ثمة أسباب للغضب التركي من التدخل العسكري الروسي الكبير، والذي يصل إلى حدّ احتلال سورية، إذا ما أخذنا بالاعتبار حجم هذا التدخل، وإقامة قاعدتين عسكريتين في طرطوس واللاذقية، ونقل كميات كبيرة من العتاد العسكري المتطور لنظام الأسد، أو ما تبقى منه، والذي يسيطر فقط على 18% من الأراضي السورية. وأول أسباب هذا الغضب قناعة أنقرة أنها نجحت في ترتيب العلاقات مع روسيا، بناء على المصالح المشتركة، وفي تحييد أو تنظيم الخلاف حول الثورة السورية وتداعياتها، وهو ما تبدّى في الزيارات المتبادلة لقيادتي البلدين، كما في التبادل الاقتصادي الكبير، وما يعرف بـ”مشروع السيل التركي لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية”، وتالياً اليونان، بعدما تمنّعت بلغاريا وبولندا عن ذلك.
هذا فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية، أما بشأن الدلالات السياسية للاحتلال العسكري لسورية المفيدة، حسب التعبير الإيراني الطائفي واللئيم، والذي تم تسويقه لموسكو أيضاً، فثمة قلق تركي كبير واقتناع بأضراره الفادحة على سورية المستقلة الموحدة، كما على الإقليم برمته.
تعتقد أنقرة أن الاحتلال العسكري الروسي لسورية، أو لأجزاء منها على الأقل، يموّه على جذر المشكلة في هذا البلد، المتمثل أصلاً بالنظام، وتصوير الثورة، أو ما يجري في هذا البلد منذ أربع سنوات، وكأنّه حرب على الإرهاب، وأسوا من ذلك محاولة تلميع النظام، أو إعادة إنتاجه واعتباره جزءاً فاعلاً ومركزياً في هذه الحرب، وليس منتج الإرهاب وحاضنه. ومن هنا قناعة تركيا أن هذا التدخل الاحتلالي سيطيل عمر الأزمة السورية، وسيؤخر أي حلّ سياسي واقعي وجدّي وفق إعلان جنيف الذي وافقت عليه موسكو، ثم تحايلت، طوال الوقت، لتجاوزه أو إفراغه من محتواه.
في السياق نفسه، تتوجس أنقرة من حديث الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن تحالف
الأقليات الداعم للنظام، أي للمرض في مواجهة العرض أو داعش، والذي يضم الحشد الشعبي، بتلويناته وأشكاله المختلفة، بما في ذلك الكردي، أي قوات الحماية الشعبية التي تعتبرها تركيا إرهابية، والتي لا تخفي رغبتها في إقامة كيان كردي ممتد ومتواصل على طول الحدود السورية التركية المشتركة، يعزل تركيا عن محيطها العربي والإسلامي، ويشجع أكرادها على المطالبة بالمثل، علماً أن هذا الأمر، أي إقحام الأكراد في تحالف الأقليات، يضرهم ويستغلّهم وقوداً في معركة يائسة وخاسرة للأقلية أمام الكتلة أو الأكثرية العربية الإسلامية في المنطقة.
في السياق الإقليمي، ترى أنقرة أن الاحتلال الروسي لسورية المتداخل مع احتلال إيراني مماثل يرسم صورة عن تحالف إيراني روسي، يأخذ في طريقه العراق الطائفي المفيد، وفق وجهة نظر طهران، أي حكومة المنطقة الخضراء المحمية أميركياً أيضاً، وهو ما يضفي سوريالية ما على المشهد الإقليمي المستجد المتضمن، في أحد أبعاده، تفاهماً روسياً إسرائيلياً على الخطوط الحمر، أو المصالح المشتركة في سورية، وهذا التحالف الجديد المندرج أيضاً ضمن الخطوط الحمر الأميركية المتعلقة بالنفط وأمن إسرائيل وحدود سايكس بيكو الشكلية ترى فيه أنقرة خطراً كبيراً على مصالحها في المنطقة، كما على علاقاتها التاريخية مع محيطها العربي الإسلامي، والذي عملت حكومة حزب العدالة والتنمية، طوال عقد تقريباً، على تقويتها وتمتينها في السياقات المختلفة السياسية الاقتصادية والاجتماعية.
كيف سترد تركيا على هذا التدخل الاحتلال في سورية؟ سترد تركيا على الخطوة الروسية المتغطرسة والفظّة في عدة سياقات سياسية اقتصادية عسكرية وأمنية، تشكل معاً حزمة استراتيجية قادرة على إفشال تلك الخطوة وهزيمتها، ولو بعد حين.
بدايةً، ومع التحذير الصريح لروسيا من فقدان صداقة تركيا، كما قال الرئيس رجب طيب أردوغان، وقدرة بلاده على الاستغناء عن الغاز الروسي، وتدبير بديل، ولو مرحلي، ما يضرّ أساساً بموسكو، خصوصاً أن مشروع تاناب لنقل الغاز الأذري إلى أوروبا عبر تركيا سيوفر الاكتفاء الذاتي للأخيرة، كما يكسر بالتأكيد احتكار موسكو سوق الغاز في القارة العجوز، ويضر بها وبمكاسبها الاستراتيجية، بعيداً عن ذهنية الصداقة والمنفعة العامة التي أرادتها أنقرة عبر استيراد الغاز الروسي، وحتى تسهيل وصوله إلى أوروبا عبر أراضيها.
استغلت أنقرة اختراق المقاتلات الروسية أجواءها، ليس فقط لتحذير موسكو، أو وضع خطوط
حمر لها بعدم التفكير في تكرار الأمر، وإنما أيضاً في وضع حلف الأطلسي أمام مسؤولياته، كون تركيا عضو أساسي فيه، اعتمد ويعتمد عليها الحلف في ملفات كثيرة، من أفغانستان إلى محاربة داعش والحدّ من تدفق اللاجئين إلى أوروبا. وبالتالي، لا بد من الالتزام بلائحته الداخلية، فيما يتعلق بمساعدة أحد أعضائه، إذا ما تعرض للخطر. وعلى الرغم من قلق أنقرة من سحب واشنطن وبرلين صواريخ الباتريوت من أراضيها، وفي توقيت حرج مريب، إلا أنها ستحاول الاستفادة من فكرة استنزاف روسيا في سورية، من دون أن تتحمّل وحدها الأعباء أو التبعات، على الرغم من إعلانها، صراحةً، أنها قادرة وحدها على الدفاع عن أمنها ومصالحها.
سياسياً؛ ستعمل تركيا كذلك على بلورة تحالف عربي إسلامي، يضم السعودية وقطر والأردن وباكستان، وربما دول عربية وإسلامية أخرى لمواجهة الخطوة الروسية، وفرض العزلة العربية والإسلامية ضد موسكو، والأهم تشكيل مظلة لحماية المعارضة السورية المقاتلة، وتحديداً جيش الفتح الذي كان أساساً نتاج تفاهم تركي سعودي، وتزويده بالأسلحة اللازمة للدفاع عن نفسه، كما عن المكتسبات التي حققتها، في الفترة الأخيرة، في الشمال والجنوب، خصوصاً مع ميل موسكو إلى استهدافه بشكل مباشر، ضمن الاستراتيجية التي اتبعها نظام الأسد في إجهاض أي معارضة سلمية، ثم عسكرية معتدلة، تكريساً لمعادلة الأسد أو داعش التي ما فتئ تحالف موسكو – طهران يروّجها.
توجس العاصمة التركية من واشنطن، وتحميلها مسؤولية وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه، لن يمنعها من التنسيق أو السعي إلى التنسيق مع الإدارة الأميركية الراغبة حتماً في استنزاف روسيا ومنعها من التفكير في تغيير الواقع الراهن الذي تدخلت موسكو، أساساً، للحفاظ عليه، ومنع سقوط الأسد، أو اقتحام المعارضة معقله في الساحل، غير أن الغطرسة قد تدفع بوتين إلى التفكير في كسر جدّي للمعادلة الحالية، وهو ما سترفضه واشنطن حتماً، وفاء لموقفها الأساس، القاضي بمنع سقوط النظام حالياً، والحفاظ على الوضع الراهن إلى أجل غير مسمّى.
عموماً، ستواجه أنقرة المغامرة الروسية بالعناد التركي المعروف، وستجتهد لإفشالها استراتيجياً وفق الأجندة السابقة، وستدافع عن مصالحها وقناعاتها ولو وحدها، غير أنها تبدو واثقة أن ثمة قوى عديدة، محلية إقليمية ودولية، ستقف إلى جانبها لإفشال مغامرة بوتين، وإجباره على الانصياع للحل السياسي الواقعي الوحيد المتاح، أي إعلان جنيف، حيث لا مكان للأسد وأركان نظامه في مستقبل سورية.