باغتني رحيل الصديق شفيق الغبرا، ليضع نهاية لكل أسئلتي وقلقي بشأن الموت ومباغتته والمرض الخبيث، وليبدأ معه تدفق الذكريات ومحطّات جمعتنا منذ العام 1976، حين رأيته أول مرة في بنت جبيل (في جنوب لبنان) بالزي العسكري، واحدا من قيادات “كتيبة الجرمق” (الكتيبة الطلابية سابقا)، وكان يحمل اسم “الأخ جهاد”. كنت أزور الجبهة والكتيبة، وكنت أعرف عنه كما أعرف الكثير من أسماء مناضلينا ومناضلاتنا، من غير أن أعرفهم شخصيا بالضرورة. وكنت أعرف زوجته تغريد، وألتقيها أسبوعيا في إطار تنظيمي، نناقش فيه قضايا سياسية، ونحضّر لمهام نضالية. أذكر أنه اصطحبني حينها إلى بعض مواقع المواجهة المباشرة مع الكيان الصهيوني، لكنه أصرّ على ألا نبالغ نظرا لأنني كنت حاملا، وعدم صوابية ما نفعله، فالقصف والاشتباكات يمكن أن يفاجئا الجميع في أي وقت. التقيته بعدها في بيت أم أحمد القرى أم الشهداء في مناسبات عدة. لم نتكلم كثيرا في شؤون النضال، فقد كنا نسمع عن بعضنا من خلال الأحداث في أثناء الحرب الأهلية، وأيضا المواجهات الأسطورية التي كانت تقودها كتيبة الجرمق على الشريط الحدودي الذي يفصل لبنان عن فلسطين المحتلة، بعدما اتخذت الكتيبة الطلابية قرار الانسحاب من جبل صنّين، إبّان مواجهاتها مع النظام السوري، والتوجه جنوبا على قاعدة تصويب كل البنادق نحو العدو الصهيوني.
أسّست الكتيبة قاعدة عسكرية هناك، وتمركزت في المواقع الحدودية، وانضمت إلى مجموعة التشكيلات العسكرية لحركة فتح، تحت مسمّى كتيبة الجرمق. وفي عام 1978، خاضت حربا شرسة ضد الجيش الإسرائيلي، وطردته من تلال قرية مارون الراس الحدودية، في عمليةٍ بطوليةٍ قلّ نظيرها، مقارنة بالإمكانات لدى طرفي الصراع العسكري. كانت معركة بطولية، شفيق الغبرا أحد أبطالها وقيادييها، ولفتت الأعين على الجانبين في ذلك الحين، لما أصاب التشكيلات العسكرية الفلسطينية، الفتحاوية خصوصا والفصائلية عموما، من وهن وترهل وتشويش، تسبّب به التورّط في الحرب الأهلية اللبنانية، على حساب الكفاح المسلح ضد الكيان الصهيوني. ولم يكن هذا هو السبب الوحيد لهذه الحالة، بل سبقه إقرار برنامج النقاط العشر في مؤتمر منظمة التحرير الفلسطينية العام 1974، وتسبّب بانقسام حركة التحرّر الوطني بكل فصائلها بين “جبهتي رفض وقبول” لهذا البرنامج، حتى من داخل حركة فتح نفسها، بوصفه الباب الذي فتحته القيادة الفلسطينية، بزعامة ياسر عرفات، على التفاوض ضمنا مع العدو، والذي دعا إلى إقامة الدولة الفلسطينية على أي شبرٍ يتم تحريره. وهو ما مهّد الطريق للمفاوضات مع الجانب الإسرائيلي لاحقا، وصولا إلى اتفاق أوسلو. وقد أدّى هذا في حينه إلى إضعاف التشكيلات العسكرية، إن بالتمويل أو بجدّية الكفاح المسلح الذي قرّرت خوضه “فتح” العام 1965، مع انطلاقتها (انطلاقة الثورة الفلسطينية) لتحرير فلسطين كل فلسطين. كنت من الرافضين، على صغر سني (16 عاما) لبرنامج النقاط العشر. وحين انتسبت إلى حركة فتح لاحقا، انضممت للتيار المعارض، ما سمي حينها جبهة الرفض داخل “فتح” نفسها، سيما ما سميت لاحقا “الكتيبة الطلابية” ثم “كتيبة الجرمق”. وكان شفيق الغبرا ضمن هذا التيار المقاوم الرافض، سيما أنه من صفد في الشمال الفلسطيني ومن الفلسطينيين المتضررين مباشرة، نحن أبناء نكبة 1948.
لم يكن يكلّ أو يملّ من خوض نضالاته الفكرية من أجل قضية فلسطين، ومن أجل قضايا الديمقراطية والتغيير والعدالة الاجتماعية
كان آخر لقاء لي، في تلك المرحلة، مع هذا المناضل في منزل أم أحمد بعد عملية مارون الراس، قبل أن يقرر ترك “الكتيبة” ولم أعرف حينها أسبابه، فنحن ممن كنا ننتمي لهذه المجموعة الرائدة التي اشتهرت باسم الكتيبة الطلابية، وقيل فيها الكثير عن تجربتها المتميزة، ولم تكن مقاربات عديدين منا وخياراتهم واحدة، بل متنوعة، وربما كان هذا ما أدّى، في ما بعد، إلى توقف التجربة نفسها بعد الاجتياح الإسرائيلي في 1982، من غير مراجعة نقدية جدّية شاملة وصادقة، لمعرفة الأسباب، وكانت شذرات هذا التوقف قد بدأت تظهر مع ميل عديدين من أعضاء هذه التجربة نحو الإسلام خيارا أيديولوجيا، تأثرا بتجربة الثورة الإسلامية في إيران. وهذا حديث يطول شرحه هنا، سيما أن التوجهات الإسلامية الجديدة أثارت استياء عديدين منا، نحن الذين حملنا أفكارا ماركسية لينينية وبالأغلب ماوية.
لم يشارك شفيق الغبرا في هذه الخضة الفكرية التي أنهت، في ما أرى، تجربة ما سميت الكتيبة الطلابية، تيارا فكريا وسياسيا، وليس عسكريا بحتا. تعلقت أسباب انسحابه بأفكار بدأت تراوده عن جدوى الكفاح المسلح وجدّيته من خلال التجربة التي عاشها، ليس في معارك الحرب الأهلية وسياساتها التي خاضتها الثورة الفلسطينية وبتورّطها فيها، بل أيضا بسلوكها غير الجدي وعلاقات سلطوية متفرّدة حكمت، أو بدأت بوادرها تظهر إلى السطح بعد التوجه جنوبا إلى الحدود، وخصوصا عند التخطيط لمعركة مارون الراس نفسها، حين بدأت ثقته تهتز بحركة فتح ونيات قيادتها، وبقيادة التيار الذي حمل اسم الكتيبة الطلابية، وليس قيادة الجرمق. عرفت هذا بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على انسحابه، حين اتصل بي، وكنت في مكتبي في تلفزيون دبي، أحضر لأحد برامجي عام 2010. بدأ حديثه بالسلام ثم بالقول: “أنت لا تعرفينني. أنا شفيق الغبرا. قرأت روايتك “حليب التين”، وأعجبتني كثيرا، فبحثت عنك، وحصلت على رقمك من دار الآداب التي نشرت روايتك. أظن أنك ابنة أحد شباب الكتيبة الطلابية، نظرا إلى بعض ما ورد في الرواية من أحداث وأسماء تتصل بالكتيبة”. وجدتني أقاطعه قائلة: “أولا أنا أعرفك جيدا. أنت أيضا تعرفني وزوجتك تغريد تعرفني وأعرفها”. فوجئ، ثم كانت صداقة استثنائية، خضنا فيها نقاشات مطولة ومعمقة، بالسكايب والهاتف والبريد الإلكتروني، وأخرى في مؤتمرات جمعتنا. وحين أخبرني بمرضه، ظننت أنه يمازحني، كانت معنوياته عالية، بل واصل التحدّث عن مشاريعه الكتابية والتعليمية الأكاديمية، وهو يخضع للعلاج من السرطان في واشنطن.
عاش وهو يسطر سيرة حياة نضالية، تنوّعت بين الكفاح المسلح والحضور الأكاديمي والسياسي والشخصي
عاش شفيق الغبرا، وهو يسطر سيرة حياة نضالية، تنوّعت بين الكفاح المسلح والحضور الأكاديمي والسياسي والشخصي. مثلت ثورات الربيع العربي عيدا بالنسبة له، وإثباتا أنه يسير على الطريق الصحيح فكرا وعملا ونمط حياة. كنت وإياه، إبان ثورة تونس، في مؤتمر في بيروت، دعتنا إليه دار الفكر العربي (هو من رشحني إليه، لأناقش دور الرواية في التغيير إثر صدور “حليب التين”). يومها واصلنا نقاشاتٍ خضناها معا عن النضالات السلمية، وكنا نتفق فيها على عدم جدوى الكفاح المسلح طريقا رئيسيا إلى تحرير فلسطين. ليس لأنه طريقٌ مكلف سيؤثر على صمود الفلسطينيين، وهم بغالبيتهم من اللاجئين الفقراء، بل لكونه (في رأيينا، شفيق وأنا) يكرّس قيادة السلطة الذكورية لمجتمع الأبوات الذي جاءت الرواية على ذكره. وأيضا لأن شفيق يرى الوسائل السلمية للمقاومة مكلفة للعدو أكثر من كلفتها على الشعب الفلسطيني الذي لا يملك الكثير مما يفعله غير إرادة المقاومة بأجساده العارية. كان يؤمن إيمانا قاطعا بدور المرأة الجذري بالتغيير، وهو ما كان يزاوله كتابة، وفي جامعة الكويت مع طالباته أستاذا للعلوم السياسية، وأيضا مع بنتيه وزوجته.
لم يكن يكلّ أو يملّ من خوض نضالاته الفكرية من أجل قضية فلسطين، ومن أجل قضايا الديمقراطية والتغيير والعدالة الاجتماعية في العالم العربي، وظلّ متفائلا بحتمية التغيير. وبأسلوب دمث، كان يخوض النقاشات، ويصغي بانتباه إلى الآخر المختلف، مهما بلغت درجة اختلافه معه بالرأي، فلم يكن صداميا. كان يفضل التعلّم من الآخر المختلف، حين تلفته زاوية نظر طرحها لم يفكّر بها أو يرها. كان حذرا من المبالغة في الاختلاف، لكنه كان أمينا دؤوبا على توجهاته اللاعنفية والسلمية والديمقراطية وقضايا المرأة، لا سيما حين يتعلق ذلك بالنقاشات مع الشابات والشبان. وكان يشتغل على مقالاته في الصحافة بالبحث والتنقيح. وكنت أعجب بعزيمته ونبله وصدقه، وأيضا بعيشه حياة صحية ومرحة في آن. ولذلك صدمت حين أخبرني أنه أصيب بالسرطان، واعتقدته يمزح، فقد اتصف نمط حياته ومرحه بإيجابيته في النظر إلى مختلف القضايا والمشكلات، العامة منها والخاصة، وبهدوئه الذي لم تعكّره يوما، أي مشكلة تواجهه أو افتراء. اتفقت معه على أن بعض الأفكار المتقدّمة تحتاج نضوج الوعي السياسي والوطني الفلسطيني، كي لا نسبق أوان الحلول، والتي كنا نؤمن أنها تحتاج ظروفا تراكمية تنضج مع الوقت، وتُقبل فيها حلول أقل عنفية وأكثر إنسانية على ضفتي الصراع. انسحب من الكتيبة الطلابية والنضال العسكري، لكنه لم ينسحب يوما من هموم شعبه الفلسطيني، ولم يضلّ الطريق إلى فلسطين إطلاقًا. كان شخصا استثنائيا، لم أعرف مثيلا له.
إذا كان شفيق الغبرا قد عاش ” حياة غير آمنة”، إلا أنها، على الرغم من خطورتها، لم تمنعه من الحياة.
سامية عيسى
العربي الجديد