ليس بمقدور أميركا اختراع دول على صورتها

ليس بمقدور أميركا اختراع دول على صورتها

فتح انهيار الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان ما يمكن تسميته بعالم النوافذ المكسورة التي تسببت بها الولايات المتحدة على مدار عقدين، وفتح الباب أمام تحليلات جادة تنبه مصدر القرار الأميركي على فشل اختراع دول على شاكلتها كما حدث في العراق وأفغانستان، مثلما كشف أيضا افتقاد الولايات المتحدة إلى الصبر الاستراتيجي كعامل قوة مضاف لقوتها العسكرية.

لندن – أضاف بول بريمر الحاكم الأميركي للعراق إبان احتلال عام 2003، كوميديا فجة على التراجيديا الأفغانية المستمرة، برفضه بشكل مطلق مقارنة العراق بأفغانستان، تحت ذريعة أن العراق بلد مستمر في النجاح السياسي المطرد.

وتذرع بريمر في مقال مشترك بصحيفة وول ستريت جورنال، بفخر قيام القوات الأميركية بحل الجيش العراقي الوطني واصفا إياه بـ”الطائفي” عندما يتعلق الأمر بالشيعة والأكراد.

ويصعب توقع أن بول بريمر وهو يطرح القضية الخطأ لم يشاهد أداء قسم ضباط الجيش الجديد الذي تأسس بعد احتلال العراق، في العتبات الشيعية بدلا من الكليات العسكرية. ومن العبث أيضا اعتبار وصف بريمر للجيش العراقي الوطني السابق جيشا طائفيا، تعبيرا يستحق وضعه تحت مجهر التحليل الجدي.

ووصف الحاكم الأميركي السابق العراق بأنه أكثر أهمية من أفغانستان، متوقعا أن تكون لديه القدرة على أن يكون نموذجا ديمقراطيا في المنطقة وشريكا مفيدا للولايات المتحدة.

ويمتلك بريمر مثل الرئيس جورج بوش الابن ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد الذريعة نفسها في ذهابهم إلى العراق لنقل “الحلم الأميركي” لكن العراقيين والأفغان يعيشون منذ ما يقارب العقدين “الكابوس الأميركي” وكلام بريمر الفارغ لا يغير العمى السياسي إلى جنة ديمقراطية وفق مبدأ الحرب تجلب الحرية
التي روج لها.

وسبق وأن كشفت لنا الابتسامة الواسعة “تكاد تصبح ضحكة مخنوقة” لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير وهو يستقبل جلال الطالباني الرئيس العراقي آنذاك في 10 داونينغ ستريت، العمى السياسي مبكرا. فبينما كان الصحافيون يبحثون عن إجابة واقعية للجحيم على الضفة الأخرى في العراق بعد احتلاله، كان الطالباني يرد عليهم “العراق دولة ديمقراطية اليوم”! ابتسامة بلير الواسعة على ديمقراطية الطالباني لم تغير من خطوط الوجوم على وجوه صحافيي مبنى الحكومة البريطانية عن “العراق الديمقراطي”.

في الجانب الآخر من العالم استطاع نيك روبنسون الصحافي البارع ورئيس تحرير الشؤون الخارجية في هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” أن يحصل على الإجابة الأكثر طلبا باعتراف الرئيس جورج بوش الابن بأنه يعرف مدى سوء الأوضاع في العراق!

وتُكرر ثنائية الحلم الأميركي والكابوس العراقي الأفغاني، في كلام بعض المسؤولين الأميركيين بذرائع فارغة، حقيقة الفشل الأميركي في صناعة نماذج في دول تحتلها بمسوغ محاربة الإرهاب وإسقاط الدكتاتورية وجلب الحرية والديمقراطية للشعوب.

ويرى بول روجرز الأستاذ الفخري لدراسات السلام بجامعة برادفورد أن الحرب في أفغانستان برمتها هي فشل ذريع، ولكن أهميتها تكمن في أنها كانت مجرد حرب أولى من أربع حروب فاشلة، في إشارة إلى حروب أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا.

وتعيش هذه الدول الأربع ما يمكن تسميته بـ”عالم النوافذ المكسورة” في توصيف لتحطم الدولة وتشرد الشعب وانهيار البنى التحتية وسيطرة لوبيات الفساد على السلطة.

وكتب روجرز في صحيفة الغارديان “الحرب الفاشلة الثانية، كانت حرب احتلال العراق التي كانت عواقبها وخيمة، والتي قُتل فيها مئات الآلاف من الأشخاص معظمهم من المدنيين، وشُرد الملايين من العراقيين”.

وتجمع كل القراءات السياسية على أن الفشل في أفغانستان والعراق يؤكد أن الولايات المتحدة لا يمكن لها اختراع دول أخرى على صورتها.

وتتفق غالبية التحليلات في مراكز البحوث والصحافة الأميركية والبريطانية على أن سقوط كابول بيد طالبان سيكون فرصة ضائعة أخرى لتعلم الدروس.

وعبر المحلل كيشور محبوباني، الأستاذ في معهد الأبحاث الآسيوية بجامعة سنغافورة، عن دهشته من عدم تعلم الولايات المتحدة أي دروس قيمة من أدوارها الناجحة سابقا.

وكتب محبوباني، مؤلف كتاب “هل فازت الصين – التحدي الصيني للسيادة الأميركية”، بتقرير له في فورين بوليسي “من المدهش أن الولايات المتحدة لم تتعلم أي دروس قيمة من وظائفها الأكثر نجاحا في الخارج. بعد استسلام اليابان في عام 1945، كان قرارا رائعا إبقاء الإمبراطور الياباني آنذاك هيروهيتو على العرش بدلاً من محاكمته كمجرم حرب، وهو ما كان يمكن للولايات المتحدة أن تفعله. لقد أعطى استمراره في المنصب لليابانيين تأكيدا على احترام ثقافتهم”.

وأضاف “أظهر الأميركيون المنتشرون في أفغانستان لإعادة بناء النظام السياسي الأفغاني احتراما ضئيلا للثقافة الأفغانية”.

نسرين مالك: الحرب حولت حياة شعوب إلى مجرد علف لإنتاج عناوين الصحف

ويرحب أغلب الأميركيين بعدم ذهاب قوات بلادهم إلى ميادين الحروب في البلدان البعيدة عنهم والمختلفة ثقافيا وتاريخيا، فلا مصلحة للأميركيين في فرض “الديمقراطية الهجينة” على بلدان لا ترحب بها.

وذهبت بعض القراءات إلى أن الرئيس جو بايدن سيكون فعلَ الشيء الصحيح بسحب قوات بلاده من أفغانستان، لكن ليس بالطريقة السيئة التي عرت هزيمة الولايات المتحدة، مثلما سلمت الأفغان إلى حركة إرهابية متشددة.

وعزت قراءات تحليلية أميركية الهزيمة الشنيعة في أفغانستان إلى افتقاد السياسيين الأميركيين إلى الصبر الاستراتيجي، باعتباره نقطة قوة مع نقاط التفوق العسكري.وتتفق مراكز الأبحاث الاستراتيجية على أن القوة الهائلة للولايات المتحدة هي أكبر أصولها، لكن سوء التقدير والغطرسة التي مثلتها سياسة جورج بوش المندفع في العراق وسوء تقدير جو بايدن المنسحب من أفغانستان حولت تلك القوة إلى أكبر نقاط ضعف الولايات المتحدة. بيد أن واشنطن مع تلك القوة العسكرية الجبارة لا يمكن أن تتعرض لأي ضغوط لتقديم تنازلات.

ولم تتوقع كل التقارير الاستخبارية التي وضعت على طاولة الرئيس في البيت الأبيض سقوط كابول بأيدي طالبان بتلك السرعة المذهلة، فأغلب القراءات كانت ترجح صمود العاصمة والحكومة الأفغانية أكثر من سنة على الأقل بعد اجتياح طالبان للمدن الأخرى.

وتثير صورة الغطرسة الأميركية السابقة بإذلال الشعوب عند احتلالها كما حصل في العراق من الفلوجة إلى سجن أبوغريب، معادلا لعدم الكفاءة في قراءة التداعيات بشكل صحيح وخيانة للأفغان الذين عملوا مع القوات الأميركية والتخلي عنهم.

وسبق وأن اعتبر المؤرخ وأستاذ تاريخ الحروب في جامعة أوكسفورد مايكل هوارد أن عبارة “الحرب على الإرهاب” منحت “الإرهابيين وضعا يسعون إليه ولا يستحقونه”.

واعتبرت المعلقة السياسية في صحيفة الغارديان نسرين مالك أن الحرب على الإرهاب حولت حياة شعوب دول إلى مجرد “علف لإنتاج عناوين عريضة في الصحف الأميركية تحيي قوة القادة الغربيين وعملهم السريع وعزمهم”.

ويفتقد السياسيون الأميركيون والبريطانيون على حد سواء الشجاعة للاعتراف بما جرى على مرأى من الجميع في أفغانستان والعراق.

غالبية التحليلات في مركز البحوث الغربية تتفق على أن سقوط كابول بيد طالبان سيكون فرصة ضائعة أخرى لتعلم الدروس

وكان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن قد رفض أيّ مقارنة بين الوضع الراهن في كابول وسقوط سايغون عام 1975، بتأكيده أن الولايات المتحدة “حققت أهداف” الحرب في أفغانستان.

وقال بلينكن “هذه ليست سايغون. لقد دخلنا أفغانستان قبل عشرين عاما في مهمة هدفها تصفية حسابات مع من هاجمونا في الحادي عشر من سبتمبر. لقد أنجزنا هذه المهمة”.

إلا أن المحلل السياسي البريطاني ماثيو باريس وصف ما حدث بـ”الحقيقة الحزينة” فكل الذين قتلوا في أفغانستان من الجنود الأميركيين والبريطانيين ذهبوا سدى.

وقال باريس الذي يعد من بين الأكثر معرفة بالبيئة السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط إن القوات البريطانية “أخفقت في أفغانستان، فعلى مدار ما يقرب من عقدين من الزمن عززنا الفشل الواضح، حيث افتقرنا إلى العقل”.

وأضاف باريس الذي يعد من بين كبار كتاب الأعمدة في صحيفة التايمز البريطانية “على عكس ما يقوله بعض كبار العسكريين، يمكن أن تكمن الشجاعة في الاعتراف بالفشل، وليس من الشجاعة دائما مضاعفة الأرواح المهدرة”.

وأوضح أن عبارة “نحن مدينون للذين قتلوا، هي حجة وستجعل التراجع عن أي جانب مستحيلا. نحن مدينون للأحياء وليس للأموات، ولتقليل خسائرك يتطلب الأمر رباطة جأش أكثر من مضاعفة هذه الخسائر”.

فشل ام نجاح الاحتلال

وتكاد تختصر المعلقة السياسية الأميركية كاثلين باركر قصة الفشل الأميركي منذ احتلال العراق حتى ترك أفغانستان بجملة إن الولايات المتحدة لا يمكن لها أن تخترع دولا على صورتها بذريعة نشر الديمقراطية.

وتُذكّر باركر الرئيس الأميركي باستعاراته السابقة من الشاعر الأيرلندي ويليام بتلر ييتس، وكان آخرها عند استقباله العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، وتتساءل عما إذا كانت قصائد شاعره المحبوب تبادرت إلى ذهنه في وقت سقوط كابول بجحيم طالبان؟

لقد كتب ييتس ما يعبر عن السقوط الأميركي، وكان يفترض ببايدن أن يعود له مثلما فعل من قبل في مرات عدة، فقد كتب هذا الشاعر قبل عقود عن الظلام الذي يسقط على رمال الصحراء و”الوحش القاسي” المترهل مع “نظرة فارغة لا ترحم مثل الشمس”، يمكن أن يكون هذا الوصف معبرا بامتياز عن الفوضى التي حلت على البلدان بسبب الأخطاء الأميركية.

العرب