بدأت تداعيات السنوات العشر الأخيرة التي شهدت فيها تونس مرحلة انتقالية بعد ثورة يناير 2011 تلقي بظلالها على الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد. وتعدّ الأزمة التي تعصف بالبلد المتوسطي نتيجة منتظرة لفشل سياسات الحكومات المتعاقبة تضاف إليها تداعيات جائحة كورونا، حيث دفعت هذه الأوضاع التونسيين إلى دائرة الفقر، فيما تبدو حكومة نجلاء بودن أمام تحدّ صعب يفرض عليها معالجة الأزمة الراهنة والالتزام بإصلاحات اقتصادية يفرضها المانحون الدوليون.
تونس – زادت ضبابية السياسات الحكومية في تونس من معدلات الفقر في البلاد، فيما حالت الصراعات السياسية والأزمة الاقتصادية الخانقة دون احتواء هذه الظاهرة التي توسّعت رقعتها بشكل مقلق قبل الجائحة وبعدها.
وكشف تقرير جديد للبنك الدولي أن أكثر من 600 ألف تونسي انحدروا تحت خط الفقر نتيجة مخلفات الجائحة، التي ضربت البلاد منذ مارس من العام الماضي، وراح ضحيتها أكثر من 25 ألف شخص.
وحسب تقديرات البنك الدولي لشهر يونيو الماضي، فإن الجائحة تسببت في ارتفاع نسبة الفقر من 15.5 في المئة إلى 21 في المئة من مجموع سكان تونس.
تحديات صعبة
يرى الخبراء أن استراتيجية البلاد في محاربة مختلف أوجه الفقر غير واضحة وتتسم بالضبابية فضلا عن تشتتها، ما ساهم في تفاقم معدلات الفقر.
كما تعتمد السياسات الحكومية خاصة على المساعدة المالية الظرفية ولا تستهدف أسباب الفقر الحقيقية، في الوقت الذي انخرطت فيه النخب الحاكمة في المعارك السياسية ولم تول اهتماما بالظاهرة أو تقدم حلولا واقعية لمعالجتها.
ورغم وضع العديد من البرامج وآخرها تخصيص ألف مليون دينار (قرابة 300 مليون دولار) بتمويل من البنك الدولي، لفائدة أكثر من 700 ألف عائلة، فما زال أكثر من مليونين و500 ألف تونسي يرزحون تحت خط الفقر.
تشكل مقاومة الفقر تحديا أمام حكومة نجلاء بودن الجديدة، حيث يترقب الشارع برنامج الحكومة ومدى قدرتها على تحسين أوضاعهم المعيشية، وعدم الاكتفاء بسياسة الوعود والمماطلة كما فعلت الحكومات السابقة.
وتفاقم الغضب من الركود الاقتصادي بسبب الوباء، حيث اندلعت احتجاجات اجتماعية تنديدا بتواصل البطالة وغلاء المعيشة وسط عجز حكومي تام في العام الماضي.
وعلى الرغم من إطلاق كل حكومة بمجرد تنصيبها وعودا بمحاربة الفقر، لا يبدي التونسيون ثقة في جدية الخطط الحكومية ويصنفونها في إطار التصريحات الشعبوية لإخماد غضب الشارع توجّسا من توسّع رقعة الاحتجاجات المناهضة لأدائها. في حين يلاحظ الخبراء أن اعتماد تونس على ذات المنوال التنموي الذي كان من أبرز أسباب ثورة يناير، من منابع الخلل الحقيقية.
وستشكل عودة الاحتجاجات بمثابة اختبار لحكومة بودن، التي ستجد نفسها بين مطرقة الضغوط الاجتماعية وسندان الإصلاحات الاقتصادية القاسية التي يطالب بها المانحون الدوليون.
ويريد المانحون من تونس أن تطلق سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية ذات مصداقية من المحتمل أن تشمل الدعم وكتلة رواتب القطاع العام والشركات المملوكة للدولة التي تتكبد خسائر، من أجل كبح العجز والديون، لكن الشارع سيتحمّل وحده وطأة هذه الإصلاحات التي يرفضها بشدة.
وأشار عبدالرحمن الخراط، رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية في حديثه لـ”العرب” أن “الحكومة غائبة تماما في الملفات الاجتماعية القاهرة مثل مسألة الهجرة غير النظامية، والفقر والتنمية وغيرها”.
وبين أنه سيقع تقييم الحكومة وفق برنامجها والخطوط العريضة التي ستقترحها.
وتابع بالقول “على ضوء برنامج الحكومة سنقيّمها ونتفاعل معها.. إذا اهتمت الحكومة بالبعد الاجتماعي سيتم تقييم أدائها بشكل إيجابي”.
صعوبات خانقة
لا يبدي خبراء الاقتصاد تفاؤلا بشأن قدرة حكومة بودن على مواجهة الفقر، حيث يواجه اقتصاد البلاد صعوبات حادة منذ 2011 ولم يتجاوز معدّل النمو الاقتصادي 0.6 في المئة خلال السنوات العشر الأخيرة. كما ارتفعت نسبة التضخم إلى 6 في المئة وزادت الأزمة الصحية من تفاقم الوضع في البلاد.
وأوضح الخبير الاقتصادي رضا شكندالي في حديثه لـ”العرب” أن “الناتج المحلي تراجع إلى أكثر من 9 في المئة في العام الماضي وبالتالي تراجع دخل الفرد، وانجر عن ذلك زيادة في عدد الفقراء”.
وفي تقديره فإن السياسات الحكومية تواجه العديد من الصعوبات والمشكلات، منها الفجوة المالية في علاقة بموازنة الدولة لبقية العام الجاري وإعداد موازنة العام القادم في ظل شحّ الموارد الخارجية.
وسبق أن حذّر البنك المركزي من أن تمويل عجز الموازنة ينطوي على مخاطر اقتصادية، بما في ذلك زيادة التضخم وانخفاض احتياطياته من النقد الأجنبي وتراجع قيمة العملة المحلية.
وفيما تعني مقاومة الفقر بالضرورة تحسين الدخل المتوسط للفرد، فإن شكندالي يرى أنها مهمة صعبة بالنسبة إلى الحكومة الجديدة، لأنها مقبلة على تمويل نفقات الدولة عبر التمويل المباشر من البنك المركزي وهذا سيؤدي بدوره إلى تضخم مالي، وتوقع الشكندالي زيادة في الأسعار في الفترة القادمة.
واستنتج أن الحكومة ستواجه معضلة كبيرة وهي تنامي معدلات الفقر، إن لم تعتمد سياسات اقتصادية تحدّ من التضخم.
ويخلص الخبراء والمتابعون إلى أن السياسات الحكومية طيلة عقد من الزمن قادت إلى تفاقم الفقر والتفاوت الاجتماعي في البلاد.
ولاحظ هؤلاء أن التفاوت الاجتماعي في تونس أصبح يشهد تفاقما كبيرا، وذلك على مستوى كل القطاعات خاصة الحساسة منها مثل الصحة والتعليم، بينما ضاعف الوباء من متاعب الأسر التونسية وعمق متاعبهم المالية، ونجم عن الجائحة في نهاية المطاف ارتفاع في مؤشر الفقر وسط سياسات مالية فاشلة.
ونقلت وسائل إعلام محلية عن مرصد رقابة (حكومي) أن المديونية التي تخلق الثروة في بعض البلدان تخلق الفقر والبطالة والأزمات في تونس.
وأوضح المرصد في تقرير نشر السبت الماضي، أن وضع المديونية في البلاد من أسوأ الأوضاع على الإطلاق، لأسباب عديدة منها سوء التصرف وضعف الحوكمة، وهو ما يجلب لتونس التبعية والفقر عوض تطوير الإنتاج وخلق الثروة وغياب التخطيط وضعف الرقابة على إنجاز المشاريع.
وبرأيه فإن مشكلات هيكلية بنيوية كانت موجودة قبل الثورة، وزادت حدتها بعد ثورة يناير 2011 ولم تجد إرادة حقيقية ورؤية لإصلاحها من قبل الحكومات المتعاقبة.
واعتبر المرصد أن المشكلة ليست في اللجوء إلى الاقتراض في حدّ ذاته، حيث إن الاقتراض الخارجي أصبح، في العالم بأسره وخاصة الدول ذات الاقتصاد الضعيف، “شر لا بد منه” لتلبية احتياجات تمويل الاقتصاد، ولتعبئة التمويلات من أجل النهوض بالاستثمارات، في ظل غياب موارد ذاتية كافية، لكن المشكلة في توظيف تلك القروض تكمن في مدى تحقق المشاريع التي تمّ الاقتراض من أجلها.
العرب