بعد حصار استمر 75 يومًا، توصلت لجنةٌ تمثّل أهالي مدينة درعا البلد، مطلع أيلول/ سبتمبر 2021، إلى اتفاقٍ مع قوات النظام السوري، ينص على وقف قصف المدينة، وإنهاء الحصار المفروض عليها، وتسوية الوضع الأمني لسكانها الذين شاركوا في الثورة ضد النظام. وقد شارك الجانب الروسي في المفاوضات، باعتباره الوسيط والضامن للاتفاق، لكن الاتفاق لم يصمد مع ذلك سوى ثلاثة أيام، فقد عاد بعدها النظام إلى قصف المدينة، في ما بدا أنه يأتي ضمن استراتيجية لاحتلال المدينة، وفرض مزيد من الشروط على الأهالي ومقاتلي المعارضة الذين طالب بعضهم بتأمين طريق آمنة لهم للخروج إلى الأردن أو تركيا. ولم تعرب الدولتان عن استعداد لاستقبال لاجئين جدد.
خلفيات الأزمة
تحظى محافظة درعا، بما فيها منطقة درعا البلد التي تقع في قلب التصعيد الراهن، بأهمية كبرى، لقربها من حدود الأردن والجولان السوري المحتل. كما تحظى بمكانةٍ رمزية؛ باعتبارها مهد الثورة التي اندلعت ضد نظام بشار الأسد مطلع عام 2011. وقد تعرّضت مدن المحافظة وبلداتها المنتفضة، كسائر المناطق السورية، لحملاتٍ عسكرية، نتج منها دمار واسع وسقوط ضحايا. ومع تحوّل الانتفاضة من حالتها السلمية إلى المقاومة المسلحة المتشظية في مئات الفصائل، سقطت أجزاء كبيرة من المحافظة بيد فصائل المعارضة، خلال السنوات الأولى للثورة. لكن التدخل العسكري الروسي عام 2015 قلب موازين القوى بشدة لمصلحة النظام. وكانت درعا من مناطق خفض التصعيد الأربع التي نجحت موسكو منذ مايو/ أيار 2017 في فرضها لتجميد الصراع في سورية، وفق ترتيبات مسار أستانا الذي ضم إلى روسيا كلًا من تركيا وإيران. لكن الخطة الروسية لم تقتصر على تجميد الصراع، بل تضمنّت خطواتٍ لعزل المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام بعضها عن بعض، تمهيدًا للسيطرة عليها الواحدة تلو الأخرى. ونظرًا إلى متاخمة المنطقة للحدود مع إسرائيل والأردن، فقد استأثرت باهتمام أكبر لدى الولايات المتحدة الأميركية من بقية مناطق خفض التصعيد. وعمدت موسكو إلى الاستفادة من ذلك، لإقناع واشنطن برؤيتها لوضع ترتيباتٍ أمنيةٍ خاصة بها، لا تتضمن وصول قوات مرتبطة بإيران إلى الحدود. وتوصلت، على هامش قمة دول مجموعة العشرين في مدينة هامبورغ الألمانية في 7 تموز/ يوليو 2017، إلى اتفاقٍ مع واشنطن، وُضِعت تفاصيله بمشاركة الأردن، في اتفاقٍ لاحق في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وسمح بوقف القتال في المنطقة بين قوات النظام وفصائل المعارضة.
لم تكن مناطق خفض التصعيد سوى محاولة روسية، هدفها الاستفراد بمناطق المعارضة وتصفيتها، الواحدة تلو الأخرى
لم تكن مناطق خفض التصعيد سوى محاولة روسية، هدفها الاستفراد بمناطق المعارضة وتصفيتها، الواحدة تلو الأخرى، فقام النظام، في حزيران/ يونيو 2018، بتجريد حملة عسكرية، مدعومة روسيًا، للسيطرة على منطقة خفض التصعيد في جنوب غرب سورية، التي تشمل درعا، أو فرض اتفاقات استسلام على فصائل المعارضة الموجودة فيها، بعد أن نجح في فعل الشيء نفسه في منطقتي خفض التصعيد في الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي. لكن قرب المنطقة من الأردن وإسرائيل دفع من جديد في اتجاه توافق أميركي – روسي – أردني جديد، لم تكن إسرائيل بعيدة عنه.
