نظراً لمواجهة الديمقراطية الهشة في تونس أخطر اختبار لها منذ ما يقرب من عقد من الزمان، يجب على واشنطن معارضة أي مركزية غير دستورية للسلطة، وحث الرئيس سعيد على توضيح خارطة الطريق الخاصة به لإنهاء المأزق، والنظر في تقديم مساعدات اقتصادية وطبية إضافية.
في 25 تموز/يوليو، وبعد يوم من المظاهرات المناهضة للحكومة في جميع أنحاء تونس، أبلغ الرئيس التونسي قيس سعيد شعبه أنه سيقيل رئيس الوزراء هشام المشيشي، ويجمّد مجلس النواب لمدة ثلاثين يوماً، ويرفع الحصانة عن جميع أعضاء البرلمان، ويتولى السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة جديد يعيّنه بنفسه. ووفقاً لسعيد، كانت هذه الإجراءات الاستثنائية مطلوبة بسبب الوضع الكئيب للبلاد وكانت متوافقة تماماً مع الدستور. وفي اليوم التالي، أغلق الجيش مدخل مجلس النواب. ورداً على ذلك، انضمّ رئيس البرلمان راشد الغنوشي – الذي يرأس الحزب الإسلامي الرئيسي، “النهضة” – إلى زملائه المشرعين خارج المبنى لعقد جلسة برلمانية عبر الفيديو. ومن ثم، أعلنوا رفضهم القاطع للخطوات التي اتخذها سعيد.
ويبدو أن الرئيس التونسي لا يُبالي في الوقت الحالي، حيث أقال وزراء الداخلية والعدل والدفاع وأصدر قراراً بوقف العمل في كافة الإدارات العامة باستثناء الجيش والأجهزة الأمنية والخدمات الصحية والمدارس. وتضع هذه التطورات المفاجئة النظام التونسي الديمقراطي الهش تحت ضغط هائل، ومن المرجح أن تحدّد الأيام المقبلة ما إذا كانت البلاد تتجه نحو تغيير مؤقت في العملية الانتقالية الديمقراطية التي تشهدها، أو ترسيخ أكبر للسلطة، أو العنف.
أزمة في السياق
تُعتبر الأزمة الحالية نتاج تقارب ثلاث روايات رئيسية. الأولى ذات طبيعة اقتصادية تكشفت معالمها منذ الإطاحة بالرئيس المستبد زين العابدين بن علي في عام 2011. فقد أدت سلسلة من الهجمات الإرهابية خلال السنوات اللاحقة إلى تدمير قطاع السياحة، الذي كان يمثل تقليدياً حوالي 10 في المائة من “الناتج المحلي الإجمالي” للبلاد. وفي غضون ذلك، أدت أوجه القصور الهيكلية المستمرة منذ عقود إلى تضخم القطاع العام، وعندما اقترح المسؤولون تقليصه لتحرير الأموال من أجل استخدامها في نفقات أخرى، ساهم اتحاد عمالي نافذ في رفض التخفيضات الكبيرة. ورغم التضخم، بقي معدل البطالة الإجمالي مرتفعاً إلى حدّ كبير، خاصة بين الشباب. وتفاقم الوضع بسبب الآفاق الاقتصادية المتباطئة في أوروبا (التي ترسل إليها تونس ما يقرب من 70 في المائة من صادراتها)، وجائحة فيروس “كورونا”. وبحلول أواخر عام 2020، بلغ معدل البطالة رسمياً 17 في المائة (36 في المائة بين الشباب)، ووفقاً لحسابات الحكومة فإنها ستحتاج إلى 6.9 مليار دولار في شكل قروض لمجرد تمويل العجز المتوقع في 2021. ورداً على هذه المشاكل المتزايدة، اندلعت الاحتجاجات مراراً وتكراراً على مر السنين، لتعكس سخطاً واسع الانتشار إزاء الاقتصاد المتهالك وعجز الحكومة الواضح عن وقف النزيف.
أما الرواية الثانية فهي ذات طبيعة سياسية بدأت مع معركة سياسية مريرة بين الإسلاميين وجماعات علمانية في الفترة 2011-2013. وتطلَّب تسوية ذلك النزاع تنازلات صعبة تم ترسيخها لاحقاً في دستور عام 2014، الذي يُعتبر إلى حدّ بعيد الميثاق الأكثر تقدماً في العالم العربي من حيث الحريات الفردية وغيرها من الأسس الأساسية للديمقراطية. ومع ذلك، حتى عندما منح الدستور صلاحيات واسعة لمجلس النواب المنتخب، إلا أنه احتفظ أيضاً بمسؤوليات أساسية للرئاسة، التي كانت في السابق المؤسسة الحاكمة الوحيدة. وفي نهاية المطاف، أدّى هذا النظام الهجين إلى قيام توترات شبه دائمة بين رؤساء الجمهورية ورؤساء الوزراء.
وفي البداية، فإن التركيز ما بعد الثورة على التوافق السياسي والتسوية كان له الفضل في الحفاظ على السلام الاجتماعي وتسهيل العملية الانتقالية بعيداً عن النظام الاستبدادي. ولكن في السنوات الأخيرة، أصبح التوافق قوة معطّلة، مما جعل معظم الأحزاب السياسية ضعيفة، وذات طابع شخصي للغاية، وعاجزة عن اتخاذ قرارات سياسية جريئة. وحتى أن “حركة النهضة”، أقوى حزب مؤسسي في البلاد، شهدت اضطرابات داخلية في الآونة الأخيرة، حيث اتهم البعض الغنوشي برفض إفساح المجال أمام قيادة جديدة وتجاوز حدوده من خلال الترشح لمنصب رئيس مجلس النواب.
وكانت الآثار الصافية لهذا التدهور واقعية: استقطابات شديدة في أوساط الناخبين والطبقة السياسية؛ وشبه الجمود الكامل في مجلس النواب؛ وخيبة أمل عامة واسعة النطاق من الأحزاب السياسية؛ وخلاف متصاعد بين سعيد والمشيشي. كما أدى عدم قدرة المشرعين على الحكم إلى تأخير إنشاء مؤسسات رئيسية، وأبرزها المحكمة الدستورية. وتخوّل المادة 80 من الدستور الرئيس سلطة اتخاذ إجراءات استثنائية في حال بروز تهديد أمني وشيك أو “خطر… يعيق سير العمل بصورة طبيعية في مؤسسات الدولة”، لكنها تشترط أن يبلّغ رئيس الجمهورية رئيس المحكمة الدستورية، من بين سلطات أخرى، بالتدابير. بالإضافة إلى ذلك، تحظر المادة على الرئيس وقف الأنشطة البرلمانية خلال هذه الأزمة، وتفرض أن تنظر المحكمة في الأمر بعد ثلاثين يوماً لتحديد قانونية استمرار حالة الطوارئ.
وكونه أستاذاً سابقاً في القانون الدستوري، يعرف سعيد تماماً [تفاصيل] المادة 80. ومع ذلك فهو أيضاً مستقل ويتمتع بخصائص شعبية قوية وليس لديه خبرة سياسية سابقة، لذلك ربما يراهن على أن مشاعر مؤيديه المناهضة لمؤسسات الدولة وكرههم للأحزاب سيحميانه من التفسيرات الملتبسة للقانون.
وتتمثل الرواية الثالثة في مأساة الصحة العامة. فقد أدى فيروس “كورونا” إلى انهيار نظام الرعاية الصحية في تونس تقريباً – حيث أبلغت مستشفياتها عن نفاد الأوكسجين، وأصبح معدل الوفيات حالياً بسبب الفيروس ثاني أعلى معدل في العالم، وتم تطعيم 6 بالمائة فقط من سكان البلاد البالغ عددهم 11 مليوناً. وقام المشيشي مؤخراً بإقالة وزير الصحة وسط تفاقم الأزمة الطبية، ولكن فقط بعد أن تم التقاط صور لرئيس الوزراء نفسه والعديد من أعضاء مجلس الوزراء الآخرين أثناء إجازتهم في منتجع سياحي بدلاً من الاجتماع لمواجهة الجائحة (كانوا قد زعموا أنهم لا يستطيعون الاجتماع كما هو مخطط بسبب القيود المتعلقة بالفيروسات). وفي ذلك الوقت، مهّد الرئيس سعيد بوضوح لإعلانه الصادر في 25 تموز/يوليو من خلال إصداره أوامر للجيش بتولي إدارة التصدي للوباء.
ويُعتبر الجيش التونسي الذي يضم ما يقرب من 50,000 جندي مؤسسة صغيرة بل محترفة تجنبت عموماً النشاط السياسي، ويبدو أنها تستجيب حالياً لأوامر الرئيس سعيد، كما تشهد المواجهة التي وقعت في 26 تموز/يوليو خارج مجلس النواب. ومع ذلك، لطالما ركز الجيش على ضبط الحدود وعمليات مكافحة الإرهاب، لذلك قد لا يكون مجهزاً للتعامل مع الاضطرابات الداخلية الخطيرة. ومن المرجح أن تقع هذه المهمة على عاتق وزارة الداخلية، التي لها صلاحيات على مجموعة أكبر بكثير من وحدات الشرطة وقوات الأمن المحلية الأخرى. يبقى أن نرى ما إذا كان سعيد سيستمر في التمتع بطاعة هذه المؤسسات.
كيف يجب أن تستجيب واشنطن
فيما يتخطى الرمزية المأساوية لانهيار النظام الديمقراطي الوحيد في المنطقة، قد يكون عدم الاستقرار الشديد في تونس بمثابة نعمة للجهات الفاعلة السيئة في ليبيا والجزائر ودول أخرى التي تتوق إلى غزو البلاد وبالتالي تعريض حلفاء الولايات المتحدة للخطر – ليس فقط الشعب التونسي، بل شركاء عبر البحر الأبيض المتوسط في أوروبا. ولذلك، من مصلحة واشنطن مساعدة تونس على ضمان استقرار تجربتها الديمقراطية. وقد أصدرت إدارة بايدن والكونغرس، وبحق، بيانات واضحة تحث المسؤولين التونسيين على احترام الدستور ودعم المكاسب الديمقراطية التي حققتها الدولة. والآن، على فريق بايدن الضغط على الرئيس سعيد لتوضيح خارطة الطريق التي وضعها لإنهاء الأزمة بسرعة. ومن شأن تعيين وزراء جدد أن تكون خطوة أولى مهمة في هذا الصدد.
وبالنظر إلى الظروف الاقتصادية والصحية التي تؤجج الأزمة، على واشنطن أيضاً النظر في اتخاذ تدابير تهدف إلى تعزيز قدرة تونس على الصمود في هذين القطاعين. وقبل إقالته، كان المشيشي في خضم مفاوضات مع “صندوق النقد الدولي” حول حزمة قرض بقيمة 4 مليارات دولار، وكان تأمين هذا القرض – مع جميع الإصلاحات المصاحبة التي يتطلبها – أمراً بالغ الأهمية لضمان عدم معاناة البلاد من انخفاض آخر في تصنيفها الإئتماني. وبناءً على ذلك، على واشنطن أن تسهّل إقرار القرض وسط إبلاغ سعيد في المجالس الخاصة بأن صرف الأموال سيتوقف على وضعه خارطة طريق ديمقراطية بصورة واضحة. وعلى الصعيد الطبي، قدمت الولايات المتحدة لتونس 36 مليون دولار من المساعدات المتعلقة بـ “كوفيد-19” منذ آذار/مارس 2020، إلى جانب500,000 لقاح من خلال برنامج “كوفاكس” وأكثر من مليون لتر من الأوكسجين لوزارة الصحة. ومع ذلك على إدارة بايدن مواصلة البحث عن وسائل لإرسال إمدادات طبية إضافية إلى الدولة التي تُعاني من هذه الصعوبات. وفي إطار كافة هذه الجهود، يجب على واشنطن أن تنسق مع الحلفاء الأوروبيين الذين يتشاركون مصلحة قوية في رؤية العملية الديمقراطية تنجح في تونس.
سارة فوير
معهد واشنطن