قام وزير خارجية الهند إس جايشانكار، الأسبوع الماضي، بأول زيارة لوزير خارجية هندي إلى اليونان منذ 18 عاماً، حيث التقى نظيره نيكوس ديندياس وناقشا التطورات الأخيرة في شرق البحر المتوسط وقبرص وليبيا. تزامنت الزيارة مع تدريبات عسكرية مشتركة أجرتها البحرية اليونانية والهندية جنوب غربي جزيرة كريت لتعزيز الاستعداد التشغيلي والقدرة القتالية والتعاون بين البلدين في سياق ثنائي.
وناقش الوزيران تهديد السلامة الإقليمية للدول والخطر الذي يشكله التطرف العنيف، فضلاً عن الإرهاب، وأكدا أن سلطة القانون واحترام سيادة الأراضي وسلامتها من المبادئ الأساسية للعلاقات الدولية التي يجب مراعاتها من الجميع، بحسب بيان صحافي مشترك. واعتبر بعض المراقبين في ذلك إشارة إلى تجاوزات تركيا في شرق المتوسط للتنقيب عن الغاز في مناطق واقعة ضمن سيادة اليونان وقبرص، وكذلك دعمها المزعوم لباكستان والجماعات المتطرفة في إقليم كشمير المتنازع عليه بين نيوديلهي وإسلام آباد.
بعد أيام قليلة من هذا اللقاء، أدلى الرئيس رجب طيب أردوغان بتعليقات خلال تفقّده مصنعاً تابعاً لوزارة الدفاع التركية، ليؤكد بقاء قواته في ليبيا وأذربيجان وسوريا وشرق المتوسط، مضيفاً “سننتزع حقوقنا المشروعة وسنقوم بأعمال التنقيب في بحارنا كلها، لا سيما شرق المتوسط ومحيط قبرص”، بحسب ما ورد في وكالة “الأناضول” التركية.
تحالفات إقليمية
بالنظر إلى الصورة الأشمل، يمكن تفهّم تعليقات أردوغان الذي يشعر بالتوتر جراء التحالفات الإقليمية المحيطة به والمدفوعة بالردّ على سياساته العدائية تجاه جيرانه. ففي الأشهر القليلة الماضية، تحرّكت اليونان لتوسيع نفوذها الإقليمي عبر الدبلوماسية والعلاقات العسكرية، في مواجهة التجاوزات التركية المتزايدة في مياهها الإقليمية، وبالمثل تسعى نيودلهي إلى تحالف مع أثينا، ردّاً على دعم أنقرة لباكستان في كشمير.
وترتبط باكستان وتركيا بعلاقة صداقة منذ أعوام طويلة، لكنها بلغت أعلى مستوياتها في السنوات القليلة الماضية. وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، خلال حفل تدشين اتفاقية لبناء سفينة حربية لمصلحة باكستان، وهو مشروع ضخم تديره وزارة الدفاع التركية، تحدث أردوغان عن أهمية العلاقات بين البلدين، قائلاً إن أنقرة وإسلام آباد مستعدتان لمواجهة أي تحديات إقليمية.
تحالف البلدين توطّد بالدخول في تحالف ثلاثي مع أذربيجان نتيجة اشتعال حرب الأسابيع الستة في إقليم ناغورنو قره باغ، ذي الغالبية الأرمينية شبه المستقل، حيث وفّرت أنقرة وإسلام آباد الدعم العسكري لباكو في مواجهة يريفان. وفي اجتماع بين وزراء خارجية الدول الثلاث في العاصمة الباكستانية في يناير الماضي، أصبح الصراع بين باكستان والهند بشأن كشمير والصراع بين تركيا واليونان حول شرق المتوسط، إضافة إلى قضية ناغورنو قره باغ، ذا أهمية خاصة. واتفقت الدول الثلاث على مواصلة دعم بعضها البعض في تحقيق أهدافها المشتركة بشأن هذه المسائل.
إقليم كشمير
وعلى صعيد إقليم كشمير ذي الغالبية المسلمة، تعود جذور الصراع بين الهند وباكستان حوله الإقليم إلى عام 1947، عندما تخلّى البريطانيون عن استعمارهم الهند وجرى تقسيمها إلى دولتين، باكستان ذات الغالبية المسلمة، والهند ذات الغالبية الهندوسية. وكانت بنغلادش فى البداية جزءاً من باكستان، لكنها حصلت على استقلالها عام 1971 بعد حرب قصيرة بين الهند وباكستان. ودفع الانفصال المفاجئ ملايين الأشخاص إلى الهجرة بين البلدين، وأدى إلى عنف ديني قُتل جراءه مئات الآلاف، لكن ظل وضع كشمير عالقاً بين نيودلهي وإسلام آباد، بحيث احتلت الأولى ثلثي الإقليم والثانية احتلت الثلث.
وتتبادل القوات على جانبي “خط السيطرة” إطلاق النار بين الحين والآخر، فيما تلجأ ميليشيات إلى العنف ضد القوات الهندية في الإقليم. ودعمت باكستان عدداً من تلك الجماعات المسلحة، كما دعمت الهند آخرين.
في هذا السياق، توترت العلاقات بين نيودلهي وأنقرة في الأعوام الماضية، مع انحياز الأخيرة علناً إلى جانب إسلام آباد وإثارة أردوغان القضية داخل الأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2019، ما استدعى رداً حاداً من الهند، بما في ذلك إلغاء رئيس الوزراء ناريندرا مودي زيارته التي كانت مقررة إلى تركيا، وأصدرت حكومته بياناً في أكتوبر (تشرين الأول) يدين توغلها العسكري في شمال سوريا. ووفقاً لوسائل إعلام باكستانية، تواصل المنظمات غير الحكومية التي تتخذ من تركيا مقراً لها، مثل جمعية شباب الأناضول، الضغط من أجل الحد من دور الهند في كشمير، ويحثون أنقرة على التصرف كصوت للكشميريين.
شراكة مضادة أو علاقات استراتيجية؟
في إطار ذلك التحالف بين باكستان وتركيا، يقول مراقبون إن الهند واليونان تسعيان إلى بناء شراكة استراتيجية من أجل مصلحتهما المشتركة، إذ إنه على الرغم من أن نيودلهي وأثينا تتمتعان بعلاقات دبلوماسية جيدة منذ فترة طويلة، إلا أنهما لم توسّعاها إلى مستوى التعاون العسكري أو المصالح المشتركة على صعيد السياسة الخارجية مثلما يجري الآن.
لكن في حديث لـ”اندبندنت عربية”، قال سكرتير اللجنة الدائمة للدفاع الوطني والشؤون الخارجية في البرلمان اليوناني تاسوس تشاتزيفاسيليو إن السياسة الخارجية لبلاده لا تُخطط بغرض مواجهة دولة ثالثة، موضحاً أن “الحكومة اليونانية تهدف اليوم إلى إقامة علاقات استراتيجية مع الشركاء الرئيسيين في جميع أنحاء العالم”.
وأشار إلى أن أثينا ونيودلهي تشتركان في الرؤية ذاتها بشأن تنفيذ القانون الدولي، ولديهما نهج مماثل عندما يتعلق الأمر بحقوق الإنسان واحترام الأقليات، قائلاً “الهند، الدولة الديمقراطية الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم، بلد عظيم نتشارك معه قيماً مشتركة حول حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية. كلانا يشترك في تاريخ وتقاليد طويلة ورؤية مشتركة للقانون الدولي. لهذا السبب من المهم تعميق علاقاتنا الثنائية معها… علاوة على ذلك، كلانا يحترم قانون البحار”.
ولفت النائب اليوناني إلى توقيع الهند اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار وتعتقد نيودلهي أنه يمكن حل المشكلات بشكل فاعل من خلال الاتفاقات الدولية، “تعاون اليونان الوثيق مع الهند في عدد من القطاعات، مثل الطاقة والتجارة والنقل والجيش، يمكن أن يبعث برسالة قوية مفادها بأنه على الرغم من المسافة الجغرافية، باستطاعة المصالح المشتركة أن تقرّب البلدان فعلياً”.
وترفض تركيا توقيع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون أعالي البحار لعام 1982 (UNCLOS)، التي تحدد المناطق الاقتصادية الخالصة للدول على أنها تمتد 200 ميل من شواطئها، ومن ثم تجادل بأن قبرص يحق لها الحصول على 12 كم من المنطقة الاقتصادية الخالصة فحسب، كما تجادل في أن الجزر اليونانية شرق المتوسط لا يحق لها بمنطقة اقتصادية خالصة.
وبحسب الكاتب اليوناني ورئيس تحرير صحيفة “إكثميريني”، توم إلس، أصبح من الواضح بشكل متزايد لأنقرة أن أثينا لا تقف بمفردها، بل هي جزء من المؤسسات والتحالفات الإقليمية التي تمنحها ثقلاً إضافياً. ففي الأعوام الماضية، تم تعزيز شبكة من التحالفات التي تزعج تركيا. ولا تقتصر علاقات اليونان الجيدة على حلفائها وشركائها التقليديين، مثل أوروبا والولايات المتحدة (التي تنظر إلى أثينا كشريك استراتيجي مهم)، وجميعهم يلعبون دوراً رئيساً بسبب ثقلهم السياسي والاقتصادي، بل تعمل اليونان بشكل نشيط على تطوير الشراكات على المسرح الجيوسياسي الأوسع، فهناك علاقتها مع إسرائيل وشراكتها مع مصر وقبرص، كما تبلورت علاقات الدول في المخطط الثلاثي الخاص بتصدير الغاز.
إلى ذلك، تتعمّق الشراكة بين أثينا ودولة الإمارات بسرعة من خلال الزيارات المستمرة بين الجانبين. ويقول إلس إن هذه العلاقة لا تقتصر على القطاع العسكري، الذي يتمتع بديناميكية جديدة شُكّلت من خلال التدريبات والتمرين المتبادل، ولكن من خلال مشاركة المعلومات الاستخبارية أيضاً، وكذلك التجارة والطاقة. وفي هذا السياق، تبرز شراكة ثلاثية جديدة بين اليونان والإمارات والهند.
الهند قوة صاعدة
وبالنسبة إلى الهند، تلعب أثينا دور الوسيط لتحسين العلاقات بين نيودلهي وأوروبا. وخلال لقاء نظيره البرتغالي، في يناير الماضي، تحدث وزير الخارجية اليوناني عن أهمية تعزيز العلاقات الأوروبية مع الهند باعتبارها قوة عالمية ناشئة، ودعا إلى عقد قمة بين الاتحاد الأوروبي والهند. ويقول تشاتزيفاسيليو إن بلاده “تلعب دوراً محورياً في السياسة الخارجية المشتركة للاتحاد الأوروبي”.
في المقابل، يعتبر مراقبون أن موقع الهند وعدد سكانها الهائل يشكّل عقبة رئيسة أمام تحقيق أهداف تركيا الجيوسياسية، بحيث تتطلع أنقرة إلى مدّ نفوذها في المنطقة الأوسع التي تشمل آسيا الوسطى وشرق المتوسط.
وبحسب ورقة بحثية نشرها معهد دراسات جنوب آسيا التابع للجامعة الوطنية في سنغافورة، بعنوان “تأثير أردوغان: علاقات تركيا مع باكستان والهند”، فإنه نظراً إلى تعقيد الجغرافيا السياسية الإقليمية وتنامي مكانة الهند إقليمياً ودولياً، فإن الشعور بعودة النفوذ التركي يبدو وهماً جيوسياسياً. ويضيف أنه إذا استمرت أنقرة في الانحياز في علاقاتها مع باكستان، سيحتاج صناع السياسة في نيودلهي إلى الاستجابة لمجموعة من التحديات الجيوسياسية والعسكرية والاقتصادية المرتبطة جوهرياً والناشئة عن أجندة موجهة أيديولوجياً من قادة تركيا.
إنجي مجدي
اندبندت عربي