكافحة الإرهاب، ريتشارد كلارك، الرئيس السابق بوش بشكل صريح مرات عديدة بأنه لا يوجد أي دليل على الإطلاق على وجود أي نوع من التعاون أو الصلة بين نظام صدام حسين وتنظيم القاعدة. وبصراحة، كذبت الإدارة وهي تعرف تماما زيف ادعاءاتها بشأن وجود علاقة بين العراق والإرهاب.
من الموثق جيدا أيضا أن رامسفيلد كان متورطا بشكل مباشر في الشكل الثاني من الخداع -الأكاذيب من النوع الذي يتواجد في منطقة رمادية من الإنكار المعقول، والتي يتعارض فيها الخطاب العام المعلن لإدارة بوش بشكل واضح مع المناقشات التي تدور في الاجتماعات الخاصة حول العراق. وقد تم التقاط كل هذا بوضوح في تقرير “بوليتيكو” الذي نشره في كانون الثاني (يناير) 2016 الصحفي الاستقصائي جون والكوت، بعنوان “ما عرف دونالد رامسفيلد أننا لا نعرفه عن العراق”. ويستكشف التقرير تفاصيل تقرير كان مصنفا كسرّي في السابق من رئيس هيئة الأركان المشتركة، والذي أرسله رامسفيلد إلى جنرال القوات الجوية ريتشارد مايرز مرفقا بملاحظة نصها “يرجى إلقاء نظرة على هذه المواد بشأن ما لا نعرفه عن أسلحة الدمار الشامل” في العراق.
وكان هناك الكثير مما لا تعرفه الإدارة ببساطة. فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق، قدر التقرير أننا “كافحنا لتقدير المجاهيل… وتتراوح معرفتنا من 0 في المائة إلى 75 في المائة حول جوانب مختلفة من برنامجهم”. وقد سادت حالة عدم يقين مماثلة تقييمات البرنامج النووي العراقي المزعومة (في الواقع غير الموجودة) والتي قال التقرير عنها: “إن معرفتنا ببرنامج الأسلحة (النووية) العراقية تستند إلى حد كبير –ربما بنسبة 90 في المائة- إلى تحليل معلومات استخباراتية غير دقيقة”. وعلى نطاق أوسع، اعترف التقرير بما يلي حول فهم الولايات المتحدة لأسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق -مرة أخرى أسلحة الدمار الشامل التي لم تكن موجودة: إن “تقييماتنا (للبرامج النووية والكيميائية والبيولوجية العراقية) تعتمد بشكل كبير على الافتراضات التحليلية والحكم بدلا من الأدلة القوية. وقاعدة الأدلة قليلة بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالأسلحة النووية العراقية”.
في العلن، كانت المزاعم التي قدمتها إدارة بوش ذات طبيعة مختلفة للغاية. فقد زعم نائب الرئيس السابق، ديك تشيني، أن “الكثيرين منا مقتنعون بأن صدام حسين سيحصل على أسلحة نووية قريبا جداً”. وادعى بوش بشكل قاطع أن العراق “يمتلك وينتج أسلحة كيماوية وبيولوجية” – “إنه يسعى للحصول على أسلحة نووية”، و”قد وفر المأوى والدعم للإرهاب، وهو يمارس الإرهاب ضد شعبه”. وتناقضت هذه الأكاذيب مع حالة عدم اليقين التي أعربت عنها الإدارة خلف الأبواب المغلقة، في محادثات خاصة لم يُسمح للجمهور بالوصول إليها.
