تزامن الانسحاب الأميركي من افغانستان مع قرب حلول الذكرى العشرين لأحداث 11 سبتمبر 2001 ، وكان ثمن الانسحاب (الكامل) تعهد حركة طالبان بألا تؤوي تنظيمات إرهابية، وعلى الأخص “القاعدة”، على الأراضي الأفغانية، وفقا لاتفاق وقّع في الدوحة. ولا يحسب المرء أن مراقبين دوليين يمكن أن ينتشروا في أفغانستان الشاسعة لرصد وجود هذه التنظيمات الإرهابية أو غيابها، أو أن تتيح المراقبة من الجو تحقيق هذا الهدف. علما أن صلات قربى أيديولوجية تجمع “طالبان” نفسها بـ”القاعدة” حتى تاريخه. والحال أن واشنطن نجحت خارج أفغانستان بتشكيل أوسع ائتلاف أمني دولي بمشاركة غالبية الدول لمطاردة “القاعدة” وتطويقها، كما نجحت في استقطاب التعاطف مع قرابة ثلاثة آلاف ضحية، نتيجة تفجيرات البرجين الكارثية، بينما كان الفشل من نصيب غزو أفغانستان، بل في قرار الغزو ذاته.
كان الهدف من الخطة الأميركية والأممية في مكافحة الإرهاب جعل العالم أكثر أمناً، وتفادي تكرار الحوادث المروّعة. وقد تم بالفعل إحباط عشرات المخطّطات الإرهابية، إلى جانب وقوع أعمال إرهابية متعدّدة، وبالذات في عواصم غربية. وشيئا فشيئا، تقلص خطر “القاعدة” على الرغم من استمرار أنشطة متفرّقة لها. وكان ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، المنبثق عن “القاعدة”، أحد أكبر أوجه الإخفاق، وبعد أن قطعت حملة مكافحة الإرهاب شوطا كبيرا. وقد أظهر البروز السريع والغامض لتنظيم داعش كيف أن هناك من يستغل حملة مكافحة الإرهاب لتحقيق أغراضٍ سياسية، ولصرف الأنظار عن أدوار بعينها، تؤدّيها بعض القوى والدول لتحقيق غاياتها، فقد أسفر بروز هذا التنظيم الإرهابي في العراق أولا عن عملية تغليب واحتكار للقوة وإعادة هندسة ديمغرافية في هذا البلد تحت مسمّى مكافحة الإرهاب.
كان من شأن حصر الارهاب بفئة بعينها أن انتشر رهاب الإسلام نظرا لديانة المجرمين
يستذكر المرء النقاشات التي ثارت عقب تفجيرات نيويورك، والتي دعا عديدون من أصحابها إلى وضع تعريف للإرهاب من أجل إضاءة الطريق، لكن هذه المطالبات ذهبت أدراج الرياح، إذ جرى التشبث بأن الإرهاب يعني، حصراً، أنشطة وممارسات لتنظيمات جهادية ومتطرّفة، تتمحور حول القاعدة ومن يشايعها. وشكّل ذلك أول خلخلة في المفاهيم، إذ تمت التضحية بالتعريف الكلاسيكي العام القائل إن الإرهاب هو “كل نشاط عسكري أو مسلح أو يلجأ إلى العنف ويهدّد به، ويستهدف المدنيين والمرافق المدنية لتحقيق غايات عسكرية أو سياسية”. وبطبيعة الحال، يشمل هذا التعريف “القاعدة” ابتداء وأولاً، لكنه يشمل كل ممارسة إرهابية أخرى، أيا كان مصدرها. وقد جاء حصر الخطر بتنظيم القاعدة، استجابة لدواعي معاقبة فريق بعينه هو من ارتكب تفجيرات نيويورك، فيما يعرف القاصي والداني أنه لا حدود للشرور الخطيرة ومصادرها في عالمنا، وأن العالم لم يكن آمنا ًقبل “القاعدة”، على الرغم من أن ظهور هذا التنظيم الإرهابي قد زاد من وتيرة المخاطر، ولكن من دون أن تنحصر المخاطر به.
لقد كان من شأن حصر الارهاب بفئة بعينها أن انتشر رهاب الإسلام نظرا لديانة المجرمين، ووقع مسلمون بلا عدد ضحايا هذه الفوبيا، ما مهّد لتضخم ظاهرة اليمين الشعبوي المتطرّف في الغرب، والذي يركز على المهاجرين عموماً، والمسلمين خصوصا. وفي تلك الأجواء، نجح دونالد ترامب في الوصول إلى البيت الأبيض مسنودا من نسخ حديثة من المحافظين الجدد، ومن فئاتٍ يمينية ودينية، وحيث لم يتوان هذا الرجل عن إغلاق أبواب الولايات المتحدة أمام مواطني عدد من الدول الإسلامية. كما ظهر شعبويون في بولندا وهنغاريا وإيطاليا ودول أخرى، ووصل بعضهم إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، بعد التحولات التي أصابت الرأي العام. هكذا أخذت مكافحة الإرهاب تنحو، في جانبٍ منها، نحو “مكافحة الإسلام والمسلمين”، على الرغم من أن الدول الإسلامية كانت الأسرع والأكثر تعاونا مع الولايات المتحدة في مجال مكافحة “القاعدة” وما شاكلها. وتتطلع الأنظار الآن إلى ما أعلنته واشنطن عن عزمها على كشف وثائق سبق أن صنّفت سرية بشأن التحقيقات المعمقة في التفجيرات، وقد رحبت دول، منها السعودية، بهذه الخطوة المزمعة، نظرا إلى أن عددا من مرتكبي تفجيرات البرجين ينتمون إليها.
يتم رفع يافطة مكافحة الإرهاب، لتسويغ ممارساتٍ إرهابية بحق مدنيين عُزّل
وفي هذا السياق، حصرت دول الخطر الإرهابي بأفراد وجماعات وتنظيمات من دون الدول، كما استثمرت حالة رهاب الإسلام والمسلمين، كي تتصرّف وفق ما يحلو لها. وقد شهدنا خلال العقدين الماضيين أحداثا مريعة، حيث انبرى بلد، مثل ميانمار، للتنكيل بمئات آلافٍ من المسلمين المعروفين بالروهينغا، وإحراق قراهم والعمل على استئصالهم. ووقفت، للحق، دول غربية ضد هذه الممارسات الإرهابية الشنيعة، بينما أيدتها دول أخرى مثل روسيا والصين. ورأينا في سورية حربا ضروسا على المدنيين، بما في ذلك إلقاء البراميل المتفجّرة على الأحياء السكنية واستخدام الأسلحة الكيميائية، ودفع نسبة كبيرة من المواطنين تقدر أعدادها بالملايين إلى التماس اللجوء خارج أوطانهم، وذلك كله تحت مسمّى مكافحة الإرهاب، وقد تم هذا الأمر برعاية إيران وروسيا ومشاركتهما النشطة، وبدعم دبلوماسي صيني. وشهدنا سحق المتظاهرين في إيران سنوات، وكذلك في العراق ولبنان على يد قوى تدّعي مشاركتها المجتمع الدولي في مكافحة الإرهاب. وواصلت إسرائيل حربها على قطاع غزة المحاصر والفتك بالمدنيين والمنشآت المدنية، بدعوى مكافحة الإرهاب، كما واصلت دولة الاحتلال انتهاكاتها الفظّة والخطيرة للمقدسات الإسلامية، وخصوصا المسجد الأقصى في القدس، وعلى أيدي مليشيات مسلّحة من المستوطنين، في وقت أصبح فيه التنكيل بالمسلمين موضة دولية سارية. وسنّت الهند، تحت قيادة حزب جاناتا، قوانين، وارتكبت انتهاكات واسعة بحق ملايين المسلمين فيها، وأجّجت صراعا دينيا لا تمويه فيه، ضاربة عرض الحائط بقيم المواطنة والحريات الدينية والتعدّدية السياسية والفكرية والتعايش بين المكونات العرقية والدينية التي اتّسمت بها الحياة في الهند عقودا.
وفي جميع هذه الحالات، يتم رفع يافطة مكافحة الإرهاب، لتسويغ ممارساتٍ إرهابية بحق مدنيين عُزّل. ولحسن الطالع والتدبير أن المفاهيم الفضفاضة والملتبسة لمكافحة الإرهاب والنزعة نحو شيطنة أتباع الدين الثاني في العالم قد أخذت تنحسر أخيرا، وبالذات مع صعود جو بايدن والديمقراطيين إلى البيت الأبيض في واشنطن، غير أن السجال لن يتوقف أمام محاولات حرف مكافحة الإرهاب عن أهدافها.