عن طائفية الدولة مرة عاشرة!

عن طائفية الدولة مرة عاشرة!

في ليلة يوم الثلاثاء المصادف 26 تشرين الأول 2021 هاجمت مجموعة تنتمي إلى داعش قرية الهواشة في قضاء المقدادية في محافظة ديالى، فجر اليوم التالي هاجمت الميليشيات قرية نهر الإمام القريبة منها تحت أنظار القوات العسكرية والأمنية الذين اكتفوا بالتفرج على عمليات الانتقام التي مارسها المهاجمون، إعدامات ميدانية، وإحراق للبيوت، وتجريف للبساتين، وأجبرت أكثر من 300 عائلة من سكان هذه القرية، على تركها والنجاة بأنفسهم!
وقد تحدث محافظ ديالى بعد يوم من الأحداث، عبر قناة الحرة، عما سماه بـ «فوضى» أعقبت الهجوم على الهواشة، وأن هذه «الفوضى» قد «أسفرت عن سقوط ضحايا في منطقة نهر الإمام»! ثم أكد عمليات النزوح من هذه القرية! باستثناء هذا التصريح، لم يصدر عن سلطات الدولة العراقية كافة، أي بيان رسمي حول الواقعة الثانية، واكتفت الجهات الرسمية بإصدار بيانات تنديد بالواقعة الأولى حصرا! فقد نشر رئيس الجمهورية يوم 26 تشرين الأول/ أكتوبر تغريدة ندد فيها بـ «الحادث الإرهابي الجبان» وضرورة انهاء فلول داعش في كل المنطقة، دون الإشارة إلى الجريمة «الإرهابية الجبانة» الثانية!
فيما نشر رئيس مجلس الوزراء تغريدة يوم 27 تشرين الثاني/ نوفمبر، جدد فيها تعهده بمطاردة الإرهابيين داخل العراق وخارجه، وأن «جريمة المقدادية» لن تمر دون قصاص، وأنهم «كلما أوغلوا في دماء الأبرياء نزداد إصرارا بأن ننهي أي أثر لهم في أرض الرافدين» ودون إشارة أيضا الى عمليات الانتقام التي مورست بعد هذا الهجوم!
ولم يصدر عن رئيس مجلس النواب السابق أي تصريح حتى اللحظة بشأن ما جرى، ربما لأن الرجل مشغول بمحاولات تسويق نفسه لولاية ثانية ولن يورط نفسه، بالتأكيد، بتصريحات تعوق هذا المسعى!
وقد نقلت وكالة الأنباء العراقية الرسمية يوم 26 تشرين الثاني/ أكتوبر عن شرطة محافظة ديالى، في بيان رسمي، خبر هجوم داعش على قرية الرشاد، ناحية المقدادية، ولم يشر البيان الرسمي مطلقا إلى الجريمة الثانية!
في السياق ذاته أصدرت قيادة العمليات المشتركة بيانا يوم 27 تشرين الأول/ أكتوبر، تحدثت فيه عن «اعتداء إرهابي على قرية الهواشة في المقدادية بمحافظة ديالى وسقوط جراء الاعتداء 11 شهيدا بينهم امرأة، وعدد من الجرحى» ولم تذكر، ولو تلميحا الجريمة الثانية!
يوم 28 تشرين الثاني/ أكتوبر أصدرت وزارة الداخلية أيضا، بيانا أشارت فيه عرضا إلى الجريمة الثانية، فقد جاء في البيان أن وزير الداخلية والوفد الرفيع المرافق له قد نقلوا «تعازي ومواساة رئيس مجلس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة مصطفى الكاظمي لهذه العوائل في قرية الرشاد وقرية نهر الإمام» مؤكداً ان «دماء الشهداء لن تذهب سدىً وسيتم إنزال أشد العقوبات بالمجرمين من عصابات داعش الإرهابية». وأشار وزير الداخلية، الى «فتح تحقيق شامل في الاعتداء الإرهابي». فعلى الرغم من الإشارة إلى جريمة نهر الامام، إلا ان الحديث عن «عصابات داعش الإرهابية» وحدها، والحديث عن «الاعتداء الارهابي» وليس عن «الحادثين الإرهابيين» فضح ازدواجية البيان!

