الاقتتال والفساد استنساخ للتجربة العراقية في أفغانستان

الاقتتال والفساد استنساخ للتجربة العراقية في أفغانستان

واشنطن – في عام 2011 أنهى الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما أكبر وجود عسكري لبلاده في العراق، لكنه ترك على الأرض فوضى أمنية مستعرة تتكرر اليوم تحت قيادة جو بايدن في أفغانستان التي تعاني بدورها من الانقسامات والفساد والإهمال وسيطرة طالبان على مناطق واسعة من البلاد.

أعاد الوضع الأمني المتدهور في أفغانستان التساؤلات بشأن الاستراتيجية الأميركية المتبعة في هذا البلد الآسيوي الذي غزته الولايات المتحدة قبل نحو عشرين عاما ومازال يعاني من الصراعات والانقسامات والحكومات الضعيفة والمنهكة.

ولم يتوان خبراء ومراقبون طوال السنوات الماضية عن التحذير من مغبة تكرار نفس السيناريو العراقي حين انسحبت القوات الأميركية عام 2011 وتركت عددا محدودا من الجنود، وما لحق ذلك من تداعيات أمنية ساهمت في تأسيس نواة تنظيم الدولة الإسلامية الذي سيطر على مناطق واسعة في العام 2014 بعد سقوط مدينة الموصل وفرار السلطات التي أشرف عليها وقتذاك رئيس الوزراء السابق نوري المالكي.

وترى بعض القراءات أن الفساد والإهمال والمحسوبية التي عاشها العراق منذ غزو عام 2003، يعيشها الأفغانيون اليوم عبر حكومتهم الضعيفة التي باتت عاجزة عن صد هجمات حركة طالبان المتشددة، وجعلت السلطات فيها تعاني من أزمة وجودية في ضوء التطورات الأمنية الأخيرة.

وعلى الرغم من الوعود الأميركية المتواصلة لدعم حكومة كابول إلا أن حركة طالبان تواصل تقدمها في مناطق أفغانية وتركز على الاستيلاء على مدن رئيسية حيث حفزها الانسحاب الأميركي وما تركه من فراغ أمني على شن هجمات لتحقيق مكاسب عسكرية وسياسية في آن واحد.

بدت الاستراتيجية الأميركية تراهن على عديد القوات المحلية الأفغانية في مواجهة التمدد الكبير لطالبان، حيث تفاخر واشنطن بأنها دربت أكثر من 300 ألف جندي أفغاني لـ”حماية استقرار” البلاد، لكن الواقع على الأرض رسم صورة سوداوية بشكل كامل أمام الهزائم العسكرية.

ولم تفلح المراهنة على القوات المحلية في وقف تقدم مسلحي حركة طالبان مثلما حصل في العراق ما بعد ديسمبر 2011 حيث تركت إدارة أوباما في ذلك الوقت البلاد تعاني من انقسامات طائفية وعرقية وتمرد وارتباك سياسي بعد الصراع الطائفي الذي جرى بين عامي 2006 و2007.

وساهم الوضع العراقي في تلك الفترة في تشكيل تنظيم الدولة الإسلامية بصورته التي ظهر عليها حين استولى على مناطق واسعة من العراق وسوريا وتنفيذه هجمات إرهابية طالت أماكن متفرقة في العالم، وهذا ما يحذر منه مسؤولون عسكريون وسياسيون في الولايات المتحدة من تكراره في أفغانستان وتهديد البلدان المجاورة والإقليم بصفة عامة.

ويقول المحلل والباحث السياسي رافي خطاب في تقرير نشرته مجلة “ناشونال إنترست” الأميركية، إن خسارة الكم الهائل من الأراضي الأفغانية لصالح طالبان في غضون ستين يوما فقط من القتال ترسل موجات صادمة في أنحاء العالم، وتذكّر بالفوضى المروعة التي شهدها العراق في العام 2011 حين سحب أوباما القوات من هناك.

سيناريو العراق
يرى خطاب، وهو باحث في الأمن القومي وعمل في أفغانستان، أن الاقتتال السياسي وضعف القيادة وتراكمات الفساد وسوء التخطيط العسكري داخل الحكومة الأفغانية كلها عوامل ساهمت في تحقيق تقدم كبير لحركة طالبان.

وتعاني أفغانستان الآن من ظروف مشابهة لما جرى في العراق في العام 2011 وما بعده، حيث مشكلات الفساد الكبيرة التي يعاني منها الجيش الأفغاني واختلاس جزء من مبالغ مالية خصصتها واشنطن لتسديد رواتب العسكريين، الذي أشار إليه تقرير المفتش العام الخاص لإعادة إعمار أفغانستان جون سوبكر.

ويقول سوبكر إن الاتجاه العام في أفغانستان ليس في مصلحة الحكومة الأفغانية، التي قد تواجه أزمة وجودية في حال لم تنجح في عكس منحى التطورات العسكرية المتسارعة بعد السيطرة الواسعة لطالبان. واعتبر أنه طوال عشرين عاما من الحرب “حدّدنا جداول زمنية غير واقعية في كل ما نقوم به وهذا الأمر يسبب المشاكل الحالية التي يعاني منها الجيش الأفغاني”.

كانت نفس الهيئة الرقابية الأميركية قد حذرت في العام 2018 من أن قوات الأمن الأفغانية لا تقوم بتعزيز سيطرتها في البلد الذي تمزقه الحرب، وأن الحكومة في كابول غير مكترثة بالتصدي للفساد المستشري. وهي نفس الاتهامات التي واجهتها الحكومة العراقية في فترة الإعلان عن سحب آخر جندي أميركي في ديسمبر 2011. وتبقي الولايات المتحدة على عدد محدود من الجنود في العراق.

ويبدو الخبراء حاسمين في استنتاجاتهم حول أسباب الإخفاق الأميركي بعد عشرين عاما، مشيرين إلى الأكاذيب وغرور الجنرالات والاستراتيجيات القصيرة المدى والأهداف غير الواقعية.

ويرى سوبكر في رسالة انفعالية الوضع القائم في أفغانستان على أنه كان لدى الولايات المتحدة “الغرور للاعتقاد بأننا نستطيع أن نأخذ هذا البلد الذي كان في حالة خراب في 2001 ونجعله نرويجا صغيرة”.

وأضاف سوبكر المكلف منذ 2012 من قبل الكونغرس مراقبة استخدام الأموال الأميركية في هذه الحرب “وصلنا إلى أفغانستان بفكرة تشكيل حكومة مركزية قوية وكان ذلك خطأ”. وأعرب عن أسفه لأن الخبراء كانوا يعرفون أن هذا البلد ليس مناسبا لبنية حكومية من هذا النوع لكن “لم يستمع إليهم أحد”.

وأضاف أن الجنرالات المتعاقبين في أفغانستان وضعوا أهدافا قصيرة المدى ليتمكنوا من إعلان نجاحهم عند مغادرتهم بعد عامين أو ثلاثة أعوام، بينما كان يجب تخصيص وقت لجهود إعادة الإعمار مع الاهتمام بالتحديات اللوجستية التي يشكلها هذا البلد الذي يحصل ثلاثون في المئة فقط من سكانه على الكهرباء طوال اليوم. واتهم المفتش العام الجنرالات بإخفاء حجم المشاكل.

وقال سوبكر “في كل مرة كنا نذهب فيها إلى هذا البلد، كان العسكريون يغيّرون أهدافهم لتسهيل إعلان نجاح”. وأضاف “عندما لم يعودوا قادرين على فعل ذلك، فرضوا السرية الدفاعية على الأهداف”.

وتابع أنهم “يعرفون إلى أي حد كان الجيش الأفغاني سيئا”، موضحا أن الذين يستطيعون الإطلاع على الوثائق الخاضعة للسرية الدفاعية يعرفون ذلك أيضا “لكن المواطن الأميركي العادي ودافع الضرائب العادي والمسؤول المنتخب العادي والدبلوماسي العادي لا يستطيعون أن يعرفوا”.

ويقول كارتر مالكاسيان، المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية والذي نشر مؤخرا كتابا عن تاريخ الحرب في أفغانستان، “لا شك إطلاقا في أننا خسرنا الحرب”. ورأى هذا الخبير، الذي نصح رئيس الأركان السابق جوزف دانفورد، أن طالبان برهنت على إرادتها في محاربة الغزاة، بينما بدا أن الجيش الأفغاني “مباع” للأجانب.

وكتب مالكاسيان في كتابه أن “مجرد وجود أميركيين في أفغانستان ينتهك فكرة هوية أفغانية تستند إلى كرامة وطنية وتاريخ طويل من محاربة الغزاة والتزام ديني بالدفاع عن الوطن”.

وأضاف “كنا نعتقد أن بعض الأمور كانت ممكنة في أفغانستان: هزيمة طالبان أو السماح للحكومة الأفغانية بان تستقل.. لكن الأمر لم يكن كذلك.. عناصر الشرطة والجنود لم يرغبوا في المجازفة بحياتهم من أجل حكومة فاسدة تميل إلى إهمالهم”.

يشير تقرير حديث للمنظمة غير الحكومية هيومن رايتس ووتش إلى أنه عبر عدم الاهتمام بشكل كاف بالضحايا المدنيين لغارات جوية أو الانتهاكات التي يرتكبها أمراء حرب متحالفون مع الغرب، أثار التحالف غضب الشعب الأفغاني.

ورأت المنظمة أن “ميل واشنطن إلى إعطاء الأولوية للمكاسب العسكرية في أمد قصير بدلا من بناء مؤسسات ديمقراطية أو حماية حقوق الإنسان، وجه ضربة قاضية للمهمة الأميركية وكل جهود إعادة الإعمار بعد 2001”.

وتابعت أن “استياء السكان وانعدام ثقتهم في الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية، سمحا لطالبان بتحقيق مكاسب”.

ورأى جون سوبكر أن الولايات المتحدة تصرفت في أفغانستان كما فعلت في العراق وكما فعلت في فيتنام. وقال “لا تصدق الجنرالات أو السفراء أو مسؤولو الإدارة الذين يقولون: لن نفعل ذلك بعد الآن”، مشيرا إلى أن “هذا بالضبط ما قلناه بعد فيتنام: لن نفعل ذلك مرة أخرى، والمفاجأة أننا فعلنا ذلك في العراق وفعلنا ذلك في أفغانستان.. وسنفعل ذلك مرة أخرى”.

العرب