استقال المستشار النمساوي زباستيان كورتس مؤخرا بعد الاشتباه في كون أقارب له شاركوا في استغلال أموال عامة لتمويل نشر استطلاعات رأي وتغطية إعلامية تشيد بالزعيم السياسي في وسائل إعلام، كما صدر، نهاية الشهر الماضي، حكم بالسجن، مع التنفيذ، على الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، بقضية تمويل غير شرعي لحملته الانتخابية عام 2012، وفتح تحقيق في حق الرئيس التشيلي سيباستيان بينيرا، على خلفية بيع شركة تعدين من قبل مجموعة يملكها أبناؤه، وذلك بعد نشر الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين لما سمي بـ«وثائق باندورا».
تبدو الحالات الأخيرة المذكورة التي تم التحقيق فيها مع كبار المسؤولين وأدت إلى حبس أحدهم واستقالة آخر وفتح تحقيق مع الثالث في الدول الآنفة الذكر ضئيلة الوزن، نسبيا، حين مقارنتها بحدث هائل وخطير كالذي حصل في 4 آب/تموز 2020 والذي كان ذا قوة تدميرية هائلة، حيث تضررت 50 ألف وحدة سكنية، وبات 300 ألف شخص بلا مأوى، وقتل 204 أشخاص وجرح أكثر من 6500، وقدّرت الخسائر بقرابة 15 مليار دولار أمريكي.
القضاء، في الوقائع التي جرت في فرنسا والنمسا والتشيلي، هو الجهة الأولى التي لجأت إليها البلاد حين تم الاشتباه بدور مسؤولين كبار في قضايا جنائية أو إجراميّة، وقد كان للقضاة أدوار خطيرة الأثر في دول كثيرة أخرى في التصدّي للفساد السياسي، والتحقيق مع سياسيين كبار، والحكم على من يثبت عليه الجرم، وهذه الصلاحيات التي تميّز القضاء وتفصل بين السلطات، تفصل أيضا بين نوعين من النظم السياسية: الديمقراطية التي يمكن للجهات العامة، والناس أن يواجهوا الساسة عبر القضاء، والثانية، والدكتاتورية، التي تتمركز فيها السلطات كلها في يد فرد أو عائلة أو جماعة أو حزب، فيصبح القضاء مجرد ديكور لتزيين النظام، وأداة لقمع خصومه.
ينزع الساسة والمسؤولون، في البلدان التي تفصل السلطات فيها، عادة، إلى إعلان تحمّلهم مسؤولية المشاكل التي تضرب بلدانهم، فيستقيل من لا يستطيع تحمّل العبء الأخلاقي لثبوت تقصيره، أو تلجأ المعارضة إلى الضغط عليه للاستقالة، أما في لبنان، فسارع المسؤولون الكبار لتحميل المسؤولية للمسؤولين الصغار، فدعا الرئيس اللبناني «المجلس الأعلى للدفاع» لاجتماع الذي أصدر قرارات من بينها «تكليف لجنة تحقيق» وتعهد رئيس الوزراء حسان دياب «بمحاسبة المسؤولين».
ظهر توجه واضح بالنسبة لكثير من اللبنانيين يتهم الطبقة السياسية الحاكمة بالمسؤولة عن هذا الانفجار، وما لبثت تحقيقات استقصائية عديدة أن قدمت أسئلة عن كثير من الألغاز الاستخبارية والسياسية التي أحاطت بالشركة التي استأجرت السفينة التي أحضرت المواد الكيميائية، وعن إخراج كميات كبيرة من تلك المواد للاستخدام، وبدا، في ظل تموضعات القوة، والانحيازات السياسية الداخلية والخارجية، أن وجود تلك الشحنة الهائلة من نترات الأمونيوم كان أمرا مخططا له عسكريا، وأن أطرافا سياسية قامت بالتخزين وحماية وتصريف تلك المواد.
تمكنت المنظومة السياسية اللبنانية من إقصاء المحقق العدلي السابق، فادي صفوان، الذي استدعى رئيس الوزراء حسان دياب، وثلاثة وزراء سابقين، بينهم نائبان حاليان (علي حسن خليل، وغازي زعيتر) للتحقيق، وأصدر استنابات قضائية على شخصيات مالية سورية، اتهمت بشراء الشحنة، والواضح أن الأمور تتجه، بعد أن قام القاضي طارق بيطار باتخاذ خطوات مشابهة، إلى مجابهة بين القاضي المذكور، والمنظومة السياسية، التي تستخدم أدواتها الاعتيادية من ضغط على أجهزة القضاء، وتحشيد الشارع طائفيا، والتضليل الإعلامي، وهي، للأسف، لا تقصّر، حين يحتاج الأمر، إلى اللجوء للعنف المدبّر في الخفاء والاغتيالات، ولا يهمّ، في هذا الشأن، إن فقدت تلك المنظومة شرعيتها بين الأمم، أو وصل الانحطاط السياسي إلى نهاياته.
القدس العربي