القتل غير الأخلاقي والجماعي: من الصعب تجنب التداعيات القاتلة الجماعية للحرب الإجرامية في العراق، إلا بالتجاهل المتعمد. كان استنتاج أن هذا كان قتلاً جماعياً قادماً منذ فترة طويلة، مع إجراء العديد من الدراسات الاستقصائية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي أظهرت أن عدد الجثث كان يتراكم بسرعة مع مقتل مئات الآلاف من المدنيين العراقيين في حرب أهلية متصاعدة سريعاً. وقد نشأت تلك الحرب الأهلية بسبب الولايات المتحدة، التي كانت تضعف البلد بشكل مطرد من خلال نظام عقوبات قادته الولايات المتحدة من خلال الأمم المتحدة خلال التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين، تلاها الغزو، الذي قامت الولايات المتحدة بعده بحل المؤسسات الأساسية للدولة العراقية، بما في ذلك حكومة البلد وجيشه وشرطته وبنيته التحتية الأخرى. وأدت هذه الإجراءات إلى فشل الدولة بمستوى حرج، حيث دخل العراق في الفوضى والاضطراب والجنون، وتدخلت قوى عرقية ومليشيات متنافسة لملء فراغ السلطة. وأدى انهيار العراق إلى نشوب صراع واسع النطاق وتطهير عرقي بين هذه الفصائل، بما في ذلك الشيعة والسنة والأكراد في البلاد. وأدى هذا الصراع، إلى جانب كل أعمال العنف التي يقوم بها العراقيون الذين يقاتلون المحتلين الأميركيين غير الشرعيين، إلى موت ودمار مذهلين، وما يُقدر بأكثر من مليون وفاة.
أدرك الأميركيون بشكل متزايد أن هذه الحرب كانت في الأساس خاطئة وغير أخلاقية، وكما أظهرت الاستطلاعات الوطنية طوال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وحتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وقد أظهر استطلاع مشترك أجرته (سي. إن. إن) و(أو. آر. سي) أنه في حين أن 47 بالمائة من الأميركيين وافقوا على أن “عمل الولايات المتحدة في العراق” لم يكن “مبررًا أخلاقياً” في العام 2006، فإن هذا الرقم ارتفع إلى 54 بالمائة بحلول العام 2007، وظل أعلى من النصف في أوائل العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، كما كشفت الدراسات الاستقصائية من العامين 2011 و2013. وكما يوضح تحليلي الإحصائي الأصلي لهذه البيانات، فإن الشعور العام بأن الحرب لم تكن مبررة أخلاقياً كان مؤشراً أقوى بكثير على المعارضة الشاملة للحرب ودعم انسحاب القوات الأميركية، مقارنة بعوامل أخرى مثل المشاعر حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستنجح أو تفشل في الحرب، وحول ما إذا كانت الولايات المتحدة تحرز تقدما، والمواقف حول ما إذا كانت الحرب ناجحة (بأثر رجعي بعد انتهاء الحرب)، أو الأيديولوجية المعلنة للأفراد (محافظ أو ليبرالي) أو حسب الحزب السياسي (ديمقراطي أو جمهوري).
بعد ما يقرب من عشرين عاما من الغزو الأميركي للعراق، سيكون من المريح أكثر الاستمرار في رعاية روايات المؤسسة حول الحرب التي تؤكد عليها كجهد فاشل أو محاولة غير متقنة -باعتبارها خطأ مكلفا من الماضي. إن مواجهة الحقائق الأكثر قسوة ستكون أكثر صعوبة: أن الحرب كانت واحدة من أسوأ جرائم الحرب في العصر الحديث، وأنها أنتجت قتلا جماعيا بمستوى يضاهي أسوأ عمليات الإبادة الجماعية في التاريخ، وأن كل ذلك اقترفته مجموعة من القادة الذين انخرطوا في الاحتيال والتلاعب الواعي، والخداع الذي لا يرحم للجمهور في سبيل السعي إلى شن حرب إجرامية أصبح ينظر إليها الجمهور على نطاق واسع على أنها خاطئة وغير أخلاقية في الأساس. وقد تكون حرب العراق قد أصبحت الآن ذكرى، لكن هذا لا يعني أننا يجب أن نسمح لدعاية الأقوياء بأن تحرف الكيفية التي نتذكر بها هذه الأحداث التاريخية المهمة. لا ينبغي أن تكون وفاة رامسفيلد لحظة لكن جرائم الولايات المتحدة في الماضي تحت البساط، وإنما لمواجهتها وجهاً لوجه وبلا أوهام. إننا مدينون لشعب العراق بهذا القدر.
ترجمة الغد