ظهرت مؤشّرات على الاتفاق الروسي – الأميركي بشأن درعا في القمة التي عقدت، في 16 تموز/ يوليو 2018 في العاصمة الفنلندية هلسنكي، بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب. فقد تطرّق بوتين، في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع ترامب بعد القمة، إلى التصعيد العسكري الذي قامت به قوات النظام منذ منتصف حزيران/ يونيو 2018، بدعم روسي مباشر في جنوب سورية وجنوب غربها، ومكّنها من استعادة السيطرة على المناطق المحاذية للحدود مع الأردن وإسرائيل، وربطه بأمن إسرائيل، فاعتبر الرئيس الروسي أن هدف الحملة “توفير الأمن لدولة إسرائيل”، بناءً على اتفاقية عام 1974 التي فصلت بين القوات السورية والإسرائيلية في أعقاب حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. ورأى أن تحقيق ذلك سيكون بمنزلة خطوة نحو إقامة “سلام دائم” بين البلدين؛ امتثالًا لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، خاصة القرار رقم 338 (1973).
وكان واضحًا أن إدارة ترامب لا تعارض هذا الجهد الروسي؛ إذ أكّد الرئيس الأميركي أن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بالاستفادة من “الحملة الناجحة” التي قامت بها بلاده ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في سورية، عبر تمكينها من التمركز قرب الحدود مع إسرائيل. وشدّد على أن بلاده مستعدّة للعمل المشترك مع روسيا وإسرائيل لضمان أمن إسرائيل. وكان ترامب واضحًا في قوله إن “جيشَيْنا (الأميركي والروسي) متوافقان منذ سنوات على نحو أفضل من زعمائنا السياسيين. ونحن نتوافق أيضًا في سورية”. وقد حظي تركيز الزعيمين على أمن إسرائيل ومصالحها في السياق السوري بإشادة إسرائيلية؛ وجاء ذلك في بيان صادر عن رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها، بنيامين نتنياهو.
كُشف عن اتفاق روسي – إسرائيلي، بموافقة وحضور أميركي، مفاده إبعاد إيران ومليشياتها نحو ثمانين كيلومترًا عن حدود إسرائيل
ظهر توافق ترامب وبوتين حول سورية بوضوح على الأرض؛ إذ لم يلق الهجوم الواسع الذي شنَّته قوات النظام السوري بغطاء جوي روسي كثيف، ابتداء من 19 حزيران/ يونيو 2018، على منطقة الجنوب والجنوب الغربي من البلاد، أي معارضة أميركية؛ ما أدّى إلى إخراج قوات المعارضة منها. وكانت واشنطن قد مهّدت لموقفها هذا بإبلاغ فصائل المعارضة السورية، في منتصف حزيران/ يونيو 2018، أن لا تتوقع منها أن تتدخّل لحمايتها في الجنوب، في حال أقدمت قوات النظام على مهاجمتها؛ وذلك على الرغم من التحذير الذي كانت إدارة ترامب وجّهته، في أيار/ مايو 2018، إلى نظام الأسد؛ بأنها ستتخذ “إجراءات حازمة وملائمة” للحفاظ على “اتفاق خفض التصعيد” في الجنوب السوري، وتحديدًا في منطقة درعا على الحدود الأردنية.
وقد كُشف أيضًا عن اتفاق روسي – إسرائيلي، بموافقة وحضور أميركي، مفاده إبعاد إيران ومليشياتها نحو ثمانين كيلومترًا عن حدود إسرائيل. وفي المقابل، يُسمح للأسد باستعادة السيطرة على المنطقة الجنوبية على الحدود مع الأردن، وعلى المنطقة الجنوبية الغربية على الحدود مع إسرائيل. وقد لمَّح ترامب حينها إلى هذا الاتفاق، حينما قال: “الرئيس بوتين يساعد إسرائيل. لقد تحدث كلانا مع بيبي [نتنياهو]. وهما يريدان [بوتين ونتنياهو] القيام بأمور معيَّنة مع سورية تتعلق بسلامة إسرائيل”. وأضاف: “روسيا والولايات المتحدة ستعملان على نحو مشترك في هذا الصدد”، فضلًا عن قوله: “إن توفير الأمن لإسرائيل أمرٌ أودُّ أن أراه أنا وبوتين على نحو واضح جدًا”.
