عكست التطورات الأخيرة في منطقة آسيا الوسطى وانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان العديد من المواقف والوقائع التي سعت الإدارة الأمريكية لتداركها والعمل على استعادة دورها الإقليمي والدولي في هذه المنطقة الحيوية من العالم بعد إحساسها بعمق التأثير الصيني والتحرك الذي تقوم به القيادة الصينية في رسم ملامح علاقتها المستقبلية مع دول آسيا الوسطى خاصة وأنها ابتدأت تحركها نحو الحكومة الانتقالية في أفغانستان وفتحت آفاق التعاون الاقتصادي وتنمية المشاريع الاستثمارية في العاصمة كابول وبعض ا لاقاليم الأفغانية وتحركت بشكل دبلوماسي ميداني باستضافة وزير خارجية الصين (وانغ بي ) لزعيم السياسي لحركة طالبان(عبد الغني بارادار) في مدينة تيانجين في تموز ٢٠٢١ والذي يشغل حاليا نائب رئيس الحكومية الأفغانية واتفق الجانبان على رؤية دقيقة في كيفية إعادة العلاقات مع الحركة بشكل طبيعي ومراعاة الجوانب الأمنية وتطور الحالة السياسية والاقتصادية في أفغانستان.
كان من نتائج هذا اللقاء أن قدمت الصين بتاريخ ٥ ايلول ٢٠٢١ مساعدات طيبة وغذائية بقيمة ٣١ مليون دولار للحكومة الجديدة في أفغانستان ولاثبات حسن النوايا من مسؤولي حركة طالبان للتوجه الصيني فقد أعلن المتحدث باسم الحركة )سهيل شاهين ) في العاشر من أيلول ٢٠٢١ أن مقاتلي الاويغور قد غادروا الأراضي الأفغانية ولم يتم منحهم أي وجود في أفغانستان ولقي هذا الموقف ترحيبا كبيرا من الصين لأنها ترى أن من أولويات سياستها واهتمامها الخارجي بامنها القومي هي متابعة حركة ونشاط مقاتلي الاويغور بعد أن كانت لهم معسكرات تدريبة ومقرات للتجنيد داخل أفغانستان .
هذه الانعطافات في تطور العلاقات بين الصين وحركة طالبان كانت مسرح لطبيعة العلاقات المستقبلية التي ترى فيها طالبان أن الصين أصبحت قوة عالمية وليست تجارية اقتصادية فقط ولديها التأثير العالمي والعمق الرئيسي في العلاقات الدولية مع بلدان العالم كونها أصبحت أحد أعضاء منظمة التجارة العالمية وهذا الوضع السياسي للصين يشكل مكسبا مهما في علاقة أفغانستان الحالية ومصدرا كبيرا لحركة طالبان في تدعيم موارد الاستثمار الداخلي والدفاع عن المواقف السياسية التي تتبناها الحركة من قبل الصين في المحافل الدولية وبالمقابل تسعى الصين إلى زيادة حجم التبادل التجاري مع أفغانستان الذي بلغ (٥٥٠) مليون دولار خلال عام ٢٠٢٠ ومراعاة التطورات الميدانية والعودة إلى تفعيل عملية استثمار منجم النحاس في منطقة(مس عينك) الأفغانية بقيمة أربع مليار دولار والذي سبق وأن وقع مع الحكومة الأفغانية عام ٢٠٠٨ وتوسيع دائرة التحالف الثلاثي بين ( الصين وباكستان وأفغانستان ) الذي اتفق عليه بجولته الرابعة في حزيران ٢٠٢١ ، وتعتمد الصين في تطوير علاقتها مع حكومة طالبان الحالية على المستجدات القائمة والاستعانة بعلاقة الحركة المتميزة مع باكستان لتحديد كيفية إدارة مستقبل التعاون الثلاثي بين هذه البلدان وتعزيزها وفق المتغيرات السياسية القادمة في منطقة آسيا الوسطى.
أمام هذه الوقائع الجديدة والتحركات الصينية دعى الرئيس الأمريكي جوبايدن إلى اجتماع موسع للتحالف الرباعي الأمني في ٢٥ أيلول ٢٠٢١ والذي يضم (الهند واستراليا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية ) بما يعرف بمنظمة (كواد) لمواجهة أبعاد السياسة الصينية الجديدة في منطقة آسيا الوسطى والمحيطين الهادي والهندي وتنفيذ آليات وأولويات الرئيس بايدن في التصدي للصين انسجاما مع البرنامج الانتخابي الذي أعلنه في بداية ترشحه للرئاسة الأمريكية وطبيعة السياسة الخارجية التي أعلن عنها في حينها والتي ترى في الصين خطرا على المصالح الحيوية الأمريكية وضرورة التصدي لها واعتبارها من الاهتمامات الرئيسية الإدارة الأمريكية، ثم اتبعها باستثماره لانعقاد مؤتمر الدول السبع الصناعية في لندن وعمل على توجيه الحاضرين بضرورة اتباع الوسائل الفعالة في مواجهة مبادرة (الحزام والطريق) الصينية التي تحدد استثمارات تجارية للصين في ٦٠ بلدا من العالم، وبغية احكام السيطرة وتطوير النفوذ الصيني وتحجيم النشاط التجاري والمالي لبكين اعلن عن التحالف الجديد بين (استراليا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ) الذي أطلق عليه إعلان(اوكوس) الذي دعم نتائج اجتماعات اللجنة الأمنية الرباعية في أمريكا وأكد على اعتبار منطقة المحيط الهادي والهندي مفتوحة للجميع وتنسيق المواقف السياسية تجاه الأوضاع الجديدة في أفغانستان ، وهذا ما أثار حفيظة الحكومة الصينية التي أعلن الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية فيها(تشاو ليبجيان) أن تحركات الولايات المتحدة الأمريكية تمثل (زمرة مغلقة وحصرية تستهدف الدول الأخرى وتسبح ضد تيار العصر وطموحات دول المنطقة ولن تجد من يدعمها ومألها للفشل ) .
نحن أمام تطورات وأحداث ميدانية تستهدفها منطقة حيوية واقتصادية من مناطق العالم الملتهبة وهناك العديد من الرؤى والأهداف الإستراتيجية لكل من واشنطن وحلفائها وبكين وشركائها وستكون الأيام القادمة حبلى بالعديد من المواقف والأحداث على مستوى العلاقة بين جميع البلدان المحيطة بمنطقة آسيا الوسطى.
وحدة الدراسات الدولية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية