وقع الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الاثنين الفائت اتفاقا، كان نتاجًا للجولة الرابعة والأخيرة من الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأميركية والعراق، حيث تضمن الاتفاق سحب القوات الأمريكية القتالية في 31 كانون الأول/ ديسمبر المقبل، وتحوّل صفة الوجود العسكري الأميركي في العراق إلى استشاري وتدريبي، بالأمر الجديد أو الذي سيؤدي إلى وضع حد للدور العسكري للولايات المتحدة في العراق.
ونص الاتفاق المشترك الذي وزعه مكتب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على الصحافيين في بغداد، في ساعة متأخرة من مساء أول من أمس الإثنين، على “انتقال العلاقة الأمنية بين الطرفين إلى مهام الاستشارة والتدريب ودعم بناء القدرات العسكرية العراقية، وتقديم الدعم الفني، وعدم وجود القوات القتالية الأميركية بحلول يوم 31 كانون الأول/ ديسمبر من العام الحالي، 2021”. كما تحدث البيان عن تعهد أميركي بدعم العراق لإجراء الانتخابات البرلمانية المقررة في 10 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، إضافة إلى تعهدات أميركية بدعم العراق في مجال الاستثمار وتوسعة نطاق الشركات الأميركية في هذا الإطار، وتمكينه في قطاعات مختلفة، فضلاً عن مساعدته في مواجهة جائحة كورونا وتعزيز جهوده الصحية.
في المقابل، أكد البيان تعهد حكومة العراق “بالالتزام بحماية عناصر التحالف الدولي الذين يقدمون المشورة والتدريب للقوات الأمنية العراقية”، كذلك لفت إلى إقرار عراقي رسمي بأن “جميع قوات التحالف الدولي عملت في العراق بناءً على دعوة بغداد”. وأشار الاتفاق إلى أنّ “القواعد التي تستضيف أفراد الولايات المتحدة والتحالف الدولي الآخرين، هي قواعد عراقية تدار وفق القوانين العراقية النافذة وليست قواعد أميركية أو قواعد للتحالف الدولي”.
من جانبه، أكد رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي أن الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة جاء نتيجة مفاوضات طويلة بين الوزارات العراقية والجانب الأميركي وشكل إنجازا مهما لتقييم العلاقات الثنائية وعودة الجنود الأميركيين إلى بلادهم.وشدد رئيس الوزراء العراقي على أن الاتفاق العراقي – الأميركي شكل بارقة أمل لتوحد العراقيين وهو يوم تاريخي للعراق خاصة بعد أن حصلت القوات الأمنية العراقية على اعتراف أميركي بقدراتها وجاهزيتها للدفاع عن العراق من أي تهديدات.
وذكر الكاظمي في مقابلة مع تلفزيون “العراقية” أن نتائج جلسة الحوار حققت “انتقالا جديدا للعلاقات نحو التدريب وأن الحرب على داعش مرحلة تم عبورها خاصة وأن القوات العراقية باتت اليوم قادرة على حماية الأمن الداخلي وعلينا تقوية السلم الاجتماعي في إطار الدولة”. وأشار إلى إن التنسيق بين واشنطن وبغداد لن يقتصر على الجانب الأمني، إلا أنه أكد أن القوات الأميركية ستعود إلى بلدها نهاية العام الحالي.
ورحب الرئيس العراقي برهم صالح في بيان، بنتائج الحوار، معتبراً أنها “مهمة لتحقيق الاستقرار وتعزيز السيادة العراقية”، فيما رأى رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي أن نتائج جولة الحوار الأخيرة “نجاح دبلوماسي للعراق”، معتبراً في بيان مقتضب صدر عن مكتبه، أن هذه النتائج تأتي “ضمن متطلبات المرحلة الجديدة ومقتضيات المصلحة الوطنية”.
وبدا لافتاً ترحيب زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بنتائج الحوار، داعياً إلى وقف العمليات العسكرية ضد القوات الأميركية على ضوء اتفاق سحب القوات القتالية في نهاية العام الحالي. ووجه الصدر شكره للكاظمي ولمن وصفهم بـ”المقاومة الوطنية”، وقال “ها هو الاحتلال يعلن عن بدء انسحاب قواته القتالية، لننتظر وإياكم إتمام الانسحاب، وشكراً للجهود المبذولة لبلورة هذه الاتفاقية ولا سيما للأخ الكاظمي”.
كما أصدر تحالف “الفتح” بياناً رحب فيه بالاتفاق. وذكر البيان أن “تحالف الفتح يرحب بما حققه المفاوض العراقي من إنجاز بالاتفاق على خروج القوات القتالية بشكل كامل في نهاية هذا العام، ويعدها خطوة إيجابية متقدمة باتجاه تحقيق السيادة الوطنية الكاملة”. وشدد التحالف “على المسؤولين المعنيين في الدولة العراقية متابعة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بشكل عملي”.
وعلى مستوى الفصائل المسلحة، تباينت ردود الفعل وظهرت تصريحات عدة لشخصيات قيادية وبارزة في هذه الفصائل، اعتبرت الاتفاق التفافاً على مطلب إخراج كامل القوات الأجنبية من العراق. ونقلت وكالة “فارس” الإيرانية عن زعيم مليشيا “جند الإمام”، المتحدث باسم تحالف “الفتح” أحمد الأسدي، قوله إن “تحويل القوات القتالية إلى مستشارين خديعة أميركية كبرى”. وأضاف أنّ “لجنة الأمن النيابية ستتابع أعداد القوات الأميركية وأماكن وجودها”، معتبراً أنّ هذه القوات “قتلت قادة النصر، ولا يجب التعامل معها من منطلق عاطفي”، في إشارة إلى اغتيال واشنطن قائد فيلق القدس السابق بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة “الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس في مطلع العام الماضي. وشدد الأسدي على أن “استقرار العراق يتحقق بخروج القوات الأميركية”.
