الدولة المهانة في تونس وشعبها الباحث عن الخبز

الدولة المهانة في تونس وشعبها الباحث عن الخبز

أكثر من مجرد محاولة لجس النبض أو الاستفزاز العدواني المؤقت كانت اللكمة التي تلقتها عبير موسي تحت قبة البرلمان التونسي من قبل أحد ممثلي الإسلام السياسي.

وإذا ما عرفنا أن تاريخ الحياة البرلمانية في تونس يعود إلى أول برلمان تم إنشاؤه منتصف القرن التاسع عشر فإن ذلك معناه أن النائب الإسلاموي قد تحدى أكثر من مئة وستين سنة من العرف البرلماني الذي يشير إلى نوع متقدم وعال من الرقي في الوعي السياسي كانت تونس سباقة إليه في العالم العربي.

كانت تونس دائما تقف في الموقع الذي يؤهلها لإقامة دولة مدنية حديثة على الطراز الأوروبي وهو ما كان الحبيب بورقيبة حريصا عليه ووفيا له، رغم معارضة التيارات الدينية السلفية التي انتظرت طويلا حتى حان الوقت الذي استطاعت فيه أن تفكك عُرى الدولة المدنية وتحكم قبضتها على حلقات مهمة فيها وبعدها صارت تنتقم بطريقة متقنة من التاريخ الذي شهد تحولات عظيمة على مستوى القوانين التي تنظم الحياة الاجتماعية.

وإذا ما كان إخوان تونس الممثلون بحركة النهضة وحلفائهم قد فشلوا غير مرة في الإجهاز على القوانين التي رفعت من شأن المرأة وصانت حقوقها فإنهم وضعوا نصب أعينهم تهديم المؤسسات التي تقف بينهم وبين القيام بما خططوا القيام به من أجل السيطرة على المجتمع. غير أن أبشع وسائلهم في الوصول إلى ذلك الهدف إنما يكمن في توجيه الاهانات إلى المؤسسة التشريعية التي سيطروا عليها من غير أن يظهروا أيّ نوع من الاحترام لها وهم في ذلك إنما يعلنون عن احتقارهم للقوانين.

ليس المطلوب أن يقف الشعب مع عبير موسي ولكن كان المطلوب أن يقف الشعب مع المؤسسة التشريعية التي تسنّ القوانين وتصونها وتدافع عنها

لقد صار واضحا من خلال سلوك النواب الإسلامويين في مجلس النواب أن الشعب الذي انتخب أولئك النواب غير قادر على الدفاع عن حُرمة المجلس ورفعة القوانين التي يمكن انتهاكها. ولم يجرؤ النائب الإخواني عن ائتلاف الكرامة عن القيام بفعلته ضد النائب عبير موسي تحت قبة البرلمان إلا لأنه كان متأكدا من أن أحدا لن يطالب بإقالته بسبب الأغلبية التي تشكلها حركة النهضة التي تضع كل الإخوانيين تحت مظلتها.

ولكن ماذا عن الشعب وهو مصدر كل السلطات كما تنص الدساتير في الدول الديمقراطية وتونس من بينها بدليل أن الإسلامويين لم يصلوا إلى البرلمان الذي لا يحترمونه إلا عن طريق الانتخابات؟ ألا يصطدم سلوك ذلك النائب الرخيص والمبتذل بحق الشعب في سحب الثقة من الاختيار الخطأ؟ ألا يعد الاعتداء السوقي على عبير موسي تحت قبة البرلمان إهانة للشعب التونسي كله وهو الذي يضع ثقته في البرلمان كونه الجهة التي تشرّع القوانين وتدافع عنها وتحميها من أيّ خرق حكومي؟

انأ انتظرت أن يبادر رئيس البرلمان راشد الغنوشي إلى إحالة النائب المعتدي إلى لجنة تحقيق من أجل تلقيه العقاب المناسب على الأقل ترضية للشعب وليس من أجل عيني زعيمة الحزب الدستوري الحر. ولكن زعيم حركة النهضة الذي لا أثق فيه لم يقم بشيء يُذكر. صار واضحا أن الأمور ستجري كما لو أن حدثا جللا لم يقع. لم يشعر الشعب بالإهانة. كما لو أن ما جرى تحت قبة البرلمان هو مجرد خلاف في السوق انتهى بلكمة تلقاها أحد الطرفين.

لم يقل الشعب أن هناك خطأ فادحا قد وقع، من أجله يجب أن توقف اللعبة. لنضع الكرامة جانبا. هل يجوز لنا أن نفعل ذلك؟ لقد هُدرت كرامة الشعب مرات عديدة من قبل الأحزاب التي تتمتع بالأكثرية في البرلمان وهي الأحزاب نفسها التي يعود الشعب إلى انتخابها في كل مرة ولا يفكر في مَن أهدر كرامته. أعتقد أن الأحزاب نزعت عن الشعب كرامته بالتدريج. وهي من خلال دعاتها المنتشرين في القرى والأرياف سحقت كرامة الناس مقابل أن يهديهم أولئك الدعاة مخططا لأقصر الطرق التي تقود إلى الجنة في الحياة الأخرى.

ليس المطلوب أن يقف الشعب مع عبير موسي ولكن كان المطلوب أن يقف الشعب مع المؤسسة التشريعية التي تسنّ القوانين وتصونها وتدافع عنها.

مع اللكمة التي وجهت إلى عبير موسي كان البرلمان التونسي قد تحول إلى حلبة ملاكمة. وبالرغم من اشمئزازي من مشهد الغنوشي رئيسا للبرلمان فأنا لم أتوقع منه، كونه رجلا عاش جزءا من حياته لاجئا في بريطانيا ألاّ يتحرك من أجل معاقبة النائب المعتدي.

غير أن الغنوشي المريض بإخوانيته يضرب عرض الحائط بكل الأعراف بل ويسكت حين يُهان الشعب التونسي الذي دخل في مرحلة البحث عن الخبز وهو ما يعني أن كرامته قد ديست بشكل متقن ونهائي.

العرب