قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الأسبوع الماضي، بزيارة إلى مدينة دياربكر هي الأولى بعد سنتين ونصف من الانقطاع. أردوغان الذي هو، في الوقت نفسه، زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم، يقوم بزيارات كثيرة إلى المدن والولايات التركية، مثله في ذلك مثل جميع القادة السياسيين، في إطار تواصلهم المباشر مع جمهور الناخبين. هذا تقليد ثابت في الحياة السياسية التركية منذ جولات مصطفى كمال أتاتورك المتكررة في أرجاء الأناضول في بداية تأسيس الجمهورية التركية. لذلك اعتبر بعض المراقبين زيارة دياربكر المذكورة بمثابة بداية مبكرة لأجواء الانتخابات العامة والرئاسية المقرر إجراؤها مبدئياً في حزيران 2023. ودعموا فكرتهم هذه بتوجيه أردوغان للأطر الحزبية، مؤخراً، بأن تبدأ فوراً بالتواصل مع الناس و«قرع أبوابهم باباً باباً» للتعرف إلى همومهم ومشكلاتهم ومطالبهم. غير أن دياربكر ليست كالمدن الأخرى، فهي المدينة الكبرى في المناطق ذات الكثافة السكانية الكردية في جنوب شرق البلاد وشرقها، فلسكانها هموم ومطالب خاصة إضافة إلى الهموم والمطالب العامة في سائر أنحاء البلاد. والأهم من ذلك كون تلك المناطق خزاناً انتخابياً ذا طابع هوياتي، بمعنى أن السكان عموماً يصوتون بصورة موحدة تقريباً، ففي العقدين الأخيرين كانت أصوات الكرد تنقسم بين حزب الشعوب الديمقراطي وحزب العدالة والتنمية الحاكم، في حين لا تحصل الأحزاب الأخرى على شيء يذكر من أصوات الناخبين.
لكن تلك المعادلات تغيرت، إلى حد كبير، في السنوات الماضية، فتراجعت نسبة المصوتين للحزب الحاكم لتصب في مصلحة «الشعوب الديمقراطي» من جهة أولى، وصوت ناخبو الحزب المذكور لمصلحة مرشحي المعارضة في الانتخابات البلدية الأخيرة، في 2019، فساهموا بنشاط في نجاح مرشحي «الشعب الجمهوري» في إسطنبول وأنقرة ومدن أخرى كبيرة.
ما يقلق «العدالة والتنمية» هو مظاهر الذوبان الواضحة في كتلة مؤيديه ومؤيدي حليفه حزب الحركة القومية التي تراجعت، وفقاً لاستطلاعات الرأي الدورية، إلى حدود 40 في المئة لمجموع مؤيدي الحزبين المتحالفين في «تحالف الجمهور» وإلى نحو 34 في المئة بالنسبة للعدالة والتنمية، على رغم بقائه في صدارة الأحزاب التركية من حيث الشعبية.
ويلاحظ محللون مستقلون وآخرون معارضون أن النسبة التي يخسرها التحالف الحاكم من أصوات الناخبين، وفقاً للاستطلاعات، لا تنتقل إلى أحزاب المعارضة، بل تضاف إلى كتلة المتحيرين التي قد تحسم خيارها في آخر لحظة أمام الصندوق الانتخابي، أو تقاطع الانتخابات بسبب غياب البديل المرغوب. ويعود ذلك، في رأيهم، إلى سوء أداء أحزاب المعارضة، وفشلها في تقديم بديل جذاب يكسب ثقة الناخبين، واكتفائها بانتقاد إجراءات وسياسات الحزب الحاكم.
الواقع أن أردوغان صاحب الخبرة الكبيرة في الحسابات الانتخابية، الحساس لميول الناخبين وما يطرأ عليها من تغيرات، بات يدرك أن حليفه القومي بات عبئاً عليه
بل بلغ الأمر عند بعضهم حد القول بأن شخصاً واحداً هو سادات بكر زعيم المافيا المنشق المطلوب للعدالة، يبدو أكثر فاعلية من أحزاب المعارضة مجتمعة، في إشارة إلى ملايين المتابعين لقناته على شبكة يوتيوب التي يبث منها، من خارج تركيا، ويخلق بالمعلومات التي يبثها بلبلة كبيرة لغير مصلحة السلطة. وقد برزت إشارات لافتة من حزب الشعوب الديمقراطي، في الآونة الأخيرة، إلى أن أصوات ناخبيه ليست مضمونة لمصلحة أحد، في رسالة لأحزاب المعارضة بأنها لن تنال دعم الحزب الكردي ما لم تغير سياساتها السلبية تجاهه.
أمران لفتا النظر في زيارة أردوغان لدياربكر، الأول هو حديثه عن مسار الحل السلمي بين 2013 ـ 2015، فقد قال «لسنا نحن من أنهى ذلك المسار، بل حزب الشعوب الديمقراطي ومن ورائه حزب العمال الكردستاني» وأضاف: «ما زلت عند قناعاتي نفسها منذ العام 2005، حين قلت هنا إن المسألة الكردية هي مسألتي». من غير أن يقدم وعداً بالعودة إلى الحل السلمي.
صحيح أن أردوغان انقض بالنقد القاسي على الحزب الكردي، وبمعيته على حزبي المعارضة المتحالفين، الشعب الجمهوري و«الخيّر» وصحيح أنه لم يقدم أي وعد بالعودة إلى الحل السلمي، لكن مجرد إشارته إلى التجربة السابقة، وقوله إنه ما زال مقتنعاً بالحل السلمي، يعتبر نوعاً من «الخروج على النص» بالقياس إلى مجمل سياسات السلطة تجاه الحركة السياسية الكردية في السنوات الست الماضية التي اتسمت بحرب مفتوحة ضدها، سواء بشكلها العسكري المباشر أو بالإجراءات القضائية القمعية أو في الخطاب الإعلامي. وأبرز معالم تلك الحرب هي إقصاء رؤساء البلديات المنتخبين واستبدال أشخاص معينين بهم، وسجن عدد كبير من كوادر الحزب الكردي بمن فيهم زعيمه السابق صلاح الدين دمرتاش، باتهامات مثيرة للجدل، وأخيراً الدعوى القضائية المرفوعة ضد الحزب بهدف إغلاقه وحرمان مئات من كوادره من العمل السياسي. سرعان ما جاء الاعتراض المتوقع من الشريك القومي في التحالف دولت بهجلي زعيم حزب الحركة القومية، الذي اعتبر أنه لا محل لأي حديث عن الحل السلمي، وهو ما كرره أحد الشخصيات القيادية في «العدالة والتنمية» في نوع من الاستجابة المباشرة لبهجلي، وما يعنيه ذلك من العودة إلى نقطة الصفر في الموضوع الكردي. ولكن لماذا تحدث أردوغان في دياربكر عن هذا الموضوع وهو العارف بردة الفعل المتوقعة من حليفه القومي المتشدد، فيضطر لاحقاً إلى التراجع عما قاله هناك؟
الواقع أن أردوغان صاحب الخبرة الكبيرة في الحسابات الانتخابية، الحساس لميول الناخبين وما يطرأ عليها من تغيرات، بات يدرك أن حليفه القومي بات عبئاً عليه، بدل أن يكون عوناً له في الإمساك بالسلطة، لكنه مع ذلك لا يستطيع التخلص منه لأن لهذا التخلص ثمن باهظ لا يمكن دفعه في الوقت الحالي. فكيف السبيل إلى كسب قلوب الناخبين الكرد من غير إثارة استياء الحليف القومي المتشدد؟ بزيارته لدياربكر قام أردوغان بتوسيع طيف خياراته المحتملة، وأعطى إشارة إلى أنه يمكن، في لحظة معينة، أن يتخلص من «القومي» ليتحالف مع «الكردي» وهذه رسالة مبطنة إلى بهجلي كي لا يتمادى في فرض إملاءاته.
أما الأمر الثاني اللافت للنظر في الزيارة فكانت العبارة التي استقبله بها أنصاره حين وصل إلى المدينة: «يعيش سروك أردوغان!». فكلمة «سروك» في اللغة الكردية تعني القائد، ويطلقها أنصار حزب العمال الكردستاني على عبد الله أوجالان. فكثيراً ما هاجم بهجلي أحمد داوود أوغلو من خلال وصفه بـ«سروك» بسبب مخاطبة مؤيدين كرد لرئيس الوزراء الأسبق بهذه الكلمة.
بكر صدقي
القدس العربي