لكن القيادي في حركة “عصائب أهل الحق”، أبرز الفصائل المسلحة الحليفة لإيران، سعد السعدي، قال في لوسائل الإعلام العربية، إن “فصائل المقاومة الإسلامية ستراقب تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بين الكاظمي والرئيس الأميركي جو بايدن، وسيتم خلال هذه الفترة إيقاف الفصائل لعملياتها العسكرية، لكن إذا لم تفِ واشنطن بهذا الاتفاق كما فعلت سابقاً، فسيكون لفصائل المقاومة تصعيد نوعي بعد انتهاء مهلة الانسحاب الأميركي من العراق”. وأوضح السعدي أنّ “فصائل المقاومة العراقية قررت أن تعطي فرصة جديدة للدبلوماسية العراقية بإخراج القوات الأميركية من العراق وفق الحوار والتفاهم، وإخفاقها هذه المرة، سيعطي الفصائل الحق من جديد في اتخاذ الموقف العسكري من أجل تحرير العراق والحفاظ على سيادته وأمنه، وأي هدنة جديدة هي ليست ضعفاً من الفصائل، بل هي قوة”.
هذه المواقف والتصريحات تُجلي ملامح صفقة ثلاثية أميركية – عراقية – إيرانية تمكّنت الولايات المتّحدة بفضلها من تمديد بقاء قوّاتها على الأراضي العراقية تحت عنوان مقبول لكنه فضفاض يتمثل في “المهمّات غير القتالية”. وتكفّلت إيران بضمان موافقة الفصائل المسلحة على هذه الصيغة بينما غنم الكاظمي من ورائها التهدئة التي ينشدها لاستكمال فترته الانتقالية وصولا إلى انتخابات تشرين الأول/ أكتوبر المقبل مع وعود أميركية بالدعم والمساندة، بما في ذلك طمأنته على مصير الأموال العراقية المودعة في البنوك الأميركية.
منذ تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء في السابع من أيار/مايو 2020م، يحمل من الملفات ما تنوء بحملها الجبال في ظل تصادم حاد للإرادات السياسية في بلاده. ليس هذا فقط؛ بل إن الكاظمي يتعين عليه وحده تحمل مسؤولية كل ما تم ارتكابه من أخطاء وخطايا بعد أن تنصل الجميع مما جرى؛ ربما باستثناء طرف واحد في العراق لا يزال يؤمن بصداقة استراتيجية مع الأميركيين؛ هم الأكراد. والكاظمي قبل مسؤولية تكليفه رئيساً للوزراء العام الماضي في ظل أزمة المظاهرات وما ترتب عليها من نتائج خطيرة، من أجل العبور بالبلاد إلى مستقبل آمن، فإذا به يُلقى في اليم وحيداً شريطة ألا يبتل بالماء؛ الأمر الذي يجعل مهمته مع بايدن من أخطر المهام، وملخصها البحث عن مخرج مما وصلت إليه الأمور في البلاد.
الكاظمي ليس بحاجة إلى من يذكره بحجم الأخطاء التي ارتكبها الأميركيون في العراق. وهي أخطاء رهيبة من قماشة الخطايا. ويعرف أن قرارهم الأحمق بحل الجيش العراقي كان فاتحة تذويب كل المؤسسات ووقوع البلاد في زمن اللادولة. لكن الكاظمي الذي يتحرك بين العبوات يدرك أن عليه تجرع السم أحياناً وكشف نصف المشهد أحياناً أخرى وأنه جزء من معركة طويلة تتعادل أهميتها مع خطورتها. ولعل أخطر ما يعرفه الكاظمي هو أن المشكلة الفعلية في العراق اليوم ليست في الجنود الأميركيين الذين يقل عددهم عن الثلاثة آلاف. إنها مشكلة إصرار إيران على طرد القوات الأميركية من العراق، ليس فقط تنفيذاً لقرار بالثأر لقاسم سليماني، بل أيضاً استكمالاً للبرنامج الذي يعتبر النفوذ الأميركي عائقاً أمام ولادة إيران الجديدة. نقول إيران الجديدة كي لا نذهب إلى حد القول إيران الكبرى التي تدير من طهران أربع عواصم عربية.
الكاظمي كأي عراقي وطني ينشد اليوم الذي لا يرى فيه على أرض الرافدين أي جندي أمريكي ولا تركي ولا تغلغل للنفوذ الإيراني في مفاصل الدولة العراقية ولا إرهاب يهدد حاضر ومستقبل العراق. ولأن الكاظمي سياسي وطني واقعي يدرك بشكل عميق أنه من الصعوبة بمكان التوصل إلى اتفاق أفضل مما تم التوصل إليه مع الولايات المتحدة الأمريكية لأنه يدرك تبعات الأمنية والسياسية والاقتصادية والمالية الخطيرة على العراق. فالكاظمي في هذا الاتفاق أكد على مبدأ في غاية الأهمية في عالم السياسة ألا هو ” خذ وطالب” كما رسّخ -في هذا الاتفاق- فكرة إعلاء مصلحة الدولة -مهما عظمت التحديات- على حساب فكرة اللادولة.
وحدة الدراسات العراقية