لم يؤد اتفاق 2018 إلى تطبيع الوضع بين النظام وأهالي درعا؛ ذلك أن الأهالي رفضوا المشاركة في الانتخابات الرئاسية التي أجراها النظام في مايو الماضي
في النتيجة، أعلنت الولايات المتحدة عن تخليها عن دعم فصائل الجنوب، وأوقفت تزويدها بأي مساعدات. وفوق ذلك، أغلقت غرفة العمليات التي أنشأتها في الأردن لدعم المعارضة السورية في الجنوب، وعُرفت باسم غرفة عمليات الموك (Military Operations Center, MOC) وتم التوصل على الأثر، بمشاركة روسية – أردنية، إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، تضمن تسليم قوات المعارضة أسلحتها الثقيلة والمتوسطة، وإجلاء المقاتلين والمدنيين الرافضين للتسوية إلى شمال غرب البلاد.
تجدد القتال
لم يؤد اتفاق 2018 إلى تطبيع الوضع بين النظام وأهالي درعا؛ ذلك أن الأهالي رفضوا المشاركة في الانتخابات الرئاسية التي أجراها النظام في أيار/ مايو 2021. وفي 25 حزيران/ يونيو 2021، أطلقت قوات النظام حملة عسكرية على درعا البلد، وفرضت حصارًا عليها، بعد رفض المعارضة تسليم السلاح الخفيف، باعتبار أن ذلك يخالف اتفاق 2018، الذي سمح للأهالي بالاحتفاظ بسلاحهم الفردي، وانضمام من يرغب من مقاتلي المعارضة إلى الفيلق الخامس الذي شكلته روسيا خصيصًا لضم مقاتلي المعارضة السابقين في مناطق المصالحات. وفي مطلع أيلول/ سبتمبر 2021، أي بعد قرابة شهرين من التصعيد العسكري على أحياء درعا البلد المحاصرة، توصل الطرفان إلى اتفاقٍ برعايةٍ روسيةٍ بهدف إنهاء التصعيد. وقد نص الاتفاق على رفع العلمين الروسي والسوري على المؤسسات العامة في المدينة، وإقامة أربع نقاط أمنية لقوات النظام بدرعا البلد، وانتشار قوات من الشرطة العسكرية الروسية في أحياء المدينة، وتسليم المعارضين الراغبين في البقاء في درعا أسلحتهم للروس، في حين يجري ترحيل من يرفض تسليم السلاح إلى مناطق المعارضة في شمال غرب البلاد. لم يصمد الاتفاق سوى ثلاثة أيام، بدءًا من موعد سريانه في 1 أيلول/ سبتمبر؛ فقد جدّدت قوات النظام قصفها المكثف على المدينة، بعد رفض لجنة المفاوضات التابعة للمعارضة شروطًا جديدة للنظام، تمثلت في تسليم كل السلاح الفردي الخفيف الموجود في المدينة، والسماح للنظام بإقامة تسع نقاط تفتيش أمنية بدلًا من أربع. إضافة إلى تفتيش المنازل، وتسليم مطلوبين أو ترحيلهم؛ وذلك خلافًا للاتفاق المبرم. وواصلت قوات النظام قصف أحياء المدينة.