الدولة الطائفية، والداعين لها، وحماتها، والمتواطئين معها، والساكتين عنها، كل هؤلاء في النهاية، سيقودون العراق إلى الخراب الحتمي

فيما تفنن الناطقون الرسميون المختلفون في محاولة إنكار الواقعة الثانية، أو التغطية عليها بكلام مضلّل! فقد أنكر المتحدث باسم العمليات المشتركة اللواء تحسين الخفاجي في اتصال هاتفي مع راديو سوا يوم 27 تشرين الثاني/ أكتوبر جريمة نهر الإمام، وقال بالحرف: «ما أشيع حول حدوث هجوم انتقامي غير صحيح»! وأن الأمر اقتصر على «ردة فعل من البعض» لم تسفر عن سقوط ضحايا! دون أن يشرح لنا السيد اللواء معنى «ردة الفعل من البعض» أولا؟ والأهم لماذا لم تمنعها قواته العسكرية والأمنية! ليكرر اللواء نفسه في اليوم التالي هذا النفي لوكالة الأنباء العراقية، ولكن زلة لسان فضحت المسكوت عنه حين تحدث عن «إيقاف الفتنة التي حاول تنظيم داعش الارهابي اثارتها»! ولم يعط السيد اللواء تفاصيل عن طبيعة هذه «الفتنة الطائفية»!
بعد أكثر من أسبوع على الجريمتين، استمرت سلطات الدولة بالتعتيم على الجريمة الثانية، فقد تحدث اللواء خالد المهنا الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية في لقاء له على قناة العهد يوم 2 تشرين الثاني/ نوفمبر، ردا على بعض المداخلات التي اتهمت القوات الأمنية بأنها كانت تتفرج على تنفيذ الجريمة الثانية، دون أن تحرك ساكنا بأنه، لم تكن هناك عمليات انتقام! وأن من نزحوا قسريا إنما تم ترحيلهم «بشكل مؤقت» لإجراء «صلح عشائري» وأنه «لا توجد أي مشكلة في هذا الإطار»!
في السياق نفسه تحدثت وزارة الهجرة والمهجرين، عبر موقعها على فيسبوك عن نزوح 227 عائلة من قرى نهر الإمام والميثاق والميثاق الثانية ولم تشر بطبيعة الحال،أسباب النزوح، واكتفت بالقول «اثر الأحداث الأخيرة التي شهدها قضاء المقدادية بمحافظة ديالى» وهو كلام يُشعر المتلقي بأن ثمة كارثة طبيعية قد وقعت في المنطقة تسببت في نزوحهم!
إن هذا الانكار المتعمد للجرائم ذات الطبيعة الطائفية، ومحاولة التغطية عليها، وعدم ملاحقتها او متابعتها، وعدها مجرد «ردود فعل طبيعية» لا تستدعي حتى الإدانة أو التنديد، وهذا التمييز المنهجي بين الجرائم على أساس هوية فاعلها وليس على أساس طبيعة الفعل نفسه، ثم السعي إلى تكريس المغالطة المنهجية التي يمارسها الجميع دولة ومجتمعا، من خلال التسويق لفكرة أن فضح هذه الجرائم ذات الطبيعة الطائفية، وفضح ممارسات الدولة الطائفية نفسها في التغطية عليها، هو استدعاءٌ للطائفية، هو مجرد تمويه آخر وتشويش علي الازمة الجوهرية ألا وهي ضلوع الدولة في هذه الجرائم وهو ضلوع من شأنه، في النهاية، أن يوسّع الانقسام المجتمعي الحاصل في العراق، ويعيد صناعة ظاهرة داعش مرة أخرى عبر ما أسميه بالتطويع الاجباري في داعش، وهو هنا ليس بسبب قناعة المجندين الإيديولوجية، بقدر ما هو الرغبة في استخدام داعش أداة للانتقام وشعورٌ بالغبن وعدم الانتماء.
قلنا في مقال سابق إن الدولة الطائفية، والداعين لها، وحماتها، والمتواطئين معها، والساكتين عنها، كل هؤلاء في النهاية، سيقودون العراق إلى الخراب الحتمي، وفي كل مناسبة دامية تتأكد هذه الحقيقة!

يحيى الكبيسي

القدس العربي