السلفادور أول دولة تعتمدها.. ماذا بعد تقنين البتكوين؟

السلفادور أول دولة تعتمدها.. ماذا بعد تقنين البتكوين؟

أثارت العملات المشفرة الكثير من الجدل منذ التعامل عليها، من حيث مدى قانونيتها، وكذلك إمكانية اعتمادها عملة لتسويات المعاملات المالية والاقتصادية على نطاق كبير، وراود الكثيرين حلم التخلص من سيطرة الدولار على مفاصل الاقتصاد العالمي، بعد ظهور العملات المشفرة.

وتنقل لنا شاشات التعامل على العملات المشفرة قيما متفاوتة ما بين ارتفاعات وانخفاضات، غير مفهومة أو مبررة، وفق قواعد ثابتة، إلا أن عملة “البتكوين” هي العملة الأشهر والأعلى قيمة من بين حزمة العملات المشفرة، بل إنها تستحوذ على نحو 70% من قيمة سوق العملات المشفرة.

ووفق تقديرات حديثة، تتجاوز الآن قيمة التعاملات السوقية على العملات المشفرة حاجز 2 تريليون دولار. ولكن ما زالت عملة البتكوين تمثل الثقل الكبير في هذه السوق، وهي تشهد تذبذبات عالية؛ ففي الفترة بين يناير/كانون الثاني وأبريل/نيسان 2021، كانت قيمة الوحدة من البتكوين تصل إلى 67 ألف دولار، ثم هبطت في يونيو/حزيران من العام نفسه لتزيد قليلا على 30 ألف دولار للوحدة، ثم مؤخرا أخذت اتجاها صعوديا، قبل أن تنخفض مجددا اليوم إلى 48 ألف دولار للوحدة، وعلى خطى بتكوين تنتظم أسعار باقي العملات المشفرة.

وتبذل البنوك المركزية -في أكثر من دولة- جهودا كبيرة للسيطرة على تعاملات العملات المشفرة، لتجنب استخدامها في عمليات غسل الأموال، فضلا عن الحفاظ على مقوم رئيس، وهو سيادة الدولة عبر إصدارها النقود. لذلك وجدنا العديد من الدول سمحت باستخدام هذه العملات في التعاملات المالية والاقتصادية، كما ذهب البعض الآخر إلى الشروع في إصدار عملات رقمية خاصة بكل دولة، ليكون الأمر تحت سيطرة السلطات النقدية بشكل أكبر.

السلفادور أول دولة اعتمدت البتكوين عملة قانونية (رويترز)
سبق السلفادور
إلا أن السلفادور في يونيو/حزيران 2021 فاجأت العالم باعتماد برلمانها للبتكوين عملة قانونية بالبلاد بجوار الدولار الأميركي، وغدا التاسع من سبتمبر/أيلول 2021، هو الموعد الذي تنتهي به مدة 3 أشهر حددها الدستور لاعتماد القانون الخاص بهذا الأمر، فماذا يمكن أن تجني السلفادور من هذه الخطوة، وما تأثيراتها على الصعيد العالمي؟

وإبان تصديق البرلمان على قانون اعتماد البتكوين عملة قانونية بالبلاد، صرح الرئيس نجيب بوكيلة وكبار المسئولين هناك بتصريحات شديدة التفاؤل، إذ قال الرئيس إن هذا القانون سوف يحقق للبلاد الاندماج المالي والاستثماري، والسياحة والابتكار والتنمية الاقتصادية، كما صرح مسؤول آخر بأن القانون سيجعل السلفادور محط أنظار العالم، وأن بلاده ستكون أكثر جذبًا للاستثمارات الأجنبية.

ويسمح القانون بأن تكون السلع والخدمات داخل البلاد مسعرة بالبتكوين، وأنه يمكن للمواطنين أن يدفعوا الضرائب المستحقة عليهم بالبتكوين، وأنه لا يمكن بحال من الأحوال رفض التعامل بالبتكوين، وبذلك اكتسبت البتكوين داخل السلفادور خصائص مهمة من خصائص النقود، كونها وسيلة للتبادل وأن لها قبولًا عامًا. وبالتالي، ستصبح مخزنا للقيمة، وإن كان ذلك مرتبطا بعوامل خارجة عن السيادة لدولة السلفادور، لأن قيمة البتكوين ستكون رهن التعاملات في السوق الدولية، وليس داخل نطاق الدولة.

المعلوم أن السلفادور دولة صغيرة، بلغ ناتجها المحلي الإجمالي 26.9 مليار دولار في عام 2019، وانخفض في 2020 إلى 24.6 مليار دولار، وذلك بسبب التداعيات السلبية لأزمة فيروس كورونا، كما حققت السلفادور معدلا للنمو الاقتصادي بلغ في 2019 نحو 2.64%، ولكن في 2020 تراجع معدل النمو ليكون سلبيا بنسبة 7.9% متأثرا بأزمة كورونا.

