موقف بريطانيا مما يجري في تونس بعد فشل مشروعها المستند على الإسلام السياسي سيحدد المواقف المستقبلية للغرب بشكل عام وعلى رأسه الولايات المتحدة التي يبدو أنها استفادت من دروسها في الحالة المصرية بعدم اعتبار ما يحدث في تونس انقلابا وفقا لبيان البيت الأبيض.
على مدى العقود الماضية كانت بريطانيا ولا زالت متّهمة بلعب دور مؤثر في صياغة منهجية الإسلام السياسي في العالم العربي؛ ويحاول الباحثون في هذا المجال التنقيب عن هذه العلاقة والتأشير إلى الشواهد الدالة على مدى عمق هذا التأثير وجذوره الممتدة من فترة ما قبل خروج المملكة المتحدة من المنطقة العربية؛ ومنطقة الشرق الأوسط الكبير، إذ تكشف مجموعة من التقارير الاستخبارية والبحثية الرصينة دعم لندن لحركات الإسلام السياسي بمختلف مسميّاتها ونشاطاتها، كأداة سياسية لدعم مصالحها في مواجهة تراجع نفوذها السياسي خارجيا.
ما يجعلني أعيد فتح هذا النقاش ووضعه على طاولة البحث، ما حدث في تونس مؤخرا بعد احتجاجات شعبية في عدة مدن تونسية، وإعلان الرئيس التونسي قيس سعيّد تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن جميع النواب، وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه، مستندا إلى الفصل 80 من الدستور التونسي، الذي ينص في جزء منه على حق الرئيس في حالة الخطر الداهم والمهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، بشكل يتعذر معه السير الطبيعي لمؤسسات الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية.
إن تفعيل المادة 80 وما يرافقها من شكوك حول أي دور مستقبلي لحركة النهضة، يطرح جدلا واسعا حول مستقبل الحركة وبشكل أوسع مستقبل السياسة البريطانية تجاه المنطقة العربية، نظرا للارتباط بين سياستها الخارجية وحركات الإسلام السياسي كركيزة أساسية لها، وهو ما سيتم نقاشه أولا، ومن ثم التعقيب على تبعات سقوط آخر معاقل الحركة في تونس.
في البداية؛ لطالما نظرت بريطانيا إلى الإسلام السياسي كبديل عن الإسلام الراديكالي، حيث سعت بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر لتمكين الإسلام السياسي في المجتمع البريطاني على أمل التصدي للفكر السلفي الجهادي، الذي كان قد تمركز في لندن منذ تسعينات القرن السابق إلى الحد الذي أطلق عليها اسم “لندنستان”، وضم عددا من قيادات السلفية الجهادية ومنظريها من أمثال أبومصعب السوري وأبوقتادة الفلسطيني، وللمفارقة فقد تشاركت جماعات الإسلام السياسي مع بريطانيا في مقاربتها لمجتمع بريطاني مسلم أكثر براغماتية وسلمية.
وفي هذا السياق يرى راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة في مقابلة له مع صحيفة الشرق الأوسط اللندنية في 2016 أن حزبه و”حزب العدالة والتنمية” المغربي ونظيره التركي، هي البديل الحقيقي للتنظيمات الإرهابية داعش والقاعدة وغيرهما من الجماعات المسلحة التي تستخدم الإرهاب تحت غطاء ديني.
ويبدو أن تبني بريطانيا لهذه المعادلة استبدل نفوذ وقيادات السلفية الجهادية بنظرائهم من الإسلام السياسي، فوفقا لتقرير نقلته التلغراف عام 2006، نظمت بريطانيا عددا من المؤتمرات التي حضرها قادة من الإخوان من البقاع العربية المختلفة مثل يوسف القرضاوي، بهدف دمج الإسلاميين في قيم المجتمع البريطاني، مع ذلك من المحتمل أن تكون هذه المؤتمرات أو غيرها ذات صلة بسياسات تمكينية أوسع نطاقا، لكنها مازالت غير معلنة إلى حد ما، وقد أخبرني أحد الأصدقاء عن مشاركته في خلوة سياسية في الريف البريطاني في العام 2019، لم يعلن عنها، كانت تناقش مجموعة من العناوين، أهمها: عنف الإقصاء الذي يعاني منه الشباب، وانعدام الثقة بين الشباب والحكومات، وابتعاد القيادة السياسية عن الشباب، وغياب التمثيل الشبابي في الحياة السياسية في بعض الدول ومنها العربية، وكانت الخلوة مهتمة بالعمل على تنمية مهارات الشباب السياسية وتطويرها بما يتناسب مع التغيرات العالمية.
الأحرى ببريطانيا أن توجه الأموال المخصصة لدعم مشاريع الإسلام السياسي نحو التنمية المعرفية لشعوب المنطقة العربية
نعم، هي مجموعة رائعة من العناوين المهمة والتي أنادي بها دائما في مقالاتي وكتاباتي، لكنها تبدّدت بعد نقاشات استمرت على مدار ثلاثة أيام؛ حيث كان ملفتا الحضور الشبابي الواسع والنخبوي لأفراد من عائلات قيادات جماعات الإسلام السياسي من مختلف الدول العربية، وأغلبهم كان يدير النقاشات والمجموعات، ويستعرض تجربتهم في فترة ما يسمّى “الربيع العربي”، إضافة إلى سرد رحلة التمكين السياسي لهذه القيادات الشبابية منذ أكثر من عشرين عاما التي تبنتها مؤسسات المجتمع المدني البريطانية؛ مما يعني أن عملية التحضير والمتابعة بدأت مبكرا لتمكين جيل جديد من جماعات الإسلام السياسي للاستفادة من أي حالة عدم استقرار في المنطقة العربية.
أما ما هو أبعد من ذلك، فهناك من يعتبر أن علاقة بريطانيا بالجماعات الإسلامية ترتبط بأبعادها المصلحية الجيوسياسية والاستراتيجية، أحد هؤلاء هو مارك كورتيس، الصحافي والمؤرخ البريطاني الذي استعرض خلال كتابه “التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين” عام 2010، سلسلة من الوثائق الحكومية في الفترة بين عامي 2004 – 2006، التي ناقشت ضرورة عمل بريطانيا مع قوى المعارضة الإسلامية وعلى رأسها الإخوان المسلمون.
ومن هذه الوثائق مذكرة مسربة عن وزارتي الداخلية والخارجية حول موضوع العمل مع الجالية الإسلامية في بريطانيا، جاء فيها “أن الحركة الإصلاحية يمكن إرجاعها إلى الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية وهي تتمسك بصحيح الدين لكنها براغماتية”، ويرد الكتاب هندسة هذه السياسة البريطانية إلى أنجوس مكي أحد المسؤولين عن إدارة السياسة الخارجية البريطانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ الذي رأى استعداد هذه الجماعات للعمل مع الغرب إلى جانب ميزتهم التنظيمية والهيكلية التي تفتقدها بقية صفوف المعارضة في العالم العربي.
هناك من يعتبر أن علاقة بريطانيا بالجماعات الإسلامية ترتبط بأبعاد مصلحية جيوسياسية واستراتيجية
لكن لا تبدو هذه العلاقة محصورة في فتح قنوات مع قوى الإسلام السياسي باعتبارها ممثلة للمعارضة في العالم العربي، فبعد أن حقق الإخوان المسلمون فوزا في الانتخابات الرئاسية المصرية أعرب أحد الدبلوماسيين عن توجه الحكومة البريطانية إلى فتح قنوات تواصل سياسية مباشرة مع جماعة الإخوان المسلمين.
ولم تنته هذه العلاقة ولم تتخذ الحكومة البريطانية موقفا مناوئا أو متحفظا من الإخوان بعد سقوط حكمهم عام 2013، وتصاعد تنظيم داعش الإرهابي الذي طالت هجماته بريطانيا نفسها، فبعد ثلاث سنوات من دراسة لندن طلبا تقدمت به الحكومة المصرية لاعتبار الإخوان المسلمين حركة إرهابية، يندرج تحت مظلتها العديد من الجماعات الإرهابية، قدمت الحكومة البريطانية في النهاية “تقريرا سريا” يخلص إلى عدم توفر أدلة على تورط جماعة الإخوان المسلمين بأعمال إرهابية، فضلا عن إعداد لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني تقريرا معقبا على ما جاء في نسخة الحكومة يوصي الأخيرة بدعم حركات الإسلام السياسي في العالم العربي وتحديدا لجهة مشاركتها السياسية ودورها في بناء الديمقراطيات الحديثة.
وتوضح هذه الأمثلة وغيرها، رؤية بريطانيا لما يحدث اليوم في تونس بعد القرارات التنفيذية التي أصدرها الرئيس التونسي قيس سعيد، فأولا وقبل كل شيء تمس هذه القرارات حركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي الذي استطاع بعد عيشه 21 عاما في لندن (1989-2011) أن يقود المشهد السياسي التونسي عقب نجاح الثورة التونسية في 2011 ليقوم بعد تزايد الضغط الدولي والإقليمي على حركات الإسلام السياسي وتنظيم الإخوان المسلمين، باتخاذ خطوة جريئة خلال انعقاد المؤتمر العاشر لحركة النهضة التونسية في مايو 2016، تمثلت في الإعلان عن الخروج من الإسلام السياسي والتحول إلى “مسلمين ديمقراطيين”، وانتهاج أسلوب جديد يعتمد الفصل بين الممارسة السياسية والدعوة الدينية، وتحويل الحركة إلى حزب ديمقراطي مدني.
ثمة من يرى أن خطوة الغنوشي تلك ما هي إلا تكتيك مرحلي لتفادي الضغوط على الإسلام السياسي ومواكبة التوجه العالمي، ومن ثم العودة إلى الأدبيات القديمة، في حين يراها آخرون امتثالا للتجربة التركية في التعامل مع المجتمعات العلمانية التي يعد المجتمع التونسي أحدها، والعمل على أسلمته تدريجيا ضمن خطوات تراكمية، لكن هناك اعتقاد آخر يفيد بأن هذه الخطوة نتاج تطور العلاقة بين الحركة وجهاز استخباراتي عريق، يحرص على ديمومة حركة النهضة بشكلها الجديد وقلبها القديم.
أخيرا؛ يمكن اعتبار سقوط حركة النهضة الأخير في تونس إفشالا لمشروع بريطانيا في تمكين جماعات الإسلام السياسي، الذي وإن لقي قبولا في لندن فإنه لم يلقَ الأمر ذاته لدى الشعوب العربية التي ضاقت ذرعا بتجربة حكم الإسلاميين في تونس، وقبل ذلك إسقاط تجربتهم في حكم مصر بعد مظاهرات 30 يونيو الشعبية. وليس هناك مجال لسرد وتحليل الأخطاء التي ارتكبتها حركة النهضة، وهي أخطاء معروفة للجميع، مقابل إسقاط الضوء على مبدأ إدارة التناقضات في السياسة الخارجية البريطانية من جهة، والبراغماتية المفرطة التي تعتمدها حركات الإسلام السياسي على حساب الصالح العام من جهة أخرى، مستخدمين الدين كوسيلة للتلاعب في المجتمعات والانخراط من خلاله إلى دهاليز السياسة المحلية والخارجية.
فإذا كانت بريطانيا لم تعلن حتى الآن عن موقفها الرسمي حول ما يجري في تونس، إلا أن صحيفة الغارديان استخدمت مصطلح “انقلاب” في حديثها عن الأوضاع التونسية.
وبالمحصلة؛ فإن الموقف الذي ستتخذه بريطانيا اليوم بعد فشل مشروعها المستند على الإسلام السياسي سيحدد المواقف المستقبلية للغرب بشكل عام، وعلى رأسه الولايات المتحدة التي يبدو أنها استفادت من دروسها في الحالة المصرية، بعدم اعتبار ما يحدث في تونس انقلابا وفقا لبيان البيت الأبيض، والذي توافق إلى حد كبير مع مطالب المجتمع التونسي الذي انتفض دفاعا عن قيم الدولة وحمايتها من عبث الأصوليين.
وأخيرا.. وبدل أن تبدد بريطانيا الأموال التي جمعتها من الضرائب المفروضة على البريطانيين، وتنفقها في دعم مشاريع الإسلام السياسي، كان من المفروض أن تفكر جيّدا في كيفية توجيه هذه الأموال نحو التنمية المعرفية، تعلّم بريطانيا العظمى بموجبها شعوب المنطقة العربية عظمة فلسفة جون لوك وآدم سميث وبرتراند رسل، لتكون الأقرب إلى العرب، وتبني علاقاتها مع دول المنطقة عبر جسور المعرفة، وبأن تكون رسالتها التنويرية تتطلب التركيز على الشراكة الاقتصادية والصداقة والسلام وتمكين الشعوب العربية، كي تصبح شريكا فاعلا في محاربة الإرهاب الذي تعاني من خطره الدول الأوروبية كما تعاني منه شعوب الشرق. وليس في دعم الإسلام السياسي الذي شارف على الانقراض في المنطقة العربية.
العرب