باعتبار أن لا خلاص للعراقيين من نير الاحتلال الإيراني الذي أفقرهم، وهيمنَ على مؤسسات دولتهم، وسلط عليهم سلاح ميليشياته الوقحة، ونهب ثرواتهم، وأذلهم وحرمهم من الحياة الآمنة، فقد تمنوا أن يكون تنصيب إبراهيم رئيسي رئيسا للجمهورية، وهو المصنَّف أوروبياً وأميركياً وإسرائيليا وعالميا بأنه قاتل وتنبغي محاكمته على ما ارتكبه من جرائم ضد الانسانية، وبالتزامن مع هجمات القرصنة الجديدة التي دشن بها عهده الشرير ضد السفن التجارية الغربية في الخليج العربي وخليج عمان، أن تعمد بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل ودول الخليج العربية هذه المرة إلى توجيه ضربة عسكرية تقصم ظهر نظامه، وتضع نهايةً لإرهابه، وتعيده إلى داخل حدوده، خصوصا مع تأكيد وزير الخارجية الإسرائيلي أن إيران على بعد عشرة أسابيع من صنع سلاح نووي.
ورغم أن تجارب ثماني عشرة سنة أقنعتهم بأن الولايات المتحدة التي غزت بلادهم لإسقاط نظام دكتاتوري خطِرٍ على أمن العالم ومصالحه الحيوية تحالفت مع نظام لم يخلق مثله في التخلف والعدوانية والدموية والإرهاب وسلمته بلادهم وكراماتهم وثرواتهم، إلا أنهم اعتقدوا، أخيراً، بأن صبرها وصبر حلفائها قد نفد، وصار لازما أن تُكفر عن ذنبها العظيم، وتعيد السلم والأمن إلى شعوب المنطقة والعالم، لتريح وتستريح.
على العراقيين أن يتوقعوا أياما أكثر تجويعا وإذلالا، وأوسع نهباً وتهريباً لأموالهم وثرواتهم، باعتبار أن العراق كان وسيبقى الضرع المغذي الأفضل والأقدر على إسعاف الحكومة الإيرانية الجديدة
كما حلموا بأن تخلق الضربة المنتظرة المُتمنّاة بيئةً عراقية شعبيةً ثورية ملائمة تجعلهم أقدر على مداهمة الميليشيات الولائية، ونزع سلاحها، واستعادة هيبة الدولة وسلطة القانون، وامتلاك حريتهم المصادرة ووحدة بلادهم من جديد.
ولكن التصريحات المشجعة التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والتي قال فيها إن الرد على استهداف إيران للناقلة التجارية في بحر العرب سيكون “جماعيا”، أفرغتها وزارة الخارجية الأميركية في نفس اليوم من مضمونها حين أعلنت أن “الولايات المتحدة تأمل في أن تنتهز إيران الفرصة لحلٍ دبلوماسي في الملف النووي، وأن عليها أن تتصرف على هذا النحو”.
وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس للصحافيين إن “رسالتنا إلى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي هي نفس رسالتنا إلى أسلافه، وهي بسيطة جداً: الولايات المتحدة ستدافع عن مصالح أمنها القومي ومصالح شركائها وتعززها”، ثم حثّه على “العودة سريعاً إلى طاولة المفاوضات إذا كان صادقاً في عزمه على التوصل إلى رفع العقوبات”.
كما أن وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب قال إنه بحث هاتفياً مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ضرورة وقف إيران “لسلوكها المزعزع للاستقرار”، ولكنه طالب مجلس الأمن الدولي بالرد على “تصرفات إيران المزعزعة للاستقرار وعدم احترام القانون الدولي”، تماما كما كان العاجزون العرب يفعلون في أعقاب كل عدوان إسرائيلي على مدى أكثر من أربعين سنة.
وحتى وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس هو الآخر لجأ إلى الأمم المتحدة، مطالبا بأن (يضع) المجتمعُ الدولي “حدوداً لإيران لكي تتوقف عن سلوكها العدواني”.
يعني أن الأميركيين والبريطانيين والإسرائيليين وباقي الحلفاء مكتفون اليوم كما كانوا في السنين الأربعين الماضية بالتهديد المخفف المخلوط بالدعوة إلى الصلح، وإلى مقولة عفا الله عما سلف.
وفي ضوء كل هذه الإشارات المحبطة المقصودة تَزايَد إحباطُ العراقيين، وتجددت شكوكهم القديمة بدول أوروبا والولايات المتحدة، فغسلوا أيديهم منها بالماء والصابون.
وشاركهم في ذلك من الإيرانيين أنفسِهم رضا بهلوي ابن الشاه محمد رضا بهلوي، معلنا أنه أصبح أكثر اقتناعا بأن الدول الغربية الأوروبية والولايات المتحدة لا تنوي معاقبة المعممين الإيرانيين الجلادين.
فقد أعلن أن “الديمقراطيّات الغربية تطعن الناس في الظهر”، مستدلا على ذلك برفضها مقاطعة الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي وبإرسالها مندوباً عنها لحضور تنصيبه، رغم إقرارها المعلن بأنه “جزار ومجرم وستتمّ محاكمته يومًا ما لارتكابه جرائم ضدّ الإنسانيّة”، معتبرا مشاركة الاتحاد الأوروبي في مراسم تنصيب رئيسي خطوةً يمكن أن تمنحه “شرعيّة لا يستحقّها”.
وقال إن “النظام منقسم وهشّ وعلى حافة الهاوية، ولكن إذا ألقينا له طوق نجاة فسيلتقط أنفاسه، ويعيش لفترة أطول قليلاً”.
إذن فالمنطقة لن تشهد حربا من أي نوع وبأي حجم، لأن الولايات المتحدة لا تريدها، ولأنها لن تسمح لحليفتها إسرائيل بأكثر من بضع عمليات عسكرية محدودة محتملة من باب رفع العتب، وستمنعها من توجيه ضربات انتقامية موجعة تهدد بقاء النظام الإيراني، بحق، وذلك خوفا منها من أن تدفع هذه الضربات بالنظام أكثر إلى الحضن الصيني، وأملا في استدراجه ليعود إلى طاولة مفاوضات فيينا من جديد.
برغم أنها تعلم أن رئيسي أحوج ما يكون إلى هذه الهدنة ليتفرغ لـ”تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي للإيرانيين” الذين وعدهم خلال خطاب التنصيب، قائلا “وضعنا خطة تطور فورية وقصيرة المدى”، و”أؤكد للشعب أن المشكلات محددة، ومخطط لها جيدًا، وستتمّ متابعتها على الفور”.
ومن هنا تحديداً يمكن التنبؤ ببقاء الحال على حاله في العراق وسوريا واليمن وعموم المنطقة، ويصبح سهلا رؤية شكل العلاقة الإيرانية مع العراق، في الفترة القادمة.
العراقيون حلموا بأن تخلق الضربة المنتظرة المُتمنّاة بيئةً عراقية شعبيةً ثورية ملائمة تجعلهم أقدر على مداهمة الميليشيات الولائية، ونزع سلاحها، واستعادة هيبة الدولة وسلطة القانون، وامتلاك حريتهم المصادرة
وحين يعبر رئيسي في لقائه مع الرئيس برهم صالح عن “تطلع بلاده لتعزيز العلاقات الثنائية مع العراق في مختلف القطاعات”، وحين يجدد حرصه على “علاقات مهمة ومميزة اجتماعية ودينية وثقافية”، ويعد بـ”دعم الجمهورية الإسلامية في إيران لأمن واستقرار العراق وشعبه” فهذا يعني أن على العراقيين أن يتوقعوا أياما أكثر تجويعا وإذلالا، وأوسع نهباً وتهريباً لأموالهم وثرواتهم، باعتبار أن العراق كان وسيبقى الضرع المغذي الأفضل والأقدر على إسعاف الحكومة الإيرانية الجديدة، وإعانتها على معالجة الأوضاع الاقتصادية والأمنية المعقدة في إيران.
يقول كبير المستشارين العسكريين للمرشد الإيراني اللواء يحيى رحيم صفوي، علناً وبلا حرج، إن “تدخل إيران في سوريا والعراق لم يكن مجاناً، بل إنه بثمنٍ مالي (…) ففي كل مرة كنا نساعد فيها العراقيين، نحصل على المال بالدولارات (…) نحن نساعد كل بلد مسلم وغير مسلم يريد ذلك، لكننا نقبض الأموال مقابل ذلك”.
ونقلَ عنه موقع إيران إنترناشيونال قولَه “أعطينا فنزويلا البنزين واستلمنا مقابلَه سبائك ذهبية وجلبناها بالطائرة كي لا تحدث مشكلة في الطريق”.
إذن، فادّعاء نظام الولي الفقيه بأنه “يريد إخراج القوات الأميركية من العراق دفاعا عن السيادة الوطنية وعن حقوق الحكومة العراقية”، كذبٌ ونفاق. وحتى موعدٍ مؤجَّلٍ بعيد.
العرب