ولا يعد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في هذا البلد أكثر تميزا عن غيرها من البلاد النامية، حيث بلغ 4.1 آلاف دولار في 2019، و3.7 آلاف دولار في 2020.

هل سيتحقق الحلم؟
قد تكون السلفادور أول دولة اعتمدت البتكوين عملة قانونية، ولكن هل ستسير على خطاها دول أخرى، لنكون أمام واقع جديد في الاقتصاد العالمي، حتى وإن كانت هذه الخطوات من قبل صغيرة وغير مؤثرة في الاقتصاد العالمي؟

ثمة تجربة مشابهة لم تكلل بالنجاح، وإن كانت في شأن التجارة الدولية، ففي عام 1947، طرحت أميركا إنشاء منظمة التجارة الدولية ليكتمل مثلث المؤسسات الاقتصادية الدولية، ولكن لم يصدق على إنشاء هذه المنظمة سوى ليبريا وأستراليا، في حين لم تصدق عليها أميركا صاحبة الاقتراح وبذلك فشلت الفكرة، إلى أن أعادت أميركا إحياءها مرة أخرى نهاية عام 1994، ليتم إنشاء منظمة التجارة العالمية في يناير/كانون الثاني 1995.

والحقيقة، أن العملات تكتسب قوتها من قوة الاقتصاديات المصدرة لها، ومن هنا فالسلفادور ومن سيسير على خطاها لن يكون داعما كبيرا لعملة البتكوين، بسبب أن عملية الإصدار تتم خارج نطاق هذه الدول، فقد يكون ذلك ممكنا في حسابات دول قوية، مثل أميركا والصين، ولكنهما لا تزالان تتعاملان بحذر شديد تجاه هذه العملات، وترتبان أمر إصدار العملات الرقمية الخاصة بهما.

أما عن الأحلام المحلية للسلفادور، التي ترجو من هذه الخطوة نوعا من الازدهار الاقتصادي والإسهام في تخفيف حدة البطالة، فالأمر ليس كذلك، فعلى ضوء ما نشر عن مضمون القانون الخاص بتقنين البتكوين، ما قدرات السلفادور حتى تستطيع أن تجذب إليها المتعاملين في سوق البتكوين؟

إن التجارة الخارجية للسلفادور لا تزيد عن 15 مليار دولار سنويا فقط، منها 5 مليارات صادرات سلعية، ونحو 10.5 مليارات دولار واردات سلعية، أي أن العجز التجاري بها يصل لنحو 5.5 مليارات دولار، وهو ما يتنافى مع قدرة البلاد على جذب المتعاملين في البتكوين بالذهاب إلى السلفادور، إلا إذا كان الوضع عكس ما هو عليه في العلاقات الدولية التجارية للبلاد، بحيث تستطيع السلفادور أن تعكس المعادلة، ويكون لديها فائض مع العالم الخارجي.

فضلا عن أن البلاد تعد واحدة من الاقتصاديات الريعية، التي تمثل فيها تحويلات العاملين بالخارج نحو خُمس الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن استثمارات أجنبية مباشرة هزيلة بحدود 700 مليون دولار تقريبا، وذلك وفق بيانات البنك الدولي.

وثمة مشكلة أخرى ستواجهها السلفادور، وهي قدرة السوق على التعامل مع تذبذبات قيمة البتكوين، فكثير من المواطنين قد لا يفضل التعامل بالتكوين، وإن كان القانون قد وفر لها صفة الإلزام بقبولها، ولكن مصالح الناس ستكون عرضة لمزيد من المخاطر.

فكون السوق يقبل التعامل بعملتين، إحداهما تتمتع باستقرار نسبي كبير وهي الدولار الأميركي، والأخرى تفتقر إلى الاستقرار بشكل كبير وهي البتكوين، سيخلق العديد من المشكلات، كما سيفقد السوق في السلفادور واحدة من أهم خصائصه وهي انخفاض معدلات التضخم هناك، فعلى مدار 5 سنوات ماضية وصل أسوأ معدلات التضخم إلى 1.9% في عام 2018، ولكن في ظل تفعيل التعامل بالبتكوين عملة قانونية، يتوقع أن تشهد معدلات التضخم بالبلاد تذبذبات كبرى.

غسيل الأموال
سيفرض الواقع الجديد على السلفادور ضرورة وجود نظام رقابة صارم لمواجهة عمليات غسل الأموال، التي يمكن أن تتسرب إلى البلاد عبر القانون الجديد. فمن السهل في هذه الحالة، شراء العديد من الأصول، ثم بيعها وإخراج الحصيلة بالعملات الاعتيادية بشكل قانوني، ولكن قد تكون هذه العملات محدودة في بداية التعاملات، لخوض عصابات غسل الأموال التجربة الجديدة، ومدى نجاحها هناك.

التحدي لن يكون سهلا أمام الحكومة في السلفادور، وكذلك أمام الفاعلين في النشاط الاقتصادي هناك. وستبين التجربة العملية ونتائجها ما بعد ذلك، إما إمكانية تكرراها أو الانصراف عنها.

المصدر : الجزيرة