الملا عبدالغني برادر وجه طالبان 2021

الملا عبدالغني برادر وجه طالبان 2021

كان أول الواصلين إلى كابول، والوجه الأبرز بين القيادات الطالبانية التي عادت مع عودة سيطرة الحركة على أفغانستان وسط انسحاب أميركي غربي مثير للجدل. أقل ما يقال عنه إنه تغيّر تاريخي أريد له أن يعيد تكوين المشهد في تلك البقعة المتوترة من بقاع العالم، ستكون له تداعياته الجيوسياسية الحتمية.

في الواقع لم يغب اسم الملا عبدالغني عن صدارة الأنباء منذ أن تم الإيقاع به وبطالبان كلها بعد الغزو الأميركي لأفغانستان، وفي مسيرة ستقوده إلى السجن، ثم ستقذف به مجددا إلى أروقة الدبلوماسية مفاوضًا يوقّع ما عُرف بـ”اتفاق الدوحة” قبالة الأميركيين، ذلك الاتفاق الذي أدى إلى مشهد شهر أغسطس الماضي الذي رآه الجميع.

تتعدّد الأقوال في برادر، فالبعض يعتبره في مرتبة ثانية بعد الملا هبة الله أخوند زاده، غير أن آخرين يرون فيه الزعيم الحقيقي للحركة. فهل قرّرت طالبان تغيير استراتيجيتها في التعامل مع العالم هذه المرّة؟

يعدّ برادر الذي ولد عام 1968 في قرية ويتماك بإقليم أوروزغان وسط قبيلة دوراني، التي ينتمي إليها الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي، أحد الأربعة المؤسسين لطالبان في مطلع التسعينات، وكانت له مكانته الكبيرة في زمن الملا محمد عمر. أما اسمه الحالي فليس هو اسمه الحقيقي، بل هو لقب أطلقه الأخير ويعني “الأخ”، وهو أيضا صهره وصديقه. وقد جمعته مع أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، علاقة وثيقة.

بحلول العام 1996 كان مشروع طالبان قد اكتمل، وتمكن الملا عمر وبرادر ورفاقهما من بسط سيطرة الحركة على عموم أفغانستان، بعد التخلص من جميع الحركات المناوئة.

قاتل ضد الجيش السوفييتي في صفوف المجاهدين الأفغان، وقاتل ضد الجيش الأميركي ومنذ تلك اللحظة وهو يعتبر القائد الميداني للحركة، ثم هرب إلى باكستان، إلى أن تم إلقاء القبض عليه في فبراير عام 2010، في مدينة كراتشي الباكستانية، بعد عملية عسكرية مشتركة بين القوات الأميركية والباكستانية ليساق إلى السجن.

برادر نفسه لم يكن يخطر بباله أن الأحداث ستنزلق إلى هذا المستوى، وهذا ما يعكسه تصريحه الأول بعد سقوط كابول، حين قال “لقد حققنا نصرًا لم يكن متوقعًا”

ثمانية أعوام قضاها برادر في السجن في باكستان. وبقيت أفغانستان تطالب به، مثلما كانت طالبان تفعل في جميع مفاوضاتها مع الأميركيين. حتى تقدم زلماي خليل زاد -المبعوث الأميركي إلى أفغانستان- لباكستان بطلب إطلاق سراحه، وكانت الفكرة حينها أن برادر هو الوحيد القادر على إيقاف العنف بفعل تأثيره الكبير داخل طالبان، ومن منزله في بيشاور الذي أحيط بسرية عالية انطلقت المباحثات الجادة لإرساء السلام.

من ذلك البيت تم إعلان تكليف برادر برئاسة المكتب السياسي لطالبان، عندها غادر باكستان ليتوجه إلى المفاوضات التي كانت تجرى في الدوحة، بدا حينها أن طالبان تعلّمت درسها، فكان انفتاح برادر على الرئيس كرزاي وشقيقه أحمد والي الذي اغتيل في يوليو 2011 أولى علامات ذلك التحوّل، لولا أن ذلك الانفتاح كان قبل القبض على برادر،
وهذا حسب تحليل البعض يؤشر على أن هناك من أراد إيقاف المسار السياسي ذاك.

لم يكن خليل زاد مخطئا؛ فبرادر كان يتمتع بنفوذ واسع داخل طالبان عسكريا وماليا، وبعد سيطرة طالبان تولى منصب نائب وزير الدفاع في وقت مبكر. وحين عاد من جديد لم يعد قائداً عسكرياً بل صار رجل سياسة يوقّع اتفاقات على أعلى المستويات. وفي عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقّع برادر بنفسه في فبرايرعام 2020 على وثيقة اتفاق الدوحة الذي نصّ على مغادرة القوات الأميركية لأفغانستان، شريطة أن تتشكل حكومة وطنية تقوم على تقاسم السلطة مع الرئيس الأفغاني أشرف غني، مع تعهد بتبادل 5 آلاف معتقل من طالبان مقابل ألف من عناصر الأمن الأفغان، وبرفع العقوبات ضد طالبان مقابل التزامها بعدم السماح للجماعات المتطرفة بأن تنشط على أرض أفغانستان. وسيصف ترامب هذا الاتفاق حينها بأنه “اتفاق رائع”.

وصول برادر إلى اللحظة الحالية لم يكن ليتحقق دون انتقاء أميركي دقيق، لم يختر الأميركان برادر بل اختاروا طالبان وحدها للجلوس إلى طاولة المفاوضات. ووسط ذهول العالم من صور الانسحاب الأميركي من كابول، وتساقط البشر من الطائرات والفوضى التي ضربت المكان، تسرّبت أنباء عن اجتماع سري جمع برادر مع وليام بيرنز مدير المخابرات المركزية الأميركية. سبقته ولحقت به تصريحات للمسؤولين الأميركيين عن أن التنسيق مع طالبان يجري بشكل دائم.

برادر الهادئ المبتسم، وجه جديد لطالبان. يصفه من التقوا به بأنه دبلوماسي وصامت، بارع في العمل في الظل، شديد الانضباط. وأكثر الأوصاف التي قالها عنه الإعلام الأميركي إثارة أنه “شخص تصعب قراءته”.

تقول عنه التقارير إنه هو الوحيد الذي تمكّن من قول شيء مختلف خلال المفاوضات؛ فبينما كانت الأصوات ترتفع في الحديث عن الضحايا من الجانبين، كان برادر “نادرا ما يرفع صوته”. لكن في النهاية عندما تصل الأمور إلى طرق مسدودة يمكن الاعتماد على برادر.

حتى ترامب نفسه أسهم في تصدير صورة برادر حين اتصل به هاتفياً في مارس عام 2020 وبقي الاثنان يتحدثان لمدة 35 دقيقة. كان ذلك تمهيدا للقاء سيجمع برادر بوزير الخارجية مايك بومبيو في الدوحة ليتلقط الاثنان الصور الودية المشتركة.

من السياسة إلى القوة
“واشنطن بوست” تعتبره الرئيس القادم لأفغانستان بينما يقول الروس إن برادر لن يكون إلا وزيرا للخارجية، كما كتبت “سبوتنيك”، في حين أعلن برادر أن نظاما سياسيا جديدا سيجري الكشف عنه قريبا، ولن يكون على النمط الديمقراطي الغربي

كان ذلك تحولاً جديرا بالرصد؛ لأن السياسي اللطيف الهادئ الذي وعد الأميركيين بعدم السيطرة على البلاد من جانب واحد لم يف بوعده، وسرعان ما انهارت سلطة الرئيس غني، ورأينا برادر في قندهار.

قندهار كانت رسالة سياسية أيضاً، لرمزيتها بالنسبة إلى طالبان، فهي المدينة التي ولدت فيها الحركة واختارتها لتكون عاصمة سياسية خلال فترة حكمها. وكأنه يقول “ها قد عدنا يا قندهار”.

تعتبره “واشنطن بوست” الرئيس القادم لأفغانستان بينما يقول الروس إنه لن يكون إلا وزيرا للخارجية، كما كتبت “سبوتنيك”، في حين أعلن برادر أن نظاما سياسيا جديدا سيجري الإعلان عنه قريبا، مستبعدا أن يكون على النمط الديمقراطي الغربي.

خلال الأيام الماضية قام برادر بإجراء محادثات مع قادة الحركة ومسؤولين حكوميين سابقين في كابول وعلماء دين. وذكر المتحدثون باسم طالبان أنه ستتم دعوة خبراء من الحكومة السابقة لإدارة الأزمة، فالإطار الجديد لحكم البلاد لن يكون ديمقراطيا بالتعريف الغربي، لكنه “سيحمي حقوق الجميع”.

ولا يعرف كيف سيكون نظام الحكم الجديد في أفغانستان تحت حكم طالبان بنسختها الجديدة. وهل ستعتمد من جديد على الجهادية السياسية، أم أنها ستتخذ من تجربة جارتها باكستان نموذجا؟ الأخطر من هذا وذاك إن ساورت طالبان فكرة الاقتداء بنموذج إيران وتصدير الثورة، حينها سيصبح العالم أمام ثورتين تسبحان في المحور الآسيوي شيعية وسنية، لا يعرف مدى التقاطع أو التداخل بينهما بشكل موثوق.

لكن ما يجعل من قراءة عقل برادر -التي يصفها الأميركيون بأنها تصعب عليهم كما سلف- أمرا ضروريا هو أن الرجل نفسه لم يكن يخطر بباله أن الأحداث ستنزلق إلى هذا المستوى، وهذا ما يعكسه تصريحه الأول بعد سقوط كابول حين قال “لقد حققنا نصرًا لم يكن متوقعًا”. وما دام النصر غير متوقع فإن الاستعداد للحكم أيضاً ليس بالضرورة أن يكون جاهزاً بهياكله وصيغه. لكن أهم ما في الأمر أن خطوطه الحمر باتت واضحة، لا ديمقراطية.

العرب