روسيا تريد أن تستأثر وحدها بالنفوذ في هذه المنطقة الحساسة، في إطار تصوّرها لمنطقة عازلة على امتداد الحدود مع إسرائيل والأردن
تساؤلات عن الدور الروسي
خلافًا للعادة، لم تتدخل روسيا عسكريًا لمصلحة النظام لحسم أزمة درعا البلد، وإنما فضّلت أن تؤدي دور “الوسيط” بين النظام والمعارضة، رغم أنها تسعى في الحصيلة النهائية إلى تمكين النظام من استعادة السيطرة كليًا على المنطقة. ومع ذلك، أتاح عدم التدخل الروسي هامشًا لفصائل المعارضة التي تمكنت من السيطرة، في تموز/ يوليو 2021، على عدد من الحواجز العسكرية للنظام في محيط درعا البلد، وأسر عدد من عناصرها. ويعود الموقف الروسي الراهن إلى الرغبة في إبقاء المليشيات الإيرانية التي تشارك في الهجوم على درعا بعيدة عن منطقة الحدود مع الأردن وإسرائيل، وذلك بموجب تفاهماتها مع إسرائيل. فروسيا تريد أن تستأثر وحدها بالنفوذ في هذه المنطقة الحساسة، في إطار تصوّرها لمنطقة عازلة على امتداد الحدود مع إسرائيل والأردن، تكون السيطرة فيها للنظام السوري برعاية العسكريين الروس المشرفين على نشاط المعارضة المتصالحة، وليس مليشيات إيران وحزب الله. ويبدو أن موسكو تتجنّب التسبّب في أزمة نزوح كبيرة في هذه المنطقة إلى الأردن الذي ينشط حاليًا على المستوى الدولي لصالح إعادة تأهيل نظام الأسد، واستئناف العلاقات الاقتصادية معه، ومساعي إعادة اللاجئين على أمل الشروع في عملية إعادة إعمار بمشاركة عربية ودولية. وقد تجلت هذه المساعي في الزيارات التي قام بها الملك عبد الله الثاني إلى واشنطن وموسكو في الآونة الأخيرة، وكانت سورية محورًا رئيسًا في موضوعات النقاش فيها. وقد نجحت هذه الجهود في تحقيق اختراقٍ في الموقف الأميركي الذي أعفى الأردن ولبنان من تبعات خرق “قانون قيصر”، والسماح بنقل الغاز والكهرباء من مصر والأردن إلى لبنان عبر الأراضي السورية.
يشجع غياب موقف أميركي واضح مما يجري في درعا إيران ومليشياتها على الاستمرار في تنفيذ الحل الأمني للأزمة
ويبدو واضحًا أيضًا أن روسيا ترغب في البناء على توافقاتها الأخيرة مع واشنطن بشأن تمديد دخول المساعدات الإنسانية إلى شمال غربي سورية عبر معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا؛ وهذا لا يتحقّق إلا إذا استمرّت روسيا في التعاون لمنع حصول كارثة إنسانية جديدة في سورية. أخيرًا، فإن عدم وجود فصائل إسلامية متطرّفة أو تحمل أعلام تنظيم القاعدة أو ترتبط بـ”داعش” في درعا يصعّب على روسيا تبرير أي تدخل عسكري واسع لمصلحة النظام، على خلاف ما قامت به في مناطق أخرى.
خلاصة
لم يصمد اتفاق التسوية في درعا البلد سوى أيام قليلة؛ وذلك نظرًا إلى ميل النظام وحلفائه، من المليشيات الإيرانية المشاركة معه في حصار المدينة، إلى حسم الوضع بالقوة العسكرية. فهناك نزعات انتقامية واضحة تجاه المدينة التي أطلقت شرارة الثورة، ورغبة في معاقبة أهلها بإجبارهم على القبول بشروطٍ مذلّة أو ترحيلهم في حال رفضوا ذلك. وفي حين تستمر روسيا في مساعي التوصل إلى تسوية، لأسباب متصلة باستراتيجيتها العامة في سورية، بما في ذلك منع تمركز مليشيات إيرانية على الحدود مع الأردن وإسرائيل، حتى لا تتحوّل المنطقة إلى ساحة حرب إيرانية – إسرائيلية، يشجع غياب موقف أميركي واضح مما يجري في درعا إيران ومليشياتها على الاستمرار في تنفيذ الحل الأمني للأزمة، ومحاولة إيجاد موطئ قدم لها على الحدود مع إسرائيل، تمنحها أدوات ضغط وعناصر قوة إقليمية إضافية.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات