كان المراقبون يعتقدون أن ضعف الاقتصاد وتهديدات توسع الدولة الإسلامية في قلب مربع الأزمات قد يحدّان من بعض الأدوات المتاحة لروسيا في التحرّك نحو الشرق الأوسط. ولكن، من غير المرجّح أبداً أن تتغيّر النظرة الشاملة لموسكو في استراتيجيتها إزاء سورية. وكما تورطت واشنطن وطهران في العراق، بعد سقوط نظام صدام حسين، لإكمال سحقه، فإن جميع الدول المتورطة في الأزمة السورية ساهمت في سحق سورية، في الرهان على بشار الأسد ونظامه. وكانت روسيا، وهي من أكثر المناطق انعزالاً في السابق عن مشهد أحداث الشرق الأوسط، قد غدت حيوية إزاء سورية خصوصاً، وقد أحبطت مساعي الدول الغربية وحلفائها الإقليميين في سياساتها لإطاحة الرئيس بشار الأسد، وأصيبت تلك المحاولات، مراراً، بالفشل، في حين تفاقم تهديد (الجهاديين) والمعارضين على الأرض، وكان آخرها نموذج متوّحش اسمه الدولة الإسلامية (داعش) الذي وقفت من ورائه قوى خفيّة سابقاً، ولم تعد مجهولة اليوم، امدّته بالمساعدات اللوجستية والحركة والتنقّل من أجل ازدهار الفوضى في العراق وسورية.
لمربع الأزمات الذي غدت الموصل قاعدة توسعية زواياه الأربع حيث تقع كل من الشماليتين بين بحر قزوين والبحر الأسود، وتقع كل من الجنوبيتين بين رأس الخليج العربي ورأس البحر الأحمر، وتجد اللاعبين الإقليميين الحقيقيين منقسمين إلى جناحين من دول عدة، وقد ازدهرت في الفوضى في توسع مربع الأزمات إلى دائرة كبرى لها، بدخول روسيا لاعباً أساسياً إلى جانب إيران وحلفائها، ومشاركة الولايات المتحدة الأميركية لاعباً أساسياً إلى جانب تركيا والسعودية وحلفائهما. ولقد ضعف دور كل من العراق وسورية، بحيث باتت أراضيهما مسرحاً للغرباء والمرتزقة من كلّ العالم. وإذا كانت سياسة بشار الأسد تعمل ضمن مخطط إيران، فإن سياسة العراق تقودها مجموعة هزلية لا تعرف لمن تكون، فهي موالية لإيران، خاضعة للإرادة الأميركية وهي مشتتة المواقف. وإذا كانت الولايات المتحدة قد أبرمت اتفاقاً مع إيران بمشاركة الأوروبيين، فإن الدور الأوروبي أشد وضوحاً من الدور الأميركي إزاء أزمات الشرق الأوسط، فكانت أوروبا، ولم تزل، تحمل هموم الشرق الأوسط أكثر من الولايات المتحدة التي بدأ الناس يتهمونها علناً بأنها وراء وجود داعش وتحركاته السريعة والمباغتة، جرّاء ردود الفعل الأميركية اللامبالية تجاه ما حدث في كل من العراق وسورية منذ أكثر من عام، وقد شهد العالم كيف حطمت سياسات الرئيس باراك أوباما سمعة بلاده (العظمى) في العالم، جرّاء اتفاقاته المبهمة مع حلفائه في المنطقة من طرف، وإزاء الاتفاقية التي وقعها مع الإيرانيين من طرف آخر، والتي أعتقد أنه ستنجم عنها تداعيات كبيرة، بل وربما مفاجآت جديدة، ومن أكبر الاحتمالات أن لإسرائيل دوراً فيها.
يشير بعضهم من المراقبين إلى أن ثمّ بنودا سريّة اتفّق عليها بين الأميركان والروس لما يمكن عمله إزاء الشرق الأوسط، ولا يمكن التكهّن إن كانت طهران طرفاً في ذلك أم لا. ولكن، يبدو أن روسيا وجدت في اندفاعها نحو السواحل والتراب السوريين تلبية لطموحاتها التي كانت تعمل من أجلها زمنا طويلاً، بربط قزوين، عبر البر الأذري الإيراني والكردستاني العراقي والسوري نحو سواحل المتوسط، سواء كانت التكاليف التي ستؤديها موسكو محدودة أم غير محدودة.
كيف تمّ ذلك؟ كانت الأحداث محسوسة لربط المنطقة كلّها في دوامة الصراع، ففي أوائل ديسمبر/كانون الأول الماضي، اشتبك مسلحون إسلاميون مع القوات الروسية في غروزني، ما أسفر عن مقتل 20 منهم، وأثار مخاوف الروس من العنف المستوحى والمخطط له من داعش في شمال القوقاز. وقد انخفضت أسعار النفط إلى 65 $، ما أثر تأثيراً مباشراً على الكرملين وخفض ميزانية الروس 35%/ إضافة إلى العقوبات الغربية على روسيا، جرّاء التدّخل في أوكرانيا، وقد تراجعت قيمة الروبل بشكل مخيف، وبدأ شبح شلّ الاقتصاد الروسي، فكانت روسيا بحاجة إلى استراتيجية من نوع آخر، تضمنّت التدّخل في سورية، لا لإنقاذ بشار الأسد، بل لإنقاذ نفسها أساساً.
بداية الأزمة، اعتقد المحللون الغربيون خطأ أن دعم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، النظام في سورية كان يدور حول الحفاظ على مصالح بلاده في سورية، من خلال وجود بحري صغير في طرطوس، رفقة سوق سلاح متواضع. ويُعتقد أن مثل هذه المصالح المادية هي، في الواقع، هامشية. إذ بدلا من ذلك، وجد بوتين من خلال رؤيته أن سورية ينبغي أن تكون، في المقام الأول، من خلال عدسة جيو استراتيجية ليقود الأزمة، ويلعب دوره دولياً على حساب تراخي السياسة الأميركية، وتنكيل تلك السياسة بحلفائها في المنطقة، والذين وقفوا سياسياً وإعلامياً ضد الأسد ونظام حكمه في سورية. ويبدو واضحاً أن التراخي الأميركي سبّب اتساع دائرة أزمات الشرق الأوسط، فالتراخي وجدناه في تدخلات إيران في العراق واليمن وسورية والبحرين علناً، وصولا إلى التراخي الأميركي إزاء سياسات بشعة لداعش، وانتهاء بالتراخي الأميركي إزاء التدخل الروسي في سورية، وهو التراخي الذي أحرج الأوروبيين في التعامل مع القضايا المعقدة في الشرق الأوسط.
وكان بوتين قد رسم خطاً في منع أية تغييرات أنظمة سياسية من خلال تحركات يقودها الغرب، تحت يافطة مبدأ الدفاع عن سيادة الدولة، غير أن هذا ينتفي، جملة وتفصيلاً، مع حركة التدخلات الأخيرة لروسيا في سورية. ويخشى محللون روس، وعلى نطاق واسع، من أن يكون الشرق الأوسط فخاً نصبته الولايات المتحدة للروس، لكي يغدو مستنقعاً، لا قبل للروس به، إن دام الصراع طويلاً، ويعبر بعضهم، على الأقل، عن تخوفه في الحفاظ على الذات: كما يخشى كثيرون من أن موسكو ربما تكون الهدف، في نهاية المطاف، باشتراكها في دائرة أزمات الشرق الأوسط، بعد أن فشلت في تحقيق مكاسب لها في أماكن أخرى، ومن ذلك العقوبات المفروضة عليها بسبب أوكرانيا.
كانت روسيا، ضمن العوامل الجيوستراتيجية، حريصة على أن لا تغضب دول الإقليم، وخصوصا الدول الخليجية، كما أنها أعادت بناء جسورها معها، فضلا عن أن روسيا كانت حريصة في الحفاظ على تجارة مزدهرة مع تركيا، على الرغم من الخلافات بشأن سورية. وكانت روسيا ترد على الاعتراضات الإسرائيلية بشأن التسلح الروسي لسورية، وأعتقد أن أوضاعها اليوم هي غير أحوالها قبل نحو أربع سنوات، إذ لم تكن سياسة روسيا في سورية مكلفة للغاية بالنسبة لموسكو. ولكن، في عام 2015، وجدت روسيا نفسها أمام ضعف في الاقتصاد، وفي مواجهة حقيقية إزاء التهديدات الداخلية لداعش التي قد تحد من بعض الأدوات المتاحة. وتعني أحداث التطورات الأخيرة، ببساطة، توسع دائرة أزمات الشرق الأوسط واتباع سياسة مكلفة. ومع ذلك، لا تزال غير مستعدة لتقديم تنازلات. الأيام المقبلة مليئة بالمفاجآت حتى بدايات العام 2016.