لبنان بلا دواء ولا وقود ولا كهرباء، وقريبا بلا خبز. والمؤسف أن هذا الواقع المأساوي هو، كالعادة مادة للاستثمار السياسي في الحرب التي يقودها المحور الإيراني وحلفائه الداخليين والخارجيين من جهة، والمحور الغربي الساعي إلى إيجاد الصيغة الملائمة للتعامل مع إيران على حساب دول المنطقة، من جهة أخرى.
وأدوات هذه الحرب انتقلت من الحديقة الخلفية إلى صحن الدار، فاستهلت بفضح المستور عبر التهافت للإرتماء في أحضان “المعسكر الشرقي” الراغب “بمساعدة” لبنان عبر تأمين الوقود الإيراني للأسواق اللبنانية ومن ثم الرغبة الروسية للإستثمار في إعادة بناء مرفأ بيروت ومد السكك الحديدية من أقصاه إلى أقصاه، ليتبين بعد تشريح للشركات الروسية الفاتحة شهيتها على إنعاش الاقتصاد أن وراء الأكمة الكثير من علامات إستفهام مرتبطة بالفساد.
ولم يتأخر الهجوم المضاد عبر اتهام الغرب بالسعي إلى فرض وصاية على “الدولة الفاشلة” (أي الدولة التي تُرِكت على قارعة الأحداث لتفشل) واستدعاء عودة الانتداب الفرنسي، وذلك بالتزامن مع لائحة عقوبات تشمل قيادات الصف الأول، يليهم بعض الشخصيات من الصف الثاني والمتمولين من خيرات المال العام. بعبارة أوضح، يفترض بالعقوبات أن تشمل المتحكمين بالمنظومة سياسيا واقتصاديا.
ويجد المروجون لنظرية المؤامرة هذه أن استهداف أهل المنظومة بالعقوبات لم يأتِ لفسادها ونهبها مقتدرات البلاد وصولا إلى إفلاسه وانهياره، ولكن للنيل من “المقاومة”، والحد من دورها الثوري وحقها الطبيعي في القضاء على الظلم ومواجهة “الاستكبار العالمي”، وذلك عبر تدخلها في لبنان وسوريا والعراق واليمن ومتاجرتها بالورقة الفلسطينية من دون أن تؤرق إسرائيل أو تعطل مشاريعها، ليصح العكس عندما تحرك أذرعها لتجهض الحراك الشعبي الفلسطيني الفعال.
بالتالي، المطلوب بقاء المنظومات في الدول المصادرة سيادتها على فسادها، لأنها تشكل سترا وغطاء لهذه “المقاومة”، إذ يسهل التحكم بها وحمايتها وفرض “الضوابط” التي يريدها المحور ليستكمل مشروعه من خلالها.
لذا، ليس مستغربا أن يهاجم أصحاب نظرية المؤامرة المبادرة الأميركية لدعم الجيش اللبناني، عبر “مساعدة مالية نقدية تصل قيمتها الى 120 مليون دولار أميركي، وضعت في حساب خاص في مصرف لبنان”، وكأنه جيش الإستعمار، وقائده عميل متآمر يدير هذا الحساب حصرا، و”من دون ضوابط”.
كلمة الـ”ضوابط” في هذا الموقع من الجملة تشير إلى المستنقع الذي يستجلب التدخل والوصاية شرقا وغربا إلى المنطقة. وتستدعي هذه الكلمة سؤال عن فعاليتها طوال المرحلة السابقة التي شهدت النزيف النقدي اللبناني لمصلحة المحور وأذرعه في غياب تام لأي “ضوابط” أو مساءلة أو التزام بالشفافية والنزاهة.
بالتالي حماية هذه “المقاومة” تفرض مواجهة المؤامرة التي تتسبب يوما بعد يوم في تجويع الشعوب إن في لبنان أو العراق أو سوريا أو اليمن وقهرها وإذلالها. والمواجهة لا تكون إلا بالارتماء في حضن المحور الإيراني أكثر فأكثر وفتح اقتصاد هذه الدول المبرمج إنهيارها لشركات تتحالف مع هذا المحور أو تدور في فلكه، سواء كانت روسيا أو الصين أو الشركات الإيرانية والسورية والعراقية المسنودة من إيران.
والمستنقع الآسن يتطلب مقومات تبدأ بإختراع الأصولية والتطرف. وهذا الاختراع ليس وليد التطورات الأخيرة في المنطقة عموما وفي لبنان تحديدا. وهو لا يقتصر على طائفة بعينها أو مذهب بعينه. بالتأكيد كان يُطبَخ على نار تبرد حيناً وتستعر أحياناً، في غمار تغليب قشور الدين على جوهر الانسانية والعدالة الاجتماعية، ما يؤدي الى نسف صيغة التعايش والانفتاح. فيتحول المستنقع إلى مستنقعات يتخندق كل فريق في إحداها.
لذا تصبح الفيدرالية مطلب المسيحيين في لبنان ليحموا أنفسهم من المسلمين، وتصبح الدويلة الشيعية داخل الدولة اللبنانية حقا مشروعا لمعتنقي مذهب ولاية الفقيه، لا سيما في ظل توفر “الدولار الطازج” في حين يتعذر على المواطنين العاديين الحصول على أدنى المقومات الحياتية. ويصبح التطرف المقرون بالإرهاب وسيلة للمسلمين السنة لمواجهة الشعور بالغبن وعدم الأمان جراء تمدد الهلال الشيعي ليصبح نجمة بأضلاع تنمو وتتكاثر وفق قدرة المحور على ذلك.
المفارقة ان كل فريق من “المجاهدين” لمصلحتهم الخاصة أو لمصلحة مشروعهم الخاص، يحتكر الإيمان والجنة لحسابه، ولا تختلف عدّته عن عدّة خصمه، والكل يكفِّر الكل.
ومن خلال هذا التكفير والمقومات الأخرى التي تدور في فلكه، ينفتح الباب واسعا، وبتحايل على التطور المستخدمة أدواته، ليقود إلى الإنغلاق والانعزال والتقوقع وتغليب القيود ومصادرة الحريات وتقرير المصير.
والأهم تكريس المستنقع الذي يستدعي المؤامرة ويغذيها.
الشرق الاوسط