أمريكا: خديعة الانسحاب من المنطقة

أمريكا: خديعة الانسحاب من المنطقة

ترددت الأنباء، التي نقلتها الصحافة الأمريكية والأوروبية مؤخرا، ورددتها الصحافة العربية؛ أن أمريكا ستقوم بسحب قواتها، أو تقليل وجودها وحضورها العسكري في المنطقة العربية، وأيضا نقل بطاريات باتريوت من العراق والأردن والسعودية والكويت، بما فيها بطاريات ثاد الأكثر تطورا؛ للتفرغ في صراعها المفترض، أو المرتقب مع الثنائي الروسي الصيني.
الحقيقة أن هذا الانسحاب يأتي في إطار، تحول وتغير عام وشامل في السياسة الأمريكية، وليس محصورا في وجودها السياسي والعسكري، وما يتصل بهما، بل هو تبديل كامل في الاستراتيجية الأمريكية في جميع أركان العالم، وليس حصرا في المنطقة العربية. هذا التغيير فرضته جملة متغيرات، ففي العالم العربي انتفاء وجود تهديد جدي للكيان الصهيوني، ولو من دولة عربية واحدة، تمتلك القوة والنية لمحاربة هذا الكيان من أجل إحقاق الحق، هذا من جهة، ومن الجهة الثانية الشراكة الروسية الصينية، والتغول الصيني، الآن ومستقبلا، على الصعيدين الاقتصادي والتجاري في العالم (الحزام والطريق)، ونشاطها، في بحر الصين الجنوبي والشرقي، وفي شبه الجزيرة الكورية، وفي جنوب شرق آسيا، إضافة إلى النشاط الروسي على حدود أوكرانيا، وفي المنطقة العربية وجوارها (سوريا وإيران)، وفي آسيا الوسطى، وحتى في أوروبا لجهة المستقبل، إضافة (وهي إضافة مهمة جدا)؛ إلى ما تعاني منه الولايات المتحدة من تفكك في النسيج المجتمعي، وتضادد رؤى النخبة الأمريكية. عليه؛ فإن هذا التبديل الكامل في الاستراتيجية الأمريكية، ما هو إلا إعادة تموضع، وإعادة انتشار للقوات العسكرية الأمريكية، في جميع أنحاء العالم، وتغيير في الأهداف ووسائل وأدوات تحقيقها. تماشيا مع ضرورات ومقتضيات الصراع التنافسي، الذي أخذ في الآونة الأخيرة شكل الحرب الباردة، بين القوى العظمى الثلاث، وهو (صراع) يختلف بصورة جذرية عن الحرب الباردة، في القرن العشرين، بين الغرب والشرق، ومن أهم أعمدة هذا الصراع، وأدواته، وقنواته؛ الحرب السيبرانية، والحرب بالأسلحة الرقمية، وحرب الاقتصاد والتجارة والعملة، وإحياء التحالفات والتخندقات، وإقامة التجمعات الاقتصادية والتجارية والمالية، وجعلها مكتفية ذاتيا في التبادل التجاري والمالي، ونقل أو توطين تكنولوجيا المعلومات بحدود، والتكنولوجيا العسكرية والمدنية؛ بالعملة المحلية، بين دول تمتلك هيكلا صناعيا منتجا، وهياكل أخرى ذات صلة، في حقول المعرفة السابقة (أوراسيا، البريكس، شنغهاي) وحرب الإعلام في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات، وما للأخيرة من دور فعال في تشويه سمعة أي دولة، أو تشويه سمعة نظامها، ما يقود إلى تشكيل كتلة صلبة، من الرأي العام؛ ينظر بسلبية وعدم ثقة بهذه الدولة أو بتلك، بهذا النظام أو بذلك. كما حدث مؤخرا؛ في إحالة انتشار كوفيد 19 الى الصين، الذي أضر بسمعتها وثقة العالم بها.

كل الإدارات الأمريكية منذ بدأ التفكير الجدي بالانسحاب تنطلق لتحقيق أهدافها بدربين مختلفين، ولكن محطة الوصول واحدة

وهناك ممن يرفضون نظرية الحرب الباردة بين الأقطاب الكبرى في العالم، روسيا والصين وأمريكا، وهذا صحيح إذا ما طبقنا ما كان يجري في الحرب الباردة بين الشرق بزعامة الاتحاد السوفييتي من جهة، والغرب بزعامة أمريكا؛ على قواعد أيديولوجية في وقتها، لكن الآن إذا ما قلبنا الصفحة، وقرأنا الواقع والمتغيرات والتحولات، في القرن الحادي والعشرين، طبقا للقواعد والمعايير التي أنتجها هذا القرن، والتي ليس من بينها صراع الأيديولوجيات، بل الصراع التجاري والاقتصادي والمالي، الذي يرتبط بصراع العملة مستقبلا، وبتوسيع مناطق النفوذ للأغراض الثلاثة سابقة الذكر، وتكنولوجيات المعلومات التي تتفوق فيها الصين إلى حد كبير، تصبح هنا القراءة مختلفة، بمعنى هي قراءة تؤكد على الحرب الباردة، التي بدأت منذ حين من الآن، وستظهر معالمها بوضوح بتظهير حدود الفصل لخنادق الصراع مستقبلا. لكنها، تختفي وراء لافتة صراع المصالح، والصراع من أجل تثبيت حقوق الإنسان، ونشر الديمقراطية الغربية، ونشر الأمن والسلام في العالم، وهي أدوات لتقويض وحصر مساحة النفوذين الروسي والصيني، بل أحيانا عندما تكون الظروف ملائمة؛ تقويض النظام داخل الدولتين، وأيضا تقويض أنظمة الدول الشريكة لها. إن أس الحرب الباردة في القرن الحادي والعشرين؛ هي أن لا حرب بالسلاح بين الخصوم، وهذا هو سبب الاتفاق الأمريكي الروسي الاخير بين زعيمي الدولتين؛ بإيجاد منصة حوار مباشر ومستمر، لجهة استدامته مهما تلبدت العلاقة بينهما، بغيوم الشك والتوجس للتقليص التام لقاعدة الخوف من أهوال رد الفعل من الطرف الآخر؛ لجعل الأوضاع قابلة للتنبؤ، والمقصود هنا تجنب أي خطأ غير مقصود، لكن، ومن الجانب الثاني جميع القوى الدولية الكبرى وبالذات الصين وروسيا وأمريكا؛ تعمل بلا كلل ولا ملل في زيادة قوتها وقدراتها العسكرية الردعية، وبالذات السلاح الرقمي، أي سباق تسلح جديد، على ما لديهم من قوة تدمير هائلة. في كل يوم تعلن القوى العظمى الثلاث، والقوى الكبرى الأخرى التي تعقب حركتها (شراكة أو حلفا، أو تلاقي مصالح وأهداف) ابتكار واختراع سلاح رقمي جديد، أو غير رقمي، لكن له دقة الرقمي، باستخدام الأقمار الصناعية في الفضاء، بتوجيه حركتها نحو الهدف، بدقة متناهية. وهذا يرتبط بعسكرة الفضاء أي إقامة قواعد ثابتة (محطات الفضاء والأقمار الصناعية).. هذه القوة والقدرة الفتاكة، ليس للحفاظ على حدود دولهم وأمنها، بل لغرض الردع في مناطق النفوذ، أي إبرازها سواء بالمناورات أو بغيرها، وعلى مقربة من حدود الخصم أو من مناطق نفوذه؛ وهي رسائل للخصم للابتعاد. كيف لا تكون هنا حرب باردة بين القوى العظمى الثلاث، واستراتيجيتهم يبنونها على ما سبق الإشارة له، وهم مستمرون بهذه السياسة.
العملاقان الاقتصاديان الصيني والأمريكي؛ يرصدان لتطوير هذه الأسلحة أرقاما هائلة من موازنتيهما للأغراض العسكرية، بحثا وابتكارا واختراعا وتطويرا وإنتاجا. (الموازنة العسكرية الامريكية لا تقل عن 750 مليارا في السنة، وموازنة الصين في الفترة الأخيرة لا تقل عن 279 مليارا في السنة، وبدرجة أقل كثيرا روسيا بفعل افتقارها للمورد المالي). إذن هي حرب باردة بمعايير وقواعد القرن الحادي والعشرين؛ سباق تسلح، صراع على مناطق النفوذ، صراع تجاري واقتصادي ومالي، سباق على حيازة أكبر قدر من تكنولوجيات المعلومات، لاحتكار القوة والقدرة، في الاقتصاد والتجارة والسلاح، سواء في حقل الاستخدام المدني، أو الاستخدام الإعلامي الرقمي، أو الحرب السيبرانية، أو الاستخدام العسكري وغيرها . نعود إلى الانسحاب الأمريكي من المنطقة العربية وجوارها، هذا الإعلان عن الانسحاب لم يكن في فترة بايدن فقط، بل بدأ من عهد أوباما، مرورا بإدارة ترامب، واستمر إلى الآن. علما أن إدارة ترامب اتسمت بالخشونة والوقاحة، بينما إدارتا أوباما وبايدن تتبعان سياسة ناعمة ودبلوماسية؛ وفي المحصلة كل الإدارات الأمريكية منذ بدأ التفكير الجدي بالانسحاب تنطلق لتحقيق أهدافها بدربين مختلفين، إلى محطة وصول واحدة. لم يكن الغرض انسحابا بالمعنى الحرفي للانسحاب، بل إعادة انتشار وتموضع بإطار استراتيجية جديدة؛ تستجيب لمتطلبات الصراع الدولي بين القوى العظمى، ومتغيرات هذا الصراع، بما لا يشكل ثقلا على الجهد المالي والعسكري والسياسي على أمريكا، وفي الوقت ذاته يؤمن لها حضورا فاعلا في المشهد السياسي ومتغيرات هذا المشهد. الانسحاب من أفغانستان جدي وحقيقي، لكنه يدخل في حسابات الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة الامريكية.. وهناك إشارات إلى أن روسيا لها نية ملء هذا الفراغ.
الفراغ الذي سيتركه انسحاب أمريكا؛ ستنتج عنه لاحقا الفوضى، وربما الحرب الأهلية، التي سوف تؤثر جديا في روسيا، وفي رابطة الدول المستقلة التي تربطها مع روسيا معاهدة للدفاع المشترك. أما في إيران وما تشكله من خطر على مصالح الولايات المتحدة، فإن إحياء العمل بالصفقة النووية، ولو بعد حين من الآن؛ سوف يرسم معالم وشكل العلاقة بينهما، وفضاءات التحرك الايراني في المنطقتين؛ العربية وجوارها، وآسيا الوسطى.. أمريكا في انسحابها هذا، وهو ليس انسحابا، بل هو تلبية لمفردات الاستراتيجية الأمريكية الجديدة. ولعل من أهم مفردات ومخطط هذه الاستراتيجية هو أن توكل المهمة إلى أدوات من داخل المنطقة، مع بقاء قوة إسناد ضرورية عند الحاجة لها، وبالقرب من مناطق الصراع، بالإضافة إلى العمل الاستخباراتي، وأجندة المخابرات التي لها وجود فعلي على الارض. هذه العملية تكون أقل كلفة من العمل المباشر، كما أنها لا تؤلب الشعوب عليها، على الأقل لا يكون لوجهها القبيح حضور في المشهد. وما يؤكد ما ذهبنا إليه؛ الاتفاق الأردني الامريكي على إقامة قاعدة أمريكية في صحراء الأردن على مقربة من الحدود السورية ـ العراقية ـ الاردنية، مع ستة عشر مركزا لانتشار القوات الامريكية. هذا الاتفاق بحد ذاته يفند الادعاء بالانسحاب من المنطقة. استراتيجية الصراعات في العالم، في الطريق إلى التغيير، ليس لأمريكا وحدها، بل لجميع القوى العظمى في العالم، هذا التحول والتغيير فرضته الثورة المعلوماتية، والاتصالات، وما نتج عنهما؛ من تطور مذهل في استخدام تكنولوجيا الاتصالات، في الأغراض العسكرية، وفي الأسلحة الرقمية وما له علاقة بهما، وحروب الاقتصاد والتجارة والمال والعملة. من الممكن وبسهولة ويسر بالسلاح الرقمي (المسيرات) معالجة اي هدف عن بعد، ومن دون الحاجة للسلاح التقليدي، لمعالجة الهدف عند الحاجة، دعما وإسنادا أرضيا من السماء؛ للجهات التي تشتغل لصالح، أو لتنفيذ السياسة الأمريكية على الأرض، في هذا البلد أو ذاك، في مواجهة الجهات الرافضة للوجود الأمريكي، حتى لو لم يكن هناك وجود سياسي ظاهر، أو عسكري ملموس، لناحية التدخل البري الميداني، الذي يؤلب الشعب، سواء في قواعد مستقلة، أو قواعد تستضيفها قواعد البلد الهدف، لكنه وجود عميق، ومتجذر، وفاعل؛ في السياسة والاقتصاد والتجارة وثروات الطاقة، وثروات المعادن الأخرى، والعملة وشراء السلاح الامريكي، حصريا. ما يقود أو ينتج عنه بالضرورة، ضعف في القرار المستقل، وجرح عميق في السيادة، وكسر للإرادة.. من الطبيعي أن تكون لأمريكا قواعد ثابتة على مقربة من الأحداث وتطورها مستقبلا، وهذا ما سوف يحصل، أي تبقي الولايات المتحدة على قواعدها المهمة، والآمنة، في المنطقة العربية، وهي قواعد يحيط بها حزام امني مريح، لا يقلق عسكر الأمريكيين، اي يسلب منهم راحتهم وأمنهم الشخصي.

مزهر جبر الساعدي

